كان ابني البكر طفلاً جميلاً أنيقاً، وكان هادئاً ومسالماً، لا يحب العراك والمشكلات، وكان خلوقاً جداً ومستقيماً، ولا يحب أن يظلم ولا يُظلم ولا يعتدي ولا يُعتدى عليه. وكان شخصية انطوائية، يحب الجلوس وحده والقراءة وتأمل الطبيعة.
فلما دخل إلى المدرسة، عانى كثيراً مع زملائه الذين لا يتفهمون طبيعة شخصيته العلمية الجادة، وحبه للخلوة، وكانوا يتضايقون منه أكثر؛ لأنه متفوق ويأتي بعلامات أعلى منهم. وفي يوم من الأيام وهو في صف الثالث، وفي آخر الدوام، كان واقفاً عند باب المدرسة ينتظر السائق ليعود معه إلى البيت، وإذ بمجموعة من طلاب صفه يباغتونه، ويتحلقون حوله، وبلحظة انهالوا عليه بضرب مبرح فيه قسوة وغل، وهربوا… ابني فوجئ وصُعق، فهو لم يفعل لهم شيئاً، وبالتأكيد لم يستطع صدهم وقد تكاثروا عليه فجأة، فاستطاعوا النيل منه وآذوه ورموه أرضاً، ومزقوا بنطاله، واختفوا. وحين وصل للبيت كان في حالة مزرية نفسياً وجسمياً، وبالطبع أنا كأم غضبت جداً، وتألمت كثيراً لأجله، ولم أعرف ماذا أفعل، فريثما وصل ابني للبيت كانت المدرسة قد أغلقت أبوابها، ولم يكن وقتها من وسيلة للتواصل سوى الاتصال بالهاتف الأرضي مع الإدارة، أو الذهاب للمدرسة نفسها.
وهذا لم يعد متاحاً ساعتها. فقضيت اليوم كله في ألم قاتل وأنا أشاهد ابني منكسراً عازفاً عن الطعام والنوم واللعب. وحرت وسرحت بعيداً لأني لم أواجه مثل هذا الموقف من قبل، فما حدث شيء لم نألفه ولم نعرفه في مدارس البنات عندما كنا صغاراً، إذ كان أكثر ما عندنا أن نتراشق بالكلمات، وقد نشد شعر بعضنا بعضاً، وتلاشى هذا حين وصلنا للمرحلة الإعدادية، وإن كانت بعض العلاقات قد تحولت إلى تحزبات وشلل، على أن أكثر ما يكون فيها من أنواع الإيذاء هو "محاولة الإبعاد"، وكان هذا النبذ يطال بعض الفتيات الطيبات الخلوقات، فنقول بالتعبير الدمشقي "حطوا عليها"، يعني أصبحت تلك الفتاة مصدر جذب لكل شخصية تستمتع بالإساءة للآخرين.
وهكذا سرحت بأفكاري مع ذكرياتي القديمة لعلي أستشفّ منها شيئاً أهتدي به، فأرجعني حال ابني إلى الواقع، فقد بقي خلال ذلك اليوم منزوياً صامتاً ودمعته لا تفارق عينيه، اقترحت عليه الخروج من البيت فأبدى زهده فيه. وكان الشيء الوحيد الذي قاله بعزم وحسم: "لا أريد الذهاب للمدرسة مرة أخرى".
وإن "علم النفس" يشير ويؤكد أن هذه العبارة ليست رد فعل مؤقتاً؛ وإنما هي دليل على شدة الألم والقهر، وتدل على أن ما حدث قد ترك في نفسه أثراً بالغاً، وجرح كرامته، وحفر جرحاً عميقاً، يحتاج لتنظيف وخياطة وتعقيم كالجرح الحقيقي، وإلا بقي عالقاً به، وعائقاً له مدى الحياة.
وإن "التنمر ليس قضية بسيطة" ولا تداويه الأيام، وكونه يتكرر في المدارس، ويتعرض له كثير من الأطفال، فلا يعني أنه يُؤْلف، وأن نترك الصغار يعانون منه، ولا ينبغي أن نفترض أنهم سيتجاوزون تلك المشاعر القاتلة بسلام وأمان.
وإنا إن تغاضينا عن الجروح التي تتكون في نفسيات أولادنا من مثل هذه المواقف، فإنها قد تكون نواة لتكوّن العقد النفسية، ومشاعر النقص والضعف، أو مشاعر الحقد، ولردود الأفعال الطائشة غير المتوازنة (عند الكبر)، والتغاضي عن مداواتها قد يجعل الإنسان متسلطاً وعدوانياً عند الكبر، أو ضعيفاً مستكيناً شاعراً بالنقص. ولذلك ينبغي دعم الصغير، وحمايته في تلك المرحلة (لأنه طفل ولن يجيد الدفاع عن نفسه).
