على الرغم من بشاعة الكارثة، فإن واقعة غرق السفينة التي كان تقل نحو 750 مهاجراً -منهم 500 رجل وامرأة وطفل لا يزالون في عداد المفقودين- قبالة سواحل بيلوس اليونانية الأسبوع الماضي لم تكن إلا حادثاً آخر من الحوادث التي صار من المألوف وقوعها في مياه البحر المتوسط.
فحوادث الغرق الجماعي للاجئين المحمولين على القوارب المكتظة من ليبيا وتونس ومصر أصبحت من الشيوع بمكان، بحيث أن هذا البحر بات حريَّاً بأن يجرّد من لقبه القديم "مهد الحضارة".
لقد غرق أكثر من 1200 شخص في البحر المتوسط العام الماضي، وما يقرب من 25 ألف شخص منذ عام 2014؛ لقد صار جديراً بأن يُعرف باسم "البحر القاسي".
لكن هذه القسوة وهذه المآسي ليست من صنع البحر، بل هي مما جنته أيدي الإنسان.
ففي جنوب البحر المتوسط، ستجد مستبدين ينفقون أموالاً لا حصر لها على التسلّح، أو مشروعات البذخ، أو محض رغباتهم. وهم أثناء ذلك لا يجرّون بلادهم إلى أتون العوز فحسب، بل ويرسلون كل عام مزيداً من فقراء هذه البلاد إلى القوارب، ويُقبلون على خوض المغامرات العسكرية بالخارج، ويزرعون الحرب ويبثون الفوضى أينما ذهبت قواتهم.
أما في شمال البحر المتوسط، فلديك دول أوروبا التي تنصَّلت من عمليات البحث والإنقاذ، وباتت مستعدة لفعل أي شيء -حتى لو كان إغداق الأموال على المستبدين- لكبحِ تدفق المهاجرين. ثم يلوك كلا الطرفين الكلامَ المبتذل عن فظاعة الوفيات وعظم الكارثة.
وعلى المنوال ذاته، تقتفي وسائل الإعلام الدولية آثار هذا الخطاب في كل حادثة من هذا النوع.
ويكفي المرء أن يوازن ويُباين بين التغطية الإخبارية التي يحظى بها الرجال الخمسة المحاصرون في غواصة "تيتان" المفقودة، والجهود التي تبذلها البحرية الأمريكية وخفر السواحل للوصول إليهم، من جهة، وبين التقارير الواردة عما حدث قبالة سواحل بيلوس الأسبوع الماضي، وصار يحدث كل أسبوعين منذ بداية هذا العام.
قصة مألوفة على نحو مروّع
وقعت المأساة ببطء وعلى مرأى من سفينة حرس السواحل اليونانية التي ظلت تراقب ما يحدث بلا حراك. قال أربعة ناجين قابلتهم صحيفة The Sunday Times البريطانية إن خفر السواحل اليوناني لم يرسلوا المساعدة إلا بعد ثلاث ساعات على الأقل من انقلاب القارب.
وكشف تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية BBC، أن القارب نفسه لم يتحرك من مكانه لسبع ساعات على الأقل، قبل أن ينقلب في النهاية. وقالت مجموعة Alarm Phone، المعنية بمراقبة السفن المعرضة للخطر في البحار، إن السفينة طلبت المساعدة مساء الثلاثاء 13 يونيو/حزيران، أي قبل يوم كامل من غرقها.
في المقابل، زعم خفر السواحل اليوناني أن السفينة رفضت تلقي المساعدة، وأنها كانت في طريقها إلى المياه الإيطالية.
يا لها من قصة صارت مألوفة إلى حدٍّ مروع!
في 26 فبراير/شباط، وقع الأمر نفسه لسفينة أخرى قبالة ساحل مدينة "كروتوني" في إيطاليا. وكان على متن السفينة الغارقة ما يقرب من 200 لاجئ، معظمهم يحملون الجنسية الأفغانية، وتُوفي أثناء ذلك 94 طالب لجوء، منهم 35 طفلاً.
