"فَلا تَغُرَّنَّكَ الدٌّنيا وَزِينَتُها وانظُر إلى فِعلِها في الأَهلِ والوَطَنِ
وانظُر إِلى مَن حَوَى الدُّنيا بِأَجمَعِها هَل رَاحَ مِنها بِغَيرِ الحَنطِ والكَفَنِ".
كانت تلك الأبيات بالذات، للإمام زين العابدين بن الحسين، تتردد في أذني وأنا أسير بين الشواهد، في طريقي لإنهاء تقرير صحفي حاولت خلاله العثور على مقبرة وسيلة خاتون، التي يحمل بيت الشعر في مصر اسمها -بيت الست وسيلة- وكان الوصف يشير إلى أنها ترقد بـ"قرافة المجاورين". لم أكن قد زرتها من قبل، لذا مثلت لي الرحلة أبعد من مجرد رحلة بحث عن قبر مفقود، وإنما حالة من الانبهار الشديد بكل تلك الشواهد العظيمة، و لم أكن أعلم أن مغامرة روحانية تنتظرني هناك، في تلك البقعة القريبة من مسجد الحسين، والأزهر الشريف.
صاحبتني في رحلتي الصحفية شيماء جلهوم، والتي تقطن بمنطقة الحسين، انطلقنا معاً بحثاً عن ضالتنا، لكننا في الطريق عثرنا على "عم عبد الفتاح" حارس المقابر، الذي راح يشير لنا في الطريق إلى مجموعة من الشواهد لمشايخ وقامات أزهرية، يتباين حالها، بين الفخامة والتواضع، والإتقان والإهمال، وفيما تحولت مقابر بعضهم إلى مزارات ومقامات، استوى بعضها الآخر بالأرض كأنها لم تكن في يوم من الأيام، وبين هذه وتلك الكثير من عجائب "المجاورين".
"يا خراشي!"
قبر بسيط بلا زخارف، ولا شيء أكثر من طبق فخاري فيه ماء، تشرب منه الطيور، ولوح رخامي كُتب عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ على رسول الله وآله وصحبه، رضي الله عن صاحب هذا المقام، الإمام الخراشي وعلى من بجواره من الصالحين يا رب العالمين"، هكذا بلا تواريخ ولا أي إشارة لمنصب الرجل، الذي كان أول من يتولى مشيخة الأزهر الشريف، ولا حتى اسمه بالكامل.
الرجل الذي لا تزال نساء مصر ورجالها يذكرون اسمه حتى اليوم حين تصيبهم صدمة، أو يذهلهم أمر فيهتفون "يا خراشي" اسمه بالكامل أبو عبد الله محمد بن جمال الدين عبد الله بن علي الخراشي المالكي، المولود (1010هـ -1601م والمتوفى 1101 هـ-1690م) كان معروفاً بنصرته للحق، وقوة كلمته، تحوّل اسمه إلى أيقونة، يستغيث به الناس كي ينصرهم وينجدهم من تعنّت الحكام والجباه، حتى ذاع صيته فوصل المغرب وأواسط إفريقيا، ألّف 200 كتاب، كان يعيرها ولا يبيعها، فضلاً عن علمه الواسع والغزير، وأخلاقه التي كانت مضرباً للمثل في الدماثة والكرم والحياء، رحت أتأمل قبره البسيط، الذي لا يزوره أحد تقريباً، لا يحدّه سور، ولا تزيّنه زخارف، ولا يفصله عن بقية المقابر المجاورة شيء، لكنه لا يزال يسقي الطيور ماء!
قبور عظماء بلا شواهد.. أسماء كُتبت بقلم رصاص!
ربما يكون قبر الشيخ الخراشي، على بساطته، أفضل حالاً من القبر الذي يجمع كلاً من الشيخ الإمام العلامة الخطيب شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى 977هـ ، والعلامة الشيخ عطية الأجهوري المتوفى عام 1190هـ، أما الأول، فهو صاحب السراج المنير، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، وشرح شواهد القطر، ومغني المحتاج، وغيرها، وأما الثاني فهو عطية الله بن عطية البرهاني الشافعي، صاحب الكوكبين النيرين في حل ألفاظ الجلالين، وحواشي الأجهوري الشهيرة في التهذيب وقصة المعراج، وغيرها.
توقفت طويلاً كي أدقق النظر في الكلمات التي تبرّع حارس المقبرة بكتابتها، مستخدماً "القلم الرصاص"، وبخط متواضع، مهتز، على جدار مجاور للقبر الذي يتخذ القبلة اتجاهاً، كُتب الاسمان، دون تاريخ ميلاد أو وفاة لأحدهما، وفيما راح عبد الفتاح يؤكد لنا أن هذا القبر بالذات غريب جداً، وأنه ككثير من مقابر العظماء وصل محطته الأخيرة بمحاولات حراس المقابر المتواضعة، كي يشيروا إلى أسماء أصحابها، ولو بالقلم الرصاص، رحت أفكر، ماذا لو طالت أعمال التطوير هذين الشيخين.. هل سينتبه عمال اللوادر إلى تلك اللوحة المتواضعة المكتوبة بالرصاص؟!