وهذا ما فعلته، فقد جلست مع ابني طول النهار، وتفرغت لمراقبته، وحاولت تسليته بأي شيء، وصحيح أنني لم أستطع (لشدة تأثره وحساسيته)، ولكنه هدأ قليلاً حين شعر أني مهتمة وداعمة، ولن أمرر الموضوع بسهولة، وأني سوف أتصرف أنا ووالده مع زملائه.
وهي الفكرة الأولى التي أردتها من هذا المقال "يجب أن تدفعا عن ابنكما المشاعر السلبية حين يتعرّض للتنمر، وأن ترمما الخلل النفسي، بالدعم والاهتمام".
ولا تستقلا بمعاناة صغيركما، ولا تقولا: "هكذا سيفهم الدنيا وسيتعلم كيف يرد، وكيف يتجنب ذلك مستقبلاً"؛ أو "عادي، وستمر بسلام، وكل الصغار يتعرضون لهذا"، فالظلم والتعدي ليس عادياً على الكبير، فكيف بالطفل الصغير، وكيف إذا لم يفعل شيئاً، وكيف إذا كان خلوقاً ومسالماً؟! وإن كل نفس منفوسة، تحتاج للدعم والتقوية وزيادة الثقة، فكيف بطفل صغير؟ وأما فكرة "أنها فرصة ليتعلم"؛ فإن الطفل يتعلم التصرف في هذه المواقف بالتدريج، ومن خلال إرشادكما له، وكما أننا لا نرمي الطفل بالمسبح إلا بطوق نجاة، ونتدرج معه حتى يتقن العوم (فحينها نتركه وحده بالماء).
ونفس الشيء نتصرف مع أولادنا. وهذه كانت الفكرة الثانية، من سردي لما حدث مع ابني. وأما الفكرة الثالثة، فهي "أيتها الأم وأيها الأب لا تنتظرا من أحد غيركما أن يدافع عن صغيركما": فرغم أن ابني كان وقتها في أحسن مدرسة في جدّة، فإن الإدارة لم تكن تهتم لمثل هذه الأمور، وحتى المرشد الطلابي كان يعتبرها شيئاً عادياً؛ لأنه لم يدرس علم النفس، فكان يحلها بالطبطبة على المعتدَى عليه، وقد يتوعد المعتدي، ولكنه لا يفعل شيئاً.
وأما الأساتذة فكانوا في وادٍ آخر، وكانوا منهكين من التحضير والتصحيح، فلا يبالون بتلك الوقائع، حتى أني أذكر حين قلت لأحدهم: "أليس الفصل بين التلامذة وحمايتهم من تنمر بعضهم على بعض: من مُهمات الأستاذ؟"، فأجابني ضاحكاً: "نعم، وفي أوقات الفراغ، يعمل بالتدريس!"، وكان قصده أن عراك الصبيان لا ينتهي، وعليّ وعلى ابني الاستسلام، أو حل المشكلة بعيداً عنه، وعدم الشكوى للأستاذ، فما لديه من مهمات يشغل كل وقته.
وهكذا بدأت أعرف أن مدارس الصبيان تختلف عن مدارس البنات، وتكاد لا تخلو شعبة من فتى كسول لا يكاد يجيد شيئاً سوى المشاغبة، فيتظاهر بالقوة وينتحل صفة القائد (ويكون "أبو عنتر")، ويبطش بالضعفاء والهادئين لكي يكتسب المهابة والشعبية بين أقرانه، وهكذا وبعد مرور شهر على بداية الدوام يكون هذا التلميذ المشاكس قد كَوَّن عصابة يأتمرون بأمره، ويستمتعون معه بالإيذاء والمضايقة. ويتقصّدون الأوائل أو الضعفاء والفقراء أو المسالمين من التلاميذ، فيخفون دفتراً لهم أو كتاباً، أو يمزقون أوراقهم، أو يسرقون أقلامهم وأدواتهم، أو يرمونها في دورة المياه…وللأسف نادراً ما يحاسَبون، وكله فوجئ منه أولادي، وعانوا منه. لأني للأسف لم أُعِدّهم لمثله، بل كنت احذرهم من الاعتداء على أي أحد، أو ضربه. فكيف حللنا المشكلة؟ بعد مداولات مع زوجي، ولأننا كنا من قبل قد جربنا الكلام مع المدرسة والأساتذة ولم نستفد شيئاً، فقد رأينا أن يكون الكلام مع الفتية الذين آذوه مباشرة.