وتكاد تكون القصة التي حاول خفر السواحل اليوناني اختلاقها مطابقةً للرواية الإيطالية الرسمية عن واقعة الغرق في فبراير/شباط الماضي، فقارب الرحلات التركي الخشبي "سمر لاف" غرق في غياهب الأمواج الهائجة بعد ست ساعات من التقاط طائرة تابعة لـ"الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل" (فرونتكس) صوراً له، وإفادتها بأن السفينة "لم تظهر عليها علامات الاستغاثة".
حصل موقع Lighthouse Reports الإخباري على سجلات رحلة الطائرة التابعة لفرونتكس، والتي كشفت أن الطائرة واجهت رياحاً قوية قبل ساعتين من رصدها للقارب، ورصدت "بصمة حرارية كبيرة" أسفل سطح السفينة تدل على أنها كانت تحمل عدداً غير عادي من الأشخاص على متنها.
لكن كل هذه التفاصيل حُذفت من التقرير الرسمي بشأن الواقعة.
وقال كلاس فان ديكين، المتحدث باسم Lighthouse، لموقع MEE البريطاني: إن السفينة "كانت محمّلة بما يزيد على طاقة استيعابها من الركاب، وهذا أمر يسهل على طائرة فرونتكس اكتشافه"، وقد "علموا جميعاً بذلك، لكنهم لم يرسلوا سفينة إنقاذ، وكانت لهذا القرار عواقب وخيمة على ركاب السفينة" الغارقة.
والحقيقة أن فرونتكس لا تتخذ قرارات الحياة والموت هذه بمعزل عن التأثيرات السياسية، فاليونان -التي انتقدت المفوضية الأوروبية من قبل سياسة "التصدي العنيف" التي تتبعها في مواجهة اللاجئين- لا تنفق على قدرات البحث والإنقاذ سوى 600 ألف يورو (654 ألف دولار)، أي 0,07% فقط من إجمالي الميزانية المخصصة لإدارة الحدود.
تمويل المهربين
قالت كاثرين وولارد، مديرة المجلس الأوروبي للاجئين والمنفيين، إن الاتحاد الأوروبي قدَّم لليونان خلال المدة من عام 2021 إلى عام 2027، أكثر من 819 مليون يورو (894 مليون دولار) من أموال ميزانيته، لإبعاد اللاجئين عن أوروبا، وقد أنفقت اليونان بالفعل معظم هذه الأموال.
ومع ذلك، فإن إيطاليا، الجارة المباشرة لليونان، كانت أشد صراحة في مسلكها بهذا الخصوص. فقد بذلت رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة، جورجيا ميلوني، قصارى جهدها لإعادة ضبط علاقات إيطاليا مع الأنظمة المستبدة جنوب البحر المتوسط.
واجتمعت ميلوني بخليفة حفتر، الذي يوصف معقله في منطقة برقة شرقي ليبيا بمحطة الانطلاق الرئيسية للمهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى إيطاليا. وهذا هو حفتر نفسه الذي لم يكتفِ بإشعال حرب أهلية على حكومة الوحدة الوطنية الليبية المعترف بها دولياً في طرابلس، وكبَّل بذلك أي فرصة كانت متاحة لإعادة الاستقرار إلى البلاد بعد معمر القذافي؛ بل وساند كذلك محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، في محاولته للاستيلاء على السلطة في السودان؛ فضلاً عن علاقاته المعروفة مع مجموعة المرتزقة الروسية "فاغنر".
والاتحاد الأوروبي يعلم أنه ما دام يقدم الأموال إلى حفتر، فإنه يمول التجارة التي تجري بين خفر السواحل الليبي والمهربين. فقد اتهمت بعثة تقصٍّ للحقائق تتبع للأمم المتحدة في ليبيا مسؤولين في خفر السواحل الليبي، وإدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية التابعة لها، بالتعاون مع مهربي البشر وتجار التهريب.
في وقت سابق من هذا العام، سلّم أوليفر فارهيلي، مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الجوار والتوسع، سفن دوريات بحرية إلى خفر السواحل الليبي، وأعلن عن حزمة بقيمة 800 مليون يورو (873 مليون دولار) لتمويل مساعي وقف الهجرة من إفريقيا.