في موضع ليس ببعيد توقفت من جديد طويلاً أمام ذلك القبر للشيخ سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري الجمل، المتوفى 1204هـ، الصوفي الصالح، الذي أعرض عن الزواج، وارتدى في آخر أمره ملابس متقشفة من صوف، وعمامة أيضاً من صوف، واشتهر بالزهد والصلاح، كان حريصاً على زيارة المشايخ والأولياء، لكن الرجل الذي كان يحضر لأجله الطلبة كي يعلمهم المواهب والشمائل وصحيح البخاري، وتفسير الجلالين، لم يعد يعوده أحد، حيث يرقد، بلا شاهد يحمل اسمه حتى!
شيخ أزهر وولي بقبة خضراء أيضاً!
قبر متواضع، يحمل وشاحاً أخضر، وبطلاء أخضر دهنه أحدهم بإهمال، فسال على اللوحة الرخامية المتواضعة التي تحمل كتابة تقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا قبر العارف بالله تعالى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي، تولى مشيخة الأزهر الشريف سنة 1126 هـ، وانتقل إلى الرفيق الأعلى سنة 1137 هـ، وأخذ على الشيخ إبراهيم البرماوي، والشيخ الشبرامالسي -رضي الله تعالى عنهم أجمعين".
لفتني أنه الشيخ السادس من شيوخ الأزهر، والشيخ الأخير من المالكية الذي تولى مشيخة الأزهر، يتعامل معه زواره السريون على أنه "ولي من أولياء الله الصالحين" وليس شيخاً عادياً للأزهر، تأكدت من هذا حين سألت عم عبد الفتاح عمن وضع هذا الوشاح الأخضر فوق قبره هو بالذات، فأخبرني "المحبة سر.. محدش عارف".
الصوفي الفرنسي.. الشيخ روني
"هذا القبر بالذات يأتيه الزوار كثيراً من دولة فرنسا، ويطيلون الوقوف أمامه، هو مغلق معظم الوقت، لكنه يُفتح خصيصاً لأحباب الشيخ الفرنسي"، لم أفهم ما يقصده عم عبد الفتاح، فالبناية التي تحتفظ أبوابها ونوافذها الخشبية بحالتها الجيدة جداً، تبدو وكأنها بُنيت بالأمس، ولا تحمل لافتة تذكر، لم أكن لأعلم من يرقد بالداخل لولا أن أخبرني الحارس العارف، حول الرجل الذي قرأت عنه كثيراً دون أن أعلم أين يرقد.
في مقدمة كتابه "مراتب الوجود المتعددة" للشيخ عبد الواحد يحيى، يحكي الدكتور عبد الإله بن عرفة، في مقدمة الكتاب، عن الرجل الفرنسي روني جينو الذي وُلد في بلدة بلوا في فرنسا في 15 نوفمبر 1886م من أسرة فرنسية كاثوليكية، تعيش حياة اليسر والرخاء، وكان الطفل روني شعلة ذكاء، يتطلع إلى المعرفة بمعناها الصوفي، يتطلع إلى السماء، يريد أن يخترق الحجب، ويكشف القناع، حتى تعرّف في باريس على شمبرينو الذي اعتنق الإسلام، وصار عبد الحق، حتى اعتنق روني الإسلام، فصار اسمه الشيخ عبد الواحد يحيى بدوره عام 1912، وسافر إلى مصر عام 1930 بغرض قضاء عدة أشهر، لكنه عاش في حي الأزهر، متواضعاً، مستخفياً، لا يتصل بالأوروبيين، ولا ينغمس في حياة العامة، يدرس، ويؤلف، ويتعبّد، ويتصل بصلات متينة مع إمام الطريقة الحامدية الشاذلية، الشيخ سلامة الراضي، وقد كان الشيخ عبد الواحد قد فقد والده ووالدته وزوجته، فظل يعيش وحيداً، إلى أن تزوج ابنة الشيخ الصوفي محمد إبراهيم، وقد رزقه الله بابنتين هما خديجة وليلى، وولد، وُلد عقب وفاته بشهور أسمته أمه على اسم والده عبد الواحد، ولا تزال إلى الآن كتب الرجل ومقالات ومراسلاته تُدرس، فيما يأتي المريدون والمحبون من كل حدب وصوب لزيارة الشيخ الفرنسي الصوفي عبد الواحد.
عناية خاصة بالشرقاوي والسجيني!
ربما كان كل ما رأيت في كفة، وكانت أحوال كل من الشيوخ عبد الرؤوف السجيني، الشيخ الثامن للأزهر، ومحمد الحفني، الشيخ التاسع للأزهر، وعبد الله الشرقاوي، الشيخ الثاني عشر للأزهر، في كفة أخرى، حيث الكثير من العناية، وحتى بعض من المقتنيات لا تزال هناك، فالشيخ الشرقاوي مثلاً، له ضريح، وقبة خضراء، ولا يزال بعض من أدواته النحاسية محفوظة في كوة سرية داخل الحائط، حيث مدفنه، وأما الشيخ الحفني فإلى جانب قبته الخضراء، تتزين جدران المساحة المحيطة بقبره، والتي تحولت إلى مسجد يصلي فيه الناس، بصوره وأشعار قيلت فيه، وأما الشيخ السجيني فلا ينقطع زواره أبداً، من كل الجنسيات، هكذا يصلون إلى حيث يرقد ويلتقطون الصور معاً، بينما أنا من بعيد أتأمل الأحوال، بين تلك التي انقطعت، وتلك التي اتصلت، ولا أملك إلا أن أقول في كل منها سوى.. سبحان من له الدوام!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.