مدينة دون مشي هي مدينة بلا حياة أو بالأحرى هي مدينة ميتة.
وفقاً للدراسات العمرانية فإن الأولوية في استخدام الشوارع تقع في صالح المشاة أولاً، ثم لمستخدمي النقل العام ثانياً، ثم لمستخدمي السيارات الخاصة أخيراً، لكن الوضع في القاهرة إبان السنوات الثماني الأخيرة ازداد سوءاً، وانقلب على حاله، إما لظروف أمنية اعتبرت القاهرة فيها المشي خطراً على الدولة وتهديداً لها، خاصة في أماكن معينة ذات انطباع سيئ على ذاكرة الدولة، أو لاعتبارات عمرانية غير واعية بطبيعة الشوارع، حيث بدأت في تشييد عدد هائل من الطرق والكباري والمحاور، ما شكّل خطورة على حركة المشاة فيها.
حقنا في المشي
في منطقة مصر الجديدة التي أُسست على نظام عمراني مميز جعل من المشي فيها أولوية، والتنقل العام من خلال الترام الذي يربط شوارعها ببعض فيها ضروري، وبطبيعة الحال انتظمت الشوارع بشكل يجعل من المشي فيها نظاماً حياتياً وروتينياً لدى سكانها، فكثرت الأشجار مثلاً وخصصت أماكن للمشاة على جانبي الشوارع، بالإضافة إلى جعل الشارع نفسه الذي تسير فيه المركبات ملائماً لحركة العبور والمشاة. كل تلك العوامل جعلت من مدينة مصر الجديدة مدينة ذات بعد إنساني يتوافق مع العمران فيها.
لم يكن الحال وحده في مدن مثل مصر الجديدة فقط، فمنطقة وسط البلد شهدت منذ تأسيسها على يد الخديوي إسماعيل نفس النمط العمراني في المشي، حيث أتيح في شوارعها سهولة التنقل عبر الأرجل، من خلال الميادين الرئيسية والممرات ذات البوائك بجانب المحلات وأسفل العمارات المنشأة فيها، حيث أصبح وسط البلد وجهة دائمة ومتميزة لدى المتنزهين ومحبي المشي. لم تكن القاهرة في تاريخها بعيدة عن هذا المفهوم، بل كانت هناك أماكن مخصصة لمثل تلك النشاطات، مثل بركة الفيل ومنطقة الأزبكية والخليج المصري، حيث كان الناس يخرجون هناك للمشي والتنزه، وهي حالة صحية يجب أن تؤسس المدن عليها وتراعيها عمرانياً.
إن الفضاء العام في المدن الذي يعبر فيه الناس عن أنفسهم، سواء بالمشي أو التنزه، ضروري لإتمام المعادلة المعمارية، إذ يجب مراعاته عند تأسيس أي عمران لأي مدينة في أي عصر كان، تلك الفضاءات التي خلقتها المدن هي المساحة الفارغة التي يمثل بها الإنسان عن نفسه وإبداعه وتعدداته الثقافية والحضارية.
منذ أن أسست الفسطاط ثم المدن التي تلتها حتى تأسيس القاهرة لم تكن فكرة الميادين العامة والمساحات الفارغة فيها رئيسية لطبيعة عمران المدن العربية القديمة، لكن طبيعة التنقل بالدواب أو بالمشي كعاملين رئيسيين في التنقل هما المعيار الأول التي أسست عليه الشوارع، ما جعلها ذات بعد إنساني يتجاوب مع المرء في كل حالاته.
كيف تحولت مصر الجديدة؟
ترصد دراسة أعدها مركز ندى عن مصر الجديدة "المشاة والبنية الأساسية للتنقل"، التغيير العمراني الذي طرأ على منطقة مصر الجديدة، وأثر على حركة المشي والتنقل فيها. كان الهدف من هذا التغير العمراني هو خدمة العاصمة الإدارية بشبكة طرق ومحاور تصب في مصلحتها، من خلال التنقل السريع عبر المركبات الخاصة، لكن انعكس هذا بطبيعة الحال على حركة المشي والتنقل داخل المنطقة نفسها.
تذكر الدراسة على سبيل المثال أنه تمت توسعة شارع الأهرام ليصبح بعرض 30 متراً مخصصة للسيارات، وجزيرة وسطى بعرض 4 أمتار، بعد أن كانت 20 متراً مخصصة للسيارات، وجزيرة وسطى بعرض 14 متراً شاملة مسار ومحطات توقف الترام. بالإضافة أيضاً إلى توسعة شارع أبو بكر الصديق ليصبح بعرض 55 متراً مخصصة للسيارات، وجزيرة وسطى بعرض 4 أمتار فقط بعد أن كانت 29 متراً مخصصة للسيارات، وجزيرة وسطى بعرض 30 متراً شاملة مسار الترام ومحطات التوقف.
