تطورات متسارعة تشهدها الحرب الروسية الأوكرانية بعد بدء الهجوم الأوكراني المضاد على عدة جبهات، وهو الهجوم الذي تزامن مع إطلاق حلف شمال الأطلسي، أضخم مناوراته الجوية، فيما يبدو أنه دعم صريح للهجوم الذي تقوده القوات الأوكرانية؛ ما فتح العديد من التساؤلات بشأن غاية هذا الاستنفار في خضم الصراع الغربي مع روسيا، والرسائل التي يحملها بين طياته إلى موسكو، ومدى نجاح الهجوم المضاد في وقت استندت فيه مناورات الناتو إلى سيناريو دفاع جماعي يُعرف أيضاً باسم سيناريو المادة 5؛ حيث ينشر الحلفاء قواتهم الجوية في ألمانيا للقتال ضد قوات الاحتلال المختلطة من خصم وهمي.
وهو التكتيك العسكري الذي يُستخدم عندما يدافع أحد الأطراف بنجاح عن هجوم العدو ويجبره على التراجع بهجوم مماثل، رغم أن هذا لا يشمل أوكرانيا باعتبارها غير منتسبة لحلف الناتو.
ومع تصاعد وتيرة الأحداث بصورة خاصة خلال الأيام القليلة الماضية، بعد سلسلة ضربات استراتيجية وجّهتها موسكو إلى القوات الأوكرانية تخللها قصف لمراكز صنع القرار في كييف، واستهداف دقيق لمخازن أسلحة في مناطق متعددة في أوكرانيا، حاولت الأخيرة الرد عليها بالمُسيّرات واقتحام الحدود الروسية، وهو التطور الذي أعلنت من خلاله كييف بدء الهجوم الذي طال انتظاره، رغم أن الإعلان كان خجولاً نوعاً ما، وجاء بعد إعلان بوتين عن بداية صد الهجوم الأوكراني المضاد وهو ما يدعم التقارير الأوكرانية، التي رأت أن مثل هذا الهجوم لن يكون سريعاً، أو حاسماً، ما يفسر عدم الإعلان صراحة عنه، وهو ما يوضح المخاوف التي تعتري المسؤولين الأوكرانيين من فشل هذا الهجوم في تحقيق الأهداف المرجوة منه، والتي حددتها أوكرانيا في استعادة السيطرة على شبه جزيرة القرم، وهو أمر يبدو شديد الصعوبة، بالنظر إلى بناء روسيا لعدة خطوط دفاعية من الصعب اختراقها.
وعلى الرغم من تجاوز المُسيّرات الأوكرانية لحدودها ونجاحها في الوصول إلى الأراضي الروسية، فإن هذا لا يعني شيئاً، خاصة أن العديد من الصحف الغربية ورغم معاداتها لروسيا فإنها أقرت أنّ الهجمات الأوكرانية الأولى باءت بالفشل، ولم تنجح في تحقيق أي خرق في خطوط الدفاع الروسية. وفي المقابل، تكبّدت كييف خسائر فادحة في العدد والعتاد بلغت حوالي 3715 جندياً في ثالث أيام الهجوم الأوكراني.
ولنكن واقعيين؛ لا يمكن الجزم بفشل الهجوم المضاد خلال أيام فقط من انطلاقه، فخطة زيلينسكي لا تبدو واضحة لحد الساعة، لكن عقيدة "بليتزكريغ"، أو الحرب الخاطفة، والتي استخدمتها أوكرانيا في خاركيف وخيرسون ومناطق أخرى خلال سبتمبر/أيلول الماضي، ونجحت عبرها في استعادة أراضٍ واسعة من القوات الروسية، لم تعد فعالة اليوم، على الرغم من أن القوات الأوكرانية استعادت السيطرة على ثلاث قرى من القوات الروسية في منطقة دونيتسك جنوب شرقي البلاد، واصفة ذلك بأنه "أولى نتائج تحركات الهجوم المضاد"، لكنها في المقابل تكبدت خسائر كبيرة؛ حيث دمرت القوات الروسية 7 دبابات "ليوبارد" ألمانية الصنع على الأقل، و5 عربات مدرعة "برادلي" أمريكية الصنع خلال 48 ساعة في أثناء صدها لهجمات أوكرانية.
وبين الصد والرد شنّت أوكرانيا هجمات متتالية على سد محطة كاخوفكا للطاقة الكهرومائية، وهو ما عرض الصمامات والهياكل السطحية للدمار، ورغم ذلك لم ينهر السد بشكل كامل؛ ما تسبب في إغراق جزء كبير من مرافق البنى التحتية في المدينة، كما سيتسبب في تهديد أكثر من 80 بلدة وقرية ومدينة على مجرى النهر، وفقاً لبعض التقديرات. وبطبيعة الحال، فإن القوات الروسية سوف تنشغل بإجلاء السكان المدنيين عن العمليات القتالية ضد القوات الأوكرانية المهاجمة، وهو الأمر الذي يصب في صالح الأخيرة.
أوكرانيا المدعومة غربياً بقيادة أمريكا ودعم سخي تجد نفسها اليوم على أعتاب مرحلة فاصلة، خاصة أن هذه الأخيرة سمحت لأوكرانيا باستهداف مناطق داخل روسيا واتجهت لدعم التصعيد الأوكراني ضد الأراضي الروسية، وقد وضح ذلك في مؤشرين، يتمثل أولهما في تضارب تصريحات المسؤولين في واشنطن حول استخدام الأسلحة الأمريكية في مهاجمة الأراضي الروسية، بين من أكد أن واشنطن حضت أوكرانيا على عدم استخدام السلاح الأمريكي في مهاجمة روسيا، وبين من قال إن الولايات المتحدة تمنح التدريب والأسلحة وتُقدم النصيحة والمشورة للقوات الأوكرانية، ولكن لا تخبرها بالمكان الذي يجب عليها استهدافه، أو تجنبه.
وبين هذا وذاك تخشى الإدارة الأمريكية من أنّ أيّ خطواتٍ خاطئة أولية في الهجوم المُضاد، خاصة أن الحصول على المزيد والمزيد من الدعم العسكري والمالي لكييف سيكون بناءً على نتائج الهجوم المضاد للجيش الأوكراني، فأي تعثر للجيش الأوكراني سيؤدي بالضرورة إلى التخلي عن فكرة الاستمرار في الحرب الذي استنزفت المخزونات الأوكرانية والغربية، وقد تمكن الجمهوريون في الكونغرس من إبطال كل محاولات زيادة الإنفاق الدفاعي. فكبار المسؤولين الأمريكيين مقتنعون بأن الدعم المستقبلي للصراع في أوكرانيا وسمعة الرئيس جو بايدن العالمية تعتمد على نجاح الهجوم المضاد الأوكراني وليس بايدن وحده فحتى مصير زيلينسكي بات مرهوناً بنجاح هذا الهجوم، خاصة أن هذا الأخير يرفض أي محاولات لحل الصراع القائم دبلوماسيا.
زيلينسكي ليس وحده من يرفض الجلوس على طاولة الحوار، فحتى بوتين يرفض هذا الخيار، لكن ذلك لن يدوم طويلاً، خاصة إن فشل الهجوم الأوكراني المضاد، فإطالة أمد هذه الحرب لن يأتي إلا بالمزيد من الخسائر التي ستقع على الطرفين على حد سواء، فأوكرانيا ستفقد الدعم الغربي، في حين أن روسيا لن تستطيع الاستمرار في استنزاف المزيد من مدخراتها لأكثر من ذلك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.