وبالفعل وفي اليوم التالي، ذهب زوجي بنفسه إلى المدرسة في وقت الاستراحة، وحين رآه التلميذ المعتدي متجهاً نحوه ارتعش خوفاً وظن أنه سيضربه، ولكن زوجي اقترب منه بهدوء وطلب منه الجلوس على كرسي مقابل، وخاطبه بطريقة لطيفة، ولامس فيه النخوة والأخوة والرحمة والإنسانية… والعجيب أن التلميذ اعترف واعتذر لابني أمام الجميع، وعاهده ألا يكررها، وبالفعل وفى بوعده، ومرت بقية السنة بهدوء كامل، بل تصاحب هو وابني وأقلع الصبي عن سلوكه السيئ العدواني. وهذه كانت تجربتي الأولى مع التنمر بالمدرسة، ومرت بسلام ولعل الحل الذي توصلنا إليه ينفع مع الحالات المشابهة.
على أني رأيت من بعد، أنه يجب علينا تدريب أولادنا على الدفاع عن أنفسهم، وستسألون: وكيف يكون ذلك؟ وإذا تعرّض ابني للضرب، فهل يَرُدُّ بالمثل، أم يتوقف ويُسامح؟! ومن القراءة وسماع تجارب الأمهات توصلت لما يلي:
1- ينبغي أن نؤكد على أولادنا أن يكونوا خلوقين ومسالمين، ولا يبدأوا بالعدوان على أي أحد.
2- وعلينا أن نحيط أولادنا علماً بأنهم رغم كونهم مسالمين، فقد يتعرضون للتعدي والإيذاء بالكلام أو باليد بلا سبب. وقد لا يجدون من يدافع عنهم (وذلك ليكونوا مستعدين، ولا تكون "صدمة" كما حدث لابني).
3- فإذا تعرّضوا للإيذاء، فيجب أن يَعْلم الطرف المعتدي أنهم مسالمون عمداً وعن قوة (وليس عن ضعف أو خوف)، فنُعلّم أولادنا أن يظهروا رفضهم بلغة الجسد كالنظرة القاسية، والقول بحزم "لا أسمح لك". ويحاولوا الابتعاد، أو اللجوء لمكان آمن، أو الوقوف بجانب شخص مهاب.
4- محاولة مسك يد المعتدي ومنعه من الضرب، أو لف الجسم بحيث يأتي الضرب بالهواء.
5- ونعلّم أولادنا أن يتصبروا ثلاثاً، وهم يتوعدون بالرد، ويحذرون من العواقب.
6- فإذا استمر الطرف الآخر باستضعافهم، فالرد يكون بالمثل، وأنا أرى أنه لا بأس من الضرب من باب التحذير وإظهار القوة، وليس للانتقام والتشفي؛ فنحن لا نريد أن تستمر المضاربة وإنما نريد فقط، وضع حد لها، وبشكل دائم. وهذه الفكرة استلهمتها من جدي قد كان يعلّم بناته كيف تقبض الواحدة منهن يدها، وتضرب زميلتها (التي اعتدت عليها) في بطنها ضربة واحدة فقط، وفي مكان مدروس، بحيث لا تؤذيها الضربة ولا تضرها، ولكن تجعلها تتألم بشكل مؤقت فتنشغل بنفسها… ثم تفكر ألف مرة قبل أن تكرر فعلتها.
7- على أن الحل الأمثل، هو ما فعله ابني الثاني متأثراً بما يسمعه من قصص النخوة والبطولة، فحين رأى كيف يتنمر تلاميذ الصف الرابع والخامس والسادس على تلاميذ الصف الأول والثاني والثالث ويستضعفونهم، قرر أن يشكل جمعية للدفاع عن المظلومين، وتفاعل معه مجموعة من رفاقه الطيبين، وصاروا يحمون الصغار من بطش الكبار أثناء الفرصة (الفسحة) وخلال الدوام، وقد نجحوا نجاحاً باهراً، وكان لهم أثر طيب، فمن جهة أوقفوا التنمر، فكانت حماية ورحمة.
ومن جهة أخرى كانت لعبة هادفة وجميلة، فرغوا فيها طاقاتهم بعمل مثمر، ونمّوا مهارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما تحتاجه من تفكير وتخطيط وقيادة وتنفيذ وتوكيل. وبالفعل، ولأن مدرسة ابني كانت صغيرة، فقد تلاشى التنمر، وأصبح الوئام والمرح يسود بين تلاميذها القلائل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.