عيد الأضحى له خصوصيّته من بين سائر المواسم والأعياد، وقد أُوتِي هذه الخصوصيّة من وجوه وأسباب: فهو يوم النَّحر الذي يُضحى فيه بالذّبيح عبادة لله وزُلفى، وهو عاشر العشرة من ذي الحجّة؛ الأيّام المعلومات التي عظّمها الله فأقسم بها وأعلى شأنها ورفع ثواب العمل فيها؛ لأنها أيّامٌ نَسِيجُ وَحْدِها اجتمعت فيها كلّ العبادات من صلاة وحجّ وصوم وذِكر وصدقات وهو أمر لم يَتأَتَّ لأيّام أُخَرَ ومناسبات عدة.
يَقْوَى الشّعور بعظمة هذه الأيّام في يوم عرفة يوم الحجّ الأكبر حين يتوافد الحجّاج على جبل الرّحمة من غير زينة ولا مَخِيط مُلبّين ومتضرّعين ومتذلّلين بأجسادهم على الأرض وأرواحُهم سابحةً في الملكوت. ويتضاعف هذا الشّعور يوم العاشر من ذي الحجّة مع أداء صلاة العيد وشعيرة الأضحيّة ذات المقاصد والأبعاد.
وإذا كان الحجّاج، وهم ضيوف الرّحمن، قد حازوا قَصب السّبق وفازوا بمزيّة الزّمان والمكان في هذه الأيّام المعلومات، فإنّ عموم المسلمين ليسوا محرومين من بركاتها، فيتلقون نسماتها الروحانية التي تزخر بها، فتسري في قلوبهم بإخلاص النية وحزم العزم وتوجيه الهمم نحو الخير والتقوى.
إنّ ما يضفي على هذا العيد لمسةً خاصةً من الروحانية هو ترابطه الوثيق بالبلاء العظيم. إنّ العيد، هذا الوقت السعيد الذي نحتفل فيه، يحمل في طياته ذكرى البلاء العظيم الذي مرّ به سيدنا إبراهيم، الخليل، عليه السلام.
في تلك اللحظات العصيبة، اجتاز سيدنا إبراهيم تحدياتٍ شاقة، ولكنه انتصر بإيمانه الراسخ. هكذا، يكون العيد تذكاراً للعزيمة والثبات في وجه التحديات.
وإبراهيم الخليل أُمِر بذَبح ابنه اسماعيل الذي بلغ معه السَّعْي، أيْ شبَّ فأصبح ذا سَعْي ونَفْع لوالده. فلم يُطِعْ فقط ولم يَستجب فحسب، بل أسْلم هو وابنُه؛ أيْ انْقاد وخضع.
إن الانقياد والخضوع دَرجةٌ، أو دَرجات، فوق الطّاعة العاديّة والاستجابة المعهودة. وهذا الابتلاء الكُبّار الذي تعرّض له إبراهيم الخليل ونجح فيه نجاحاً يُعلّمنا درساً كبيراً في الحياة وهو أنّ العطاء يكون، دائم اً، في مستوى البلاء وأنّ المِنّة والرّضوان تكون كِفاءً للصّبر والامتحان. فما هو العطاء الذي أُوتِيَه إبراهيم الخليل عليه الصّلاة والسّلام؟ وما هي المِنّة والبركات التي فاز بها والأفضال؟
إن الابتلاءات تتنوع وتأخذ أشكال اً ومستويات مختلفة؛ فقد تتحمل النفس بعض الابتلاءات التي تأتي في صورة تحديات صغيرة تؤثر في الصحة والراحة والمال، فتقاومها وتتصدى لها. ولكنّ هذا الابتلاء قد يَعْظُم بل يتعاظم ويصبح ابتلاءً فوق الواقع وأكبر من المُستطاع حين يكون أمر اً بذبح الابن فَلْذةِ الكبد وزينةِ الدّنيا ومُتعة الرّوح!
ما هو العطاء الذي أُوتِيَه إبراهيم الخليل عليه الصّلاة والسّلام؟
الله تعالى لم يُنْقذ ابنه من الذّبح فقط ولم يَفْدِه بذِبْح عظيم فحسب؛ بل جعل اسمه خالد اً وذِكْره ساري اً في العالَمين تردِّده الحناجر والأكوان: فهو أبو الأنبياء من صُلبه خرجت الرّسل وإليه تَنتسب أديان التّوحيد واسمُه ورَسْمُه وسَعيُه وهَدْيُه وآثارُه وأخبارُه وبناؤه ومقامُه.
كلّ ذلك صار مرتبطاً بالحج إحدى قواعد الإسلام الكبرى. وارتبط ذكرُه ويَقينُه وصَبرُه وتَسليمُه بأكبر عيد وهو عيد الأضحى والحج وفي الصّلاة عماد الدِّين، يَذكُره الذّاكرون ويُعْلي قَدْرَه ومِقدارَه القُنَّتُ الرّاكعون.
هذا العيد الحج وهذا هو إبراهيم الخليل، أبو الأنبياء، حاضرٌ حضور اً جميلاً ومذكور ذكر اً كبير اً لأنّه كان أُمَّةً، أيْ اجتمعت فيه وَحْده من الخصال الكبيرة ما يجتمع في أمّة، وكان إمام اً ومعلِّم اً وأُسْوة وقُدْوة قانت اً لله حنيف اً ومؤمن اً وَحْده والنّاس مِن حَوله مُشركون.
المِنّةُ والعطاءُ، إذاً، تكون دائم اً كِفاءً للامتحان والبلاء. وهذه واحدة من معاني عيد الأضحى المبارك الذي يَعُودُنا كلَّ عام ناشر اً رحماته ومُجدِّد اً نَفحاته التي نُؤمِّل أنْ تُجدِّد في أرْواحنا ما بَلِيَ وأنْ تُحْيِي في نُفوسنا ما مات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.