إن مكة بلد حرام حرمها الله -تعالى- يوم أن خلق السماوات والأرض، وهي حرام حتى قيام الساعة؛ فهي بلد حرام من الأزل إلى الأبد.
وقد اختارها -تعالى- لتكون محل بيته العتيق الذي يعتبر أول بيت وُضع للبشرية يكون خالصاً للعبادة والطاعة، هو منارة الهدى، ومهبط البركات والرحمات على زواره وقاصديه.
هذا البيت الذي وضعت أسسه وقواعده الملائكة أو آدم ورفعه إبراهيم وولده إسماعيل بعد أن عفى أثره واندرس رسمه فما عاد يعرفه أحد، أو يقصده قاصد.
فلما ارتفعت القواعد وتم البنيان كان النداء من إبراهيم والتبليغ من الله -تعالى- للبشرية أن تقصد هذا البيت.
والحج هو قصد الشيء المعظَّم، وتجريد النفس له، وكثرة زيارته والاختلاف إليه، ثم سُمِّي قصد البيت حَجّاً.
فالنداء بالحج نداء قديم أزلي يستجيب له من أقبل على الله راغباً في ثوابه خائفاً من بطشه وعقابه.
وقد كان على رأس المستجيبين للنداء الأنبياء -عليهم السلام؛ قال عروة بن الزبير: "ما من نبي إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح.
ولقد حجه نوح، فلما كان من الأرض ما كان من الغرق أصاب البيت ما أصاب الأرض، وكان البيت ربوة حمراء، فبعث الله -تعالى- هوداً، فتشاغل بأمر قومه، حتى قبضه الله إليه، فلم يحجه حتى مات.
ثم بعث الله -تعالى- صالحاً فتشاغل بأمر قومه، فلم يحجه حتى مات.
فلما بوأ الله لإبراهيم حجه، لم يبق نبي بعده إلا حجه".
ولكن ابن كثير قد ذكر حجهما عليهما السلام.
وقد ذكر رسول الله رحلة نبي الله موسى إلى البيت الحرام، وكذا رحلة نبي الله يونس بن متى؛ فالأول قادم من مصر غرباً، والثاني قادم من العراق شرقاً، وهي رحلات غير مشهورة أو متداولة، لكن الرسول المصطفى أخبر بها وتم تسجيلها لتكون شاهدة على استجابة الأنبياء للنداء.
وإذا لم يبق من الأنبياء إلا عيسى ينتظر الجميع من أهل الأديان نزوله، فإن رسول الله قد أخبرنا كذلك بأنه سوف يحج أو يعتمر في آخر الزمان.
وما الحديث عن هذه الرحلات إلا لتأكيد أن طريق الأنبياء واحدة، وقبلتهم واحدة، ودينهم واحد، وأن مرسلهم ومبتعثهم واحد، هو الله جلَّ جلاله.
وأن هذا الركن تهواه الأفئدة، وتسعى إليه النفوس والفِطَر السليمة.
وقد حافظت قبائل العرب على اختلاف بطونها وتباعد مضاربها وأماكنها على مدى قرون طويلة على حج البيت العتيق، وإن كانوا خلطوا المناسك بطقوس شركية، وملأوا الكعبة بالأصنام المعبودة والمقدسة، ووصل بهم الحال أن يطوفوا بالبيت عرايا بتأويلات فاسدة، يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وبقي الأمر من اختلاط الباطل بالحق في أمور الحج حتى مبعث النبي المصطفى صلوات الله وتسليماته عليه.
وكان الرسول المصطفى يغتنم فرصة مواسم الحج ليعرض على العرب دعوته إلى التوحيد فمنهم من أنكر، ومنهم من قبل تلك الدعوة الجديدة؛ بل إن بيعتي العقبة الأولى والثانية بين النبي وأهل يثرب كانتا في موسم الحج.
ولم يُشرع الحج تلك العبادة الجماعية ويُفرض في الإسلام إلا بعد أن بدأت تظهر دولة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وتتضح معالمها وتبرز قوتها؛ فقد قيل: إنها فرضت سنة ست من الهجرة عام الحديبية، أي: بعد أن أصبح المسلمون ندّاً لقريش؛ فقد استكملت البنيان وشرع رسول الله في إرسال الرسل لملوك وأمراء الدول الكبرى المعروفة آنذاك.
وقيل: فرضت سنة تسع أو عشر من الهجرة.
وقد رجح العلماء أن الفرضية تمت في السنة التاسعة.
وهذا يعني أنها لم تفرض إلا بعد أن قوي المسلمون، وأصبح لهم شوكة، وهذه الشوكة لا تكون إلا بعد أن تم الاتحاد تحت راية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم، وأصبح الطريق للعمرة والحج آمنة، وأصبح النبي قادراً على تنقية شعائر الحج مما لحقها من وثنيات وأعمال منافية للآداب والأخلاق والشرائع.
فأرسل أولاً صديقه ووزيره أبا بكر الصديق "أميراً على الحج من سنة تسع؛ ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم".
فكانت تلك الحجة هي آخر حجة أتى فيها المشركون طقوسهم وشعائرهم المبتدعة؛ إذ لحق صهر النبي وابن عمه عليٌّ بأبي بكر لينادي في المشركين النداء المؤذن بانتهاء عصر الجاهلية وإلحادهم في الحرم، ويصور ابن إسحاق هذا المشهد العظيم المعلن لبدء صفحة جديدة في التاريخ يكون الحج خالصاً لأهل التوحيد من كل الأجناس فقال: "فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج، التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب ، فأذَّن في الناس بالذي أمره به رسول الله ﷺ، فقال: أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله ﷺ عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول الله ﷺ".
لم يبق بعد فعل علي بن أبي طالب إلا أن يحج النبي بالمؤمنين فنادى في الناس في السنة العاشرة أنه سوف يحج، فأقبل إلى المدينة من كل صوب وحدب بشر كثير ليعلموا المناسك المرضي عنها من الله ورسوله في تلك العبادة.
وبهذا قد اكتمل الدين واتضحت المعالم فلم يعد فيه زيادة لمستزيد، وبلغ الرسول رسالة ربه إلى الناس، وأشهد المؤمنين في هذا الجمع العظيم -الذي لم يجتمع مثله لسيد من سادات العرب أو ملك من ملوكها من قبل- على تأديته للرسالة وتبليغه إياه فشهدوا على ذلك، فأشهد ربه أنه قد بلَّغ ما عليه فلم يكتمهم شيئاً، وأرسل إشارات الرحيل من بين ظهرانيهم ولحوقه بالرفيق الأعلى، فكان الرحيل بعد ما يقارب من ثلاثة أشهر صلوات ربي وسلامه عليه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.