رصدت الدراسة كذلك إنشاء كوبري سفير (أعلى ميدان سفير)، وكوبري الحجاز (أعلى ميدان المحكمة بعد إلغائه)، وكوبري النزهة (أعلى كوبري الجلاء)، ثم توسعة شارع الحجاز فأصبح بعرض ست حارات مرورية لكل اتجاه بعد إزالة خط الترام منه.
تحولت تلك الشوارع إلى طرق ومحاور سريعة بشكل لم يعد يتوافق مع طبيعة المشاة فيها، أو التنقل عبر الأرجل، وأصبح يخدم بشكل رئيسي فكرة العبور السريع عبر السيارات الخاصة. فلم يعد بإمكان الناس عبور تلك الشوارع أو المشي عبرها، من خلال ما تم الاعتياد عليه في الحدائق على جانبي الطريق.
وسط البلد وقمع السلطة
في منطقة وسط البلد أصبح المشي يهدد السلامة الشخصية للفرد، بسبب التواجد الأمني المكثف داخلها، حيث يتم إيقاف المارة والمشاة لتفتيش هواتفهم ومساءلتهم أمنياً عن توجهاتهم السياسية وغيرها، لذا لم يعد الناس يفضلون فكرة الخروج أو المشي داخل شوارع وسط البلد. أما على الناحية العمرانية فإن ميدان التحرير لم يعد كما كان كنقطة فارغة تمثل متنفساً للمدينة، حيث أتاحت للثوار قبل ذلك الوقوف ضد السلطة في 2011، لذا فإن التغيير العمراني المعادي له من قبل الدولة كان جذرياً، حيث تم تحويل المنطقة الخضراء في المنتصف (ميدان التحرير) إلى ميدان مبلط برخام زلِق يصعب الوقوف عليه، فضلاً عن نقل كباش معبد الكرنك التي لا تتوافق مع تاريخ المكان، جعل كل هذا من المكان أكثر ضيقاً على المتنفس العام للمدينة، واكتمل ذلك كله بتواجد أمني دائم على مدار اليوم، كلهم يمنعون الناس من المشي أو التوقف حتى في تلك المنطقة التي أصبحت محظورة.
هذا ما تحدث عن ديفيد هارفي في كتابه مدن متمردة عن كيف أن الدولة المصرية بعد ثورة 25 يناير حاولت أن تجعل من ميدان التحرير مكاناً غير ملائم للتجمع والمظاهرات، من خلال إنشاء مرأب سيارات ضخم فيه، وهو جراج التحرير، قبالة المتحف المصري، وكذلك إنشاء بوابة حديدية- غير موجودة الآن- على أكبر شارع يؤدي إلى الميدان وهو شارع القصر العيني، لتجعل من ميدان التحرير مكاناً محصناً ضد أي اعتصامات شعبية فيه.
تقويض المشي
سعت الدولة في الفترة الأخيرة إلى تقويض المشي ضمن مناطق معينة، تكون فيها العين الأمنية والرقابية أكثر قرباً من المواطن، وفي إطار تحدده الدولة دون الخروج في مسار مخالف، فضلاً عن كونها فرصة استثمارية واقتصادية للدولة. تمثل هذا في مشاريع مثل ممشى أهل مصر، الذي أصبح فيه المشي مقنناً دون قيود أمنية، عكس ما يلقاه المواطن في منطقة مثل وسط البلد مثلاً، أما الجانب الاستثماري والعائد الاقتصادي فتجنيه الدولة من تأجير الأماكن بمبالغ باهظة، وتذاكر دخول للممشى نفسه.
بات شاطئ النيل ملكاً للدولة وليس للناس، يصعب المشي على جانبيه الآن، فيما تعمل الدولة في تلك السنوات الأخيرة على مشاريع معمارية لاستكمال ممشى أهل مصر بمحاذاة النيل في القاهرة، لجعله ملائماً لتوجهاتها الأمنية في السيطرة على المنافذ التي يلجأ إليها الناس.
في الجمهورية الجديدة لا مكان للمشاة
مع السياسة العمرانية الجديدة التي تعمل عليها الدولة الحالية، لا مكان للمشاة فيها، حيث عملت الدولة على توسيع الشوارع وتقليل المساحات الخضراء وإزالة عدد كبير من الأشجار التي يستظل بها المشاة، ويتمكنون من خلالها من اتقاء أشعة الشمس الحارة. لهذا الأمر بعد أمني حتى يسهل السيطرة على أي حركة ثورة أو جمعية داخل تلك الشوارع، وهو ما نراه بوضوح في تأسيس المدن الجديدة، حيث تمت مراعاة تأسيس شوارع ضخمة وواسعة ومستقيمة دون تعرجات، مع عدم وجود عوائق طبيعية تمنع السيطرة أو الملاحقة الأمنية. في القاهرة لم يعد هناك مكان للمشي بحرية، بل في سياق أمني وعمراني مستبد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.