شهد العقد الماضي صدور العديد من ترجمات روائع الأدب العالمي إلى العامية المصرية لتشتعل من جديدٍ معركة الفصحى والعامية في الوسط الثقافي المصري. ومن بين الترجمات الأكثر إثارة للجدل رواية "العجوز والبحر" للكاتب الأمريكي إرنست همنغواي والتي نقلها إلى العامية مجدي عبد الهادي وطرحتها دار "هن" المصرية في معرض القاهرة الدولي للكتاب مطلع العام الجاري. كما نشرت الدار ترجمة عامية أخرى لرواية "الغريب" للكاتب الفرنسي ألبير كامو الذي نال جائزة نوبل. لقد أعاد صدور هذه الترجمات إلى الواجهة الجدال التاريخي بين أنصار لغة الضاد والمتحيزين إلى لغة الشارع، ولقي هذا التوجه انتقادًا لاذعًا في وسائل الإعلام وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. ولعل ما أثار حفيظة النقاد والقراء هو وصف الترجمات بأنها إلى اللغة المصرية وليس اللهجة العامية، والحديث عن أنها لغة مستقلة يجب أن تصبح اللغة القومية لمصر. يرى بعض النقاد، مثل الأديب أحمد الخميسي والناقد أحمد كريم بلال، أن هذه الدعوات تحمل في طياتها خطابًا شعبويًا وطعنًا في الهوية العربية وقطيعة مع التراث الإسلامي. أسلط الضوء في هذا المقال على ضرورة فهم هذا الجدل في سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي. ويبرز المقال أيضًا الجوانب الأيديولوجية لهذه الموجة الجديدة من الترجمات التي تأتي في سياق جهود دار "هن" للترويج للعامية المصرية بوصفها لغة قومية من منطلق أجندتها النسوية.
احتدم الجدل بشأن العامية والفصحى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في وقت ذاع فيه استخدام العامية في إنتاج بعض الأعمال الفنية من أجل مقاومة الاستعمار البريطاني. وفي هذا الصدد، وثّق المؤرخ زياد فهمي أهمية الثقافة الشعبية في تشكّل الهوية المصرية ودور بعض الفنانين مثل منيرة المهدية ونجيب الريحاني في النضال ضد الاحتلال البريطاني من خلال عروضهما المسرحية التي كُتبت بالعامية واستقطبت جماهير غفيرة، في حين لم تلقَ المسرحيات التي اعتمدت الفصحى إقبالاً مماثلاً. ولذا يمكن القول إن العامية ارتبطت بما يمكن تسميته القومية الشعبوية، فيما اقترنت الفصحى بقومية النخب والمثقفين. وعلى الرغم من أن كتابة الشعر اكتسبت زخمًا كبيرًا على مدار القرن الماضي وأصبح هناك إرث شعري كبير بالعامية، لم يتراكم إرث مشابه في عالم الرواية. ويرجع ذلك إلى أن الشعر يُنظر إليه على أنه تقليد شفوي، بخلاف الرواية التي تولد على الورق، أي كتابياً. كانت نقطة التحول صدور نسخة محدودة من رواية "قنطرة الذي كفر" التي كتبها الدكتور مصطفى مشرفة خلال أربعينيات القرن الماضي ولكنها لم تخرج إلى النور إلا في منتصف الستينيات، الأمر الذي يُظهر عدم قبول العامية لغة للرواية في الوسط الأدبي المصري آنذاك.
إن جاز لنا أن نتصارح أكثر في التشخيص، فيجب أن نقر أن العامية والفصحى طالما كان يرفد كل منهما الهوية المصرية ويعززها على المستويين الشعبي والنخبوي. فكثير من المؤرخين خلصوا إلى أن بعض الزعماء مثل جمال عبد الناصر ومصطفى كامل وسعد زغلول مزجوا بين الفصحى والعامية في خطاباتهم؛ من أجل حشد التأييد لسياساتهم بين قطاعات أوسع من الجماهير. بعبارة أدق، كان عبد الناصر يعتمد العامية في حديثه للمصريين ويكثر من استخدام الفصحى في خطاباته الموجهة للشعوب العربية، إذ إن خطاب القومية العربية كان بمثابة رافعة سياسية للدور القيادي لمصر في ذلك الوقت. ومع رحيل عبد الناصر ووصول الرئيس أنور السادات إلى سدة الحكم، تراجع خطاب القومية العربية وبرز إلى الواجهة خطاب "مصر أولاً"، خاصة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد التي أسهمت في توتر العلاقة بين مصر والعالم العربي وانفرط معها عقد الوحدة العربية. وجاءت إعادة الجماعات الإسلامية إلى الفضاء السياسي لتضعف التيار القومي، غير أن هذه التحولات لم يترتب عليها انحسار الفصحى، بل استخدمها السادات في معظم خطاباته الرسمية إلى جانب العامية. ومن هنا، تتجلى لنا مركزية الفصحى والعامية في الخطاب السياسي والهوية الوطنية. والمتأمل في المشهد الثقافي المصري خلال العقد الماضي يدرك تسارع وتيرة نشر روايات وترجمات بالعامية. فقد أطلق مجمع اللغة العربية عام 2018 مشروع تفصيح العامية؛ في محاولة لرأب الهوة بين الفصحى والعامية، وأجاز استخدام العديد من الكلمات العامية. وحصلت رواية "المولودة" للروائية نادية كامل والمكتوبة بالعامية المصرية على جائزة ساويرس الثقافية عام 2019. وأصدرت الهيئة العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة المصرية رواية "بالختم الكيني" بالعامية للكاتبة شيرين هلال عام 2022.