والواقع أن حفتر كان مسؤولاً عن زيادة اللاجئين أكثر من أي شخص آخر في ساحل شمال إفريقيا، ربما باستثناء داعمه السابق، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
مرَّت عشر سنوات منذ أن استولى السيسي على السلطة بالانقلاب العسكري الذي أطاح فيه بمحمد مرسي، أول رئيس منتخب ديمقراطياً في مصر.
وفي غضون ذلك، تشير بيانات وزارة الداخلية الإيطالية إلى أن السواحل الإيطالية شهدت وصول نحو 20 ألف مصري عبر ليبيا في عام 2022 وحده، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف الواصلين في عام 2021. وتذهب التقديرات إلى معظم اللاجئين الذين باتوا يصلون حالياً إلى إيطاليا هم من المصريين.
أقرَّت سهى جندي، وزيرة الدولة المصرية لشؤون الهجرة، في مكالمة هاتفية يوم الأحد 18 يونيو/حزيران، بحقيقةٍ واضحة: أن المصريين الذين نجوا من كارثة السفينة الغارقة قبالة الساحل اليوناني مستعدون لفعل أي شيء لتجنُّب العودة إلى ديارهم. وقد نُقل ثلاثة وأربعون منهم إلى مخيم للاجئين في اليونان.
على نهج حفتر والسيسي، استضاف الديكتاتور التونسي قيس سعيِّد زعماء إيطاليا وهولندا والاتحاد الأوروبي طلباً للمساعدات، فالرجل نجح خلال مدة قصيرة من توليه منصب الرئاسة في إفلاس بلاده لدرجة أنها أوشكت على التخلف عن سداد ديونها الخارجية.
وقالت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، إن "الاتحاد الأوروبي يدعم مسيرة تونس إلى الديمقراطية منذ عام 2011. إنها طريق طويلة، ووعرة أحياناً. ولكن هذه العقبات يمكن تجاوزها".
تحدثت فون دير لاين عن عقبات الديمقراطية فيما كان سعيِّد، العقبة الرئيسية أمام استعادة الديمقراطية البرلمانية، يقف بجوارها مباشرة.
مساعدة المستبدين
إن نهج الاتحاد الأوروبي كبت الديمقراطية في تونس هو صورة من نهج ميلوني. وإذا يمكن وصفه بشيء، فهو أنه أكثر تشاؤماً من نهج رئيسة الوزراء الإيطالية.
قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، يوم الإثنين، لنظيره المصري إن الاتحاد الأوروبي سيمنح القاهرة 20 مليون يورو من أجل التعامل مع 200 ألف لاجئ من السودان. وطالب بمنح الـ80 مليون يورو، التي تعهد بها الاتحاد الأوروبي لمصر العام الماضي لإدارة الحدود.
هذه الأموال زهيدة مقارنةً بالأموال التي جنتها دول الاتحاد الأوروبي من صادرات الأسلحة إلى مصر. في السنوات العشر التي تلت الانقلاب العسكري للسيسي، صدَّرت دول الاتحاد الأوروبي -ومن ضمنها المملكة المتحدة- أو رخَّصت ما قيمته 12.4 مليار دولار من الأسلحة إلى مصر، وفقاً للحملة ضد تجارة الأسلحة.
ولكن حتى إذا أخذنا المبالغ التي أعلن عنها بوريل يوم الإثنين في الاعتبار في قيمتها الظاهرية، ليست هناك أنها تسقط في ثقب أسود كبير، مثل أي أموال أخرى تُمنَح للسيسي.
في الوقت الذي أدى فيه إنفاق السيسي على السلاح إلى إفقار المصريين، وضع مصر ضمن أكبر عشرة مستوردين للأسلحة في جميع أنحاء العالم. بين عامي 2010 و2020، اشترت مصر أسلحةً بقيمة 22 مليار دولار.
لماذا تذرف الدموع من أجل الديمقراطية، في حين أن الاستبداد جيد للأعمال التجارية؟
ثِق بي، لقد تخلَّى الاتحاد الأوروبي عن أجندة الديمقراطية التي يروّج لها جهراً في أوكرانيا في ما يتعلق بشمال إفريقيا والدول الفقيرة للغاية التي ترقد في فنائها الخلفي.
