من الأحداث المفاجئة التي لم يكن يتوقعها أكثر المحللين تفاؤلاً قبل أشهر قليلة الاتفاق التاريخي للمصالحة السعودية الإيرانية برعاية صينية، والذي تم الإعلان عنه يوم 10 مارس الماضي، ولأنهما أبرز قوتين بمنطقة الخليج واعتادتا أن تكونا على النقيض في جل الملفات إقليميةً كانت أو عالمية، فإن خطوة التقارب هذه قد تحدث تغييرات عميقة على المنطقة، ومنها على باقي العالم الإسلامي. وما نسجله حول هذا الاتفاق المفاجئ انقسام المحللين إلى فريقين، أحدهما يعتبر الخطوة تكتيكية فقط، ولكلاهما دوافعه لتهدئة الصراع قليلاً، ولا يمكن للاتفاق أن يصمد، فما بالك أن يتطور، والثاني ينطلق من فكرة أن الاتفاق يدخل في إطار خطة استراتيجية متكاملة، تبنّتها السعودية، تقوم على تصفير أزماتها بهدف الوصول إلى وضع "لا مشكلة" مع جيرانها، وتركيز جهودها ومواردها للتنمية.
استراتيجية أم تكتيك؟
أصحاب الرأي القائل بأن الخطوة تكتيكية ينطلقون من كون الصراع مع إيران تاريخياً، وأسباب الخلاف متعددة، منها السياسي والعرقي والمذهبي، فليس من المنطق أن ينتهى بهذه البساطة واليسر.
بالعودة إلى استراتيجية التحرك ومعالجة الأزمات التي عُرفت بها السعودية في العهد الجديد (ما بعد 2015 )، نجدها اتسمت بانخراطها العلني والمباشر في صراعات على جبهات متعددة. وينطلقون أيضاً من ضغوط الحلفاء الرافضين لأي تقارب، وخاصةً الولايات المتحدة، التي ترى في الجمهورية الإسلامية دولةً مارقةً عملت على عزلها وإضعافها مند تأسيسها من جهة، ومن جهة ثانية ترى في تقاربهما تهديداً لمشروعها الاستراتيجي القائم على حماية الاحتلال بضمان تفوقه.
أما أصحاب فكرة أن الخطوة استراتيجية فينطلقون من كون ما يجمع السعودية بإيران أكبر مما يفرقهما، والاتفاق لم يكن مفاجئاً تماماً، فسياسة التصالح وإصلاح علاقات الجوار التي تبنّتها المملكة بدأت فعلاً بفك الحصار عن قطر، والعمل على إعادة علاقتهما التاريخية، وفتح خطوط التصالح، وطيّ الخلافات مع تركيا، وتجميد مساعي التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، والتمايز عن مواقف الإمارات في مختلف الملفات التي كانت تظهر متطابقة، وإعادة العلاقات حتى مع كندا.
وأن إعلان الولايات المتحدة الابتعاد عن المنطقة، وتركيز اهتمامها على خطر الصين الأكبر دفع حكام السعودية لتغيير حساباتهم بمحاولة التكيف الذكي مع الوضع الجديد، وتعزيز استقلال قرارها السياسي، في ظل عالم يتجه نحو تعددية قطبية، وجب اللعب على تناقضاته بفطنة وحسن تدبير.
وكذلك رغبة السعودية في التحول إلى قطب سياحي ومالي يقتضي بالضرورة علاقات هادئة ومستقرة مع جيرانها، ولا أدل على ذلك مجهوداتها في الظفر بتنظيم كأس العالم 2030 في كرة القدم.
سياسة جديدة
مند عهد الملك المؤسس اتسمت السياسات الخارجية للملكة بالتحفظ الشديد، التروي والثقل في معالجة الملفات مع استقرار كبير لعلاقاتها مع مختلف الأطراف، لكن مند 2015 ظهر تغير متسارع في المعايير الحاكمة لسياسات المملكة الخارجية، فمثلاً من المؤشرات الدالة على ذلك نجد أنه على مدى 85 سنة من عمر المملكة (من 1930 إلى 2015) لم يشغل منصب وزير الخارجية إلا شخصان تقريباً، ومن العائلة المالكة (الملك فيصل على فترتين مجموعهما 44 سنة، والأمير سعود الفيصل لمدة 40 سنة)، بينما شغل هذا المنصب مند 2015 إلى اليوم 3 وزراء، وكلهم من خارج العائلة المالكة.
وكذلك بدأ التمايز السعودي بالمواقف عن حلفائها، كعدم التصويت لصالح إدانة روسيا، ورفض طلبات للولايات المتحدة والغرب عموماً، برفع إنتاج البترول في إطار الحرب الاقتصادية على روسيا، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل عملت على خفض الإنتاج، والعمل بما يخدم مصالحها ومصالح شركائها.
أيضاً، التصالح مع إيران، وخلق توازن قوى للاحتماء وتخفيف الضغوط بالسعي الجاد للانظمام إلى مجموعة البريكس، ومنح الصين دوراً أكبر من صورته القريبة برعايتها للصلح مع إيران، والدخول معها في مشاريع اقتصادية وتنموية ضخمة، في إطار مخطط "رؤية السعودية 2030″، الذي يهدف إلى جعل الاقتصاد السعودي متنوعاً، والابتعاد عن اعتماد موارد النفط كدخل أساسي ووحيد.
السياسة الرشيدة
في تقديري فإن سياسة تصفير المشاكل على المجالين الجغرافي والحضاري من الحكمة والرشد، وإذا صدق الحدس بتبني المملكة لهذه السياسة بوعي وبحس استراتيجي دقيق، فإنني أتوقع أن تحدث تغييرات كبيرة بالمنطقة، بما يخدم طموحات شعوبها ورغبتها في التنمية والاستمتاع بثرواتها. وآمل أن تحذو باقي دولنا حذو المملكة، وتتبنى هذه السياسة الحكيمة مع محيطها، فإذا كان ليس من العقل ولا من الحكمة أن تقضي هذه السلطة أعمارها، وتهدر أوقاتها وجهودها، وتبدد موارد شعوبها في التحضير والاستعداد لمواجهة جيرانها فمن السفاهة والسفالة أن تتغاضى عما يجمعها من روابط، كالدين واللغة والدم والجوار والتاريخ والمصير المشترك، وتحدد مواقفها مع بعضها البعض، بناء على قضية فرعية يمكن حلها بجلسات بين عقلائنا، وفي أسوأ الحالات يسعنا أن نختلف حولها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.