وبالعودة إلى قضية ترجمة الأدب العالمي إلى العامية المصرية، نجد أن المترجمين والناشر يرون هذا العمل ضرورة لإنهاء حالة الازدواج اللغوي في مصر وتحدي الرؤية الطبقية تجاه العامية. ترمي إذن هذه الترجمات إلى تغيير الأعراف السائدة في ميدان الأدب والترجمة، أعني بذلك استخدام الفصحى في الكتابة والترجمة الأدبية. وقد عبر الناشر والمترجمون عن هذا الأمر مرارًا وتكرارًا بالقول إن ترجماتهم ترمي إلى إظهار قدرة العامية على نقل جماليات النصوص الأدبية، وهو ما يعتبره النقاد مروقًا وتغريدًا خارج السرب. وتحقيقًا لهذه الغاية، عمد المترجمون إلى ترجمة الكلاسيكيات العالمية الحائزة على جائزة نوبل من أجل جذب اهتمام القارئ لما تتمتع به هذه النصوص من مكانة مرموقة ورواج واسع. وما أثار غضب الكتّاب والقراء هو استخدام العامية القاهرية في هذه الترجمات. للباحثة الأمريكية الفلسطينية ليلى أبو لغد دراسة مهمة أشارت فيها إلى حرص مجتمعات مدن الصعيد على الحفاظ على ثقافتهم ولهجتهم من توغل اللهجة القاهرية التي انتشرت بفضل وسائل الإعلام وصناعة السينما والتلفزيون، وهذا ما يفسر انتقاد بعض القراء لهذه الترجمات وتساؤلهم عن أسباب عدم استخدام العامية الصعيدية وغيرها من اللهجات المصرية.
يستوقفنا هنا أنّ نشر هذه الترجمات أثار من جديدٍ قضية التهميش الاجتماعي الناجم عن هيمنة اللهجة والثقافة القاهرية على حساب غيرها من اللهجات المصرية والمطالب بتحويلها إلى لغة قومية، إذ ينادي المترجمون والناشر بضرورة بناء إرث أدبي روائي باللغة الوطنية يضاهي الإرث الشعري، بيد أن الحديث عن ارتباط قوة مصر الناعمة بصناعة السينما والإعلام لا ينسحب بالضرورة على عصرنا الراهن. فقد برزت على الساحة الإعلامية دول عربية أخرى وراجت لهجاتها بفضل ما يشهده العالم من تسارع في تطور وسائل التواصل ودبلجة الأعمال الفنية.
ولعلي أضيف سببين آخرين لنشر هذه الترجمات يكمن أولهما في أن دار "هن" تصدر العديد من الترجمات بالعامية من أجل الترويج لها في سياق أيديولوجيتها النسوية، بل إنها صاغت محتوى موقعها الإلكتروني بالعامية القاهرية. وتبرز رسالة الناشر على موقعه الإلكتروني أن الحركة النسوية يمكنها تغيير علاقات القوة في المجتمع المصري من خلال مقاومة الكتابات الذكورية وسلطة الرجل. ويقرن الناشر هيمنة الفصحى بالنظام الأبوي. وهنا نشير إلى أن العامية القاهرية لطالما كان يُنظر إليها باعتبارها تجسد هوية نساء الحضر. يؤيد هذه الفكرة ويغذيها ما ذكرته الكاتبة ريم بسيوني نقلاً عن طالب من صعيد مصر أجاد اللهجة القاهرية: "لا يمكنني أن أتحدث القاهرية مع أمي. إذا تحدثت بها ستدعوني بالمخنث وربما تقتلني".
أما السبب الآخر فيتمثل في سعي مجتمع المغتربين المصريين إلى نشر استخدام العامية كتابة وتحدثًا بوصفها لغة العصر، ذلك أن المترجمين ينتمون إلى مجتمع المهاجرين المصريين في أوروبا. وعبر التاريخ، تصدّر حركات الحداثة العربية وتضييق الفجوة بين العامية والفصحى مجتمع المهاجرين العرب مثل جبران خليل جبران وغيره من شعراء المهجر، ثم جيل المحدثين اللبنانيين في منتصف القرن الماضي وعلى رأسهم يوسف الخال.
وفي ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن الموجة الجديدة من الترجمات تستهدف تكريس العامية كلغة أدبية وأنها تزامنت مع واقع اجتماعي بات أكثر تقبلاً للكتابة والترجمة بالعامية. ولا يمكننا كذلك أن نغفل دور مجتمع المغتربين المصريين في هذا التوجه، وينبغي إيلاء مزيد من الاهتمام للآليات التي يسعون من خلالها إلى نشر العامية. ومن السابق لأوانه تقييم مدى رواج هذه الترجمات بين القراء المصريين وغيرهم. ولذلك ينبغي النظر في نسب مبيعات هذه الترجمات ودراسة تعليقات القراء عليها؛ من أجل تقييمها تقييمًا موضوعياً.
المراجع
- Abu-Lughod, L. (2004). Dramas of Nationhood: The Politics of Television in Egypt. University of Chicago Press.
- Ali, Hisham M. 2022. "Gibran in Lebanese Nationalism: A Study of His Canonization and the Translation Flows of The Prophet." PhD Thesis, KU Leuven. https://lirias.kuleuven.be/3759520.
- Bassiouney, Reem. 2009. Arabic Sociolinguistics. Edinburgh: Edinburgh University Press.
- Fahmy, Z. (2011). Ordinary Egyptians: Creating the Modern Nation through Popular Culture. Stanford University Press.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.