صدم الأداء المتطور والموجع للمقاومة الفلسطينية في شمال الضفة الغربية، وفي جنين تحديداً القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل. وإن كانت إسرائيل قد راهنت على أن تسهم حملتها العسكرية المتواصلة في شمال الضفة، والتي أطلقت عليها "كاسر الأمواج"، والتي شرعت فيها قبل حوالي عامين، في تجفيف بيئة المقاومة في هذه البقعة الجغرافية، إلا أنها فوجئت بأن النتائج كانت عكسية تماماً.
فقد تبين لصناع القرار في تل أبيب أن حملات المداهمة اليومية التي ينفذها جيش الاحتلال في عمق مدن الضفة الغربية، وما تشمله من عمليات اغتيال واعتقال لقادة ومقاتلي تشكيلات المقاومة هناك، قد أججت الدافعية لدى هذه التشكيلات لتحسين أدائها العملياتي والقتالي وإسناده بإحداث تحول على أنماط مراكمة القوة العسكرية على صعيد تطوير وسائلها الهجومية والدفاعية؛ فضلاً عن إظهار قدرات فائقة في مجال قيادة وإدارة ساحات المواجهة والتحكم بها.
فقد سجل كبار ضباط قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال المسؤولة عن إدارة الجهد الحربي في الضفة الغربية أن العمليات التي ينفذها المقاومون الفلسطينية على الصعيد الدفاعي في مواجهة قوات الاحتلال المقتحمة، أو على الصعيد الهجومي من خلال العمليات التي تستهدف الجنود والمستوطنين باتت تتسم بقدر كبير من الجرأة.
فعلى الصعيد الدفاعي، لاحظ قادة جيش الاحتلال، كما ذكرت قناة "كان" التابعة لسلطة البث الإسرائيلية، أن مقاتلي المقاومة الفلسطينية لا يترددون في الاشتباك بشكل مباشر مع القوات المقتحمة، رغم أن ميزان القوة يميل لها بشكل جارف، مما قلص من قدرة هذه القوات على الوصول إلى أهدافها وجباية أثمان باهظة منها.
ومما فاقم الإحباط لدى القيادات الإسرائيلية أن تراجع قدرة جيش الاحتلال على تحقيق أهدافه من عمليات المداهمة لمدن شمال الضفة الغربية، يأتي على الرغم من أن القوات التي تستخدم في الاقتحامات تنتمي إلى الوحدات الخاصة وسرايا ألوية الصفوة في سلاح المشاة؛ وهي الوحدات والسرايا الأكثر أهلية لمواجهة مثل هذه السيناريوهات القتالية، والتي اكتسبت خبرة هائلة في مجال تنفيذ مثل هذه العمليات. فهذه الوحدات تضم: وحدة "المستعربين""دوفيديفان"، التابعة لسلاح "حرس الحدود"، والسرايا الخاصة التابعة للواءي "المظليين" و"جولاني"، فضلاً عن "وحدة مكافحة الإرهاب" التابعة لقيادة شرطة الاحتلال، والمعروفة بـ "يمام"، وغيرها من الوحدات.
وعلى الصعيد الهجومي، فقد لاحظ جيش الاحتلال أن مظاهر جرأة المقاومين تجسدت في تنفيذ عمليات إطلاق النار ضد أهداف جيش الاحتلال والمستوطنين من مسافة صفر، فضلاً عن أن المقاومين باتوا لا يترددون في ضرب أهداف تحظى بمستوى تأمين كبير، مثل عملية إطلاق النار التي نفذها عنصران من حركة حماس، في مستوطنة "عيلي" التي تقع شمال رام الله، والتي تُعد قلعة عسكرية، لاحتوائها على أحد أهم المعاهد العسكرية.
إلى جانب ذلك، فقد دلل أداء تشكيلات المقاومة على مستوى متطورة من قيادة المواجهات العسكرية وإدارتها والتحكم بها، كما عكس ذلك آليات توزيع المقاومين في الخطوط الدفاعية ودرجة التنسيق العالية بينهم، فضلاً عن وجود هيئات قيادة وتحكم قادرة على توجيه العمل المقاوم في جميع أرجاء مدينة جنين ومخيمها، فضلاً عن تحلي المقاومين بمستوى انضباط عالٍ في تنفيذ المهام العسكرية. وقد أسهم هذا الواقع في تشتيت الجهد الحربي لقوات الاحتلال مما أفضى إلى تقليص حجم النتائج التي تحققها القوات المقتحمة.