عندما قاطع التونسيون خطوة سعيد لتدشين برلمانه بعد حل المجلس الأعلى للقضاء، دعا بوريل إلى "استعادة الاستقرار المؤسسي في أسرع وقت ممكن".
كان سعيد حريصاً للغاية على اعتقال راشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة، أكبر حزب في البرلمان القديم. ومع كل خطوة، حصل سعيد على الضوء الأخضر للمُضي قُدماً في غياب أي إجراء ذي مغزى من قبل الاتحاد الأوروبي.
تخلّت أوروبا عن كل ما تدّعي الدفاع عنه في ساحتها الخلفية على البحر المتوسط.
حين قوبِلَ وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي، في اجتماع عقدته مؤخراً لجنة الشؤون الخارجية في المملكة المتحدة، بتحدٍ بشأن ما تفعله بريطانيا لتأمين الإفراج عن الغنوشي، لم يكن وزير الخارجية يعرف حتى من الوزير المسؤول عن تونس، ناهيكم عما قاله.
قال كليفرلي للجنة: "بدت تونس وكأنها النقطة المضيئة في الربيع العربي. إنه لأمر مخيب للآمال أن نرى التقدم الذي أحرزوه يتراجع في الاتجاه المعاكس. لقد انخرطنا في الأمر. سوف أتحقق مرة أخرى من الوقت الذي انخرطنا فيه آخر مرة. إنه ليس شيئاً قمت به شخصياً. إنه شيء نشعر به بقوة".
سياسة كارثية
إن كارثة السياسة البريطانية تجاه تونس، من الوزير المسؤول، اللورد طارق أحمد من ويمبلدون، وصولاً إلى سفيرة المملكة المتحدة في تونس، هيلين وينترتون، هي أنها أصبحت متأصلة.
اللورد أحمد هو الوزير الأطول خدمة في وزارة الخارجية؛ إذ كان وزيراً في ظل حكومة ديفيد كاميرون، وتيريزا ماي، وليز تروس، وبوريس جونسون، وآلان ريشي سوناك، وهو وزير لشؤون الهند وباكستان وإسرائيل ومصر وتونس والحريات الدينية.
لديه أعمق معرفة مؤسسية في هذا القسم، بعد أن خدم آخر خمسة رؤساء وزراء. ولو كان أحد يعرف بما حدث في مصر أو ليبيا أو تونس فهو اللورد أحمد لأنه عاش في خضم كل ذلك. لكنه لا يفعل شيئاً بمعرفته.
إنه لا يكترث بالمشكلات.
وطالما رفضت بريطانيا والاتحاد الأوروبي تسمية الانقلابات العسكرية بأساميها الحقيقية، واستمرت في دعم الحكام المستبدين الشرسين، فإن تدفق المهاجرين سيزداد.
لأنه مثلما كانت فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال قوى استعمارية، فإنهم اليوم يغذون الأسباب الحقيقية لعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الإقليمي الذي أدى إلى تدفقات اللاجئين هذه.
الجيش المصري هو السبب الرئيسي للانهيار الاقتصادي في البلاد لأن الكثير من قطاعات الاقتصاد بين يديه. وقبضة المجمع الصناعي العسكري السوفييتي على الاقتصاد الفاشل في العقود الأخيرة من الإمبراطورية السوفييتية تبدو متواضعة بالمقارنة به.
ومع ذلك، تعمل فرنسا وبريطانيا وألمانيا على تعزيز الجيش الفاسد من خلال بيع الأسلحة له.
هذه سياسة واعية وليست مصادفة تاريخية.
إذا اعتقد قادة الاتحاد الأوروبي أنهم قادرون على إنقاذ أوروبا من خلال رعاية الديكتاتوريين، وعن طريق التخلي عن القوارب لتغرق، فهناك مفاجأة في انتظارهم.
بدأت تدفقات المهاجرين من مصر وتونس للتوّ. هناك ملايين من المصريين والتونسيين والسودانيين والأفغان يخططون لنفس الرحلة ويدّخرون لها.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.