ومما لا شك فيه أن أبرز تطور حدث على أداء المقاومة في الضفة الغربية تمثل في مراكمة القوة العسكرية، لا سيما في كل ما يتعلق بتطوير العبوات الناسفة الجانبية، التي باتت تحدياً كبيراً لمدرعات وعربات الجند الأكثر تحصينا التي يستخدمها جيش الاحتلال. وقد بلغت هذه العبوات من القوة والإحكام ما جعلها تلحق دماراً كبيراً بناقلة جند مصفحة طوّرتها الصناعات العسكرية الإسرائيلية لتوفير أكبر مستوى من الأمان الشخصي لعناصر الوحدات الخاصة المقتحمة للمدن الفلسطينية. وأدى تفجير إحدى هذه العبوات إلى تدمير عربة مصفحة كانت تقل عناصر من قوات "المستعربين" الذين يشاركون في تنفيذ عمليات الاغتيال في عمق الأراضي الفلسطينية، وهو ما استدعى جيش الاحتلال لاستقدام مروحيات لاستهداف محيط المكان الذي وجدت فيه هذه العربة لتحسين فرص إنقاذ الجنود، حيث إنها المرة الأولى التي يستخدم فيها جيش الاحتلال مروحية عسكرية في عملياته داخل الضفة الغربية منذ 20 عاماً.
في الوقت ذاته، حدث تطور كبير على صعيد الخلفيات التنظيمية للعمل المقاوم، لا سيما في ظل دخول حركة حماس بقوة على خط عمليات إطلاق النار، كما حدث في عملية "عيلي"، التي نفذها مقاتلان من الحركة. مع العلم أن مقاومين محسوبين على الحركة نفذوا مؤخراً عدداً من عمليات إطلاق النار التي جبت أثماناً باهظة من جنود الاحتلال ومستوطنيه.
ويعد هذا تطوراً بالغ الخطورة بالنسبة لجيش الاحتلال، الذي تباهى بقدرته في تجفيف بيئة المقاومة المنظمة في أرجاء الضفة الغربية عبر اعتماد استراتيجية "جز العشب"، الهادفة إلى تقليص قدرة حركات المقاومة على تدشين بنى تنظيمية لها في مدن وبلدات ومخيمات اللاجئين في أرجاء الضفة الغربية عبر التوسع في شن حملات الاعتقال. إلى جانب ذلك فقد عمدت إسرائيل إلى استهداف المؤسسات الإعلامية والاجتماعية والخيرية التي تشكل رديفا للعمل المقاوم المنظم في الضفة الغربية وصادرت ودائعها واتخذت الكثير من الإجراءات الإدارية لمنع بروز بدائل لها بهدف تجفيف الموارد التي يمكن أن توظفها في إسناد العمل المقاوم.
وتنطلق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من افتراض مفاده أن قيادتي حركة حماس في الخارج وغزة تلعبان دوراً رئيساً في توجيه عمليات المقاومة في أرجاء الضفة الغربية، وأن الحركة قد اتخذت قراراً استراتيجياً بتجنيد كل الموارد اللازمة لتصعيد العمل المقاوم.
لكن لا يمكن حصر مكونات البيئة المحفزة للعمل المقاوم في الضفة الغربية في أداء تشكيلات المقاومة، بل إن الاعتداءات الواسعة التي ينفذها المستوطنون اليهود وتنظيماتهم الإرهابية تلعب أيضاً دوراً في زيادة الدافعية لدى الشباب الفلسطيني لتنفيذ عمليات للرد على هذه الاعتداءات، التي تتم بدعم وحماية جيش الاحتلال.
لقد تبين لإسرائيل مرة أخرى أن رهانها على القوة العسكرية العارية لن ينجح في كسر إرادة الشعب الفلسطيني ودفعه للتراجع عن حقه في مقاومة الاحتلال بكل ما أوتي من قوة. فكلما هدأت وتيرة عمليات المقاومة في الضفة الغربية وتنفست إسرائيل الصعداء حتى فوجئت بضربات جديدة للمقاومة تطيح بحساباتها.
لكن لا يوجد ما يدلل على أن إسرائيل، وتحديداً في ظل الحكومة الأكثر تطرفاً وهذياناً في تاريخها، يمكن أن تستخلص العبر المطلوبة، وتحدث تحولاً على سلوكها وتغير سياساتها، بل على العكس تماماً. وهذا ما سيجعل المواجهة الحالية مقدمة لمنازلات كبيرة بين المقاومة وآخر كيان استيطاني احتلالي على وجه الأرض.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.