يُخطئ مَن يعتقد أن إسرائيل بكل مكوناتها ما زالت معنية بعملية "السلام"، فمنذ انتهاء المرحلة الانتقالية في 4 مايو 1999، واندلاع انتفاضة الأقصى في أواخر سبتمبر من العام 2000، وما رافق ذلك من استخدام مفرط للقوة العسكرية، والذي تمثل بالقتل وهدم البيوت وحصار المدن والقرى والمخيمات وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإعادة السيطرة العسكرية المباشرة من جديد، من قبل جيش الاحتلال، على مناطق "أ"، كل ذلك مهد لتغيرات جوهرية في سياسة إسرائيل تجاه عملية التسوية.
عملت إسرائيل بكل ما استطاعت من قوة خشنة أو ناعمة على تغيير قواعد اللعبة، من خلال فرضها لحقائق جديدة على الأرض، معطيةً لنفسها هامشاً ومتسعاً من الوقت للتحلل رويداً رويداً من اتفاق أوسلو، دون أن تدفع أي ثمن سياسي، عبر استثمار كل المعطيات والمتغيرات المحلية والعربية والإقليمية والدولية، لوضع سياسات وإجراءات جديدة تحدد من خلالها شكل وطبيعة ومرتكزات علاقتها مع السلطة الوطنية الفلسطينية من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية، ما شَكَّل تراجعاً كبيراً، حد الإلغاء، لما تم التوصل إليه عبر المفاوضات مع الفلسطينيين. وما زاد الأمور تعقيداً أنها عادت للتفاوض من جديد مع السلطة الوطنية الفلسطينية على قضايا كانت في الأصل متفقاً عليها عبر المفاوضات.
ولا يقل الوضع مأساوية في مدينة القدس المحتلة، حيث تتعرض هذه المدينة إلى عمليات تهويد وأسرلة ممنهجة تتمثل في تغيير أسماء الشوارع، واحتلال البيوت العربية، وفرض إجراءات إدارية وقوانين تقيد حق الفلسطينيين في ممارسة حياتهم اليومية الطبيعية، بالإضافة إلى الاعتداءات التي تطال الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية، وبخاصة الاقتحامات اليومية، من طرف المستوطنين، للمسجد الأقصى، كذلك الاعتداءات المتواصلة التي تطال المواطنين الفلسطينيين في القدس، والتضييق عليهم، وعدم منح المواطنين رخص بناء، وفرض المنهاج الإسرائيلي على المدارس الفلسطينية، وسحب الهويات من المقدسيين، وتشجيع ظاهرة ترويج وتعاطي المخدرات ذات المصدر الإسرائيلي، وغيرها من السياسات التي تهدف إلى تفريغ المدينة من المواطنين الفلسطينيين. فالحرب على القدس وفي القدس هي حرب على الديموغرافيا والجغرافيا، وعلى الأسبقية التاريخية، بمعنى آخر هي حرب على الرواية.
لم يعد ثمة شك في أن إسرائيل ماضية بإصرار عنيد في تهويد القدس وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية المحتلة.
لقد كانت سياسة الاستيطان في القدس وضواحيها وحفر أنفاق تحت المسجد الأقصى والعبث في أساساته وطرد المواطنين العرب المقدسيين، بعد مصادرة هوياتهم وهدم منازلهم وجرف مزارعهم واعتقال مناضليهم، أكثر من كافية لإعادة النظر من قبل القيادة الفلسطينية والدول العربية بخيار المفاوضات المباشرة وغير المباشرة مع الحكومات الإسرائيلية، وبخاصة مع حكومة اليميني المتطرف نتنياهو.
باختصار هذا هو المشهد اليومي السائد في الأراضي الفلسطينية، والذي يتكرر من رفح جنوباً حتى جنين شمالاً، أما غزة فحصارها غير مسبوق، وتشن حروب عدوانية عليها كلما لاح في الأفق بوادر أزمة داخلية في دولة الاحتلال.
إذاً، هي سياسة موجهة بما تشمله من إجراءات تشكل بمجملها انتهاكات وجرائم مكتملة الأركان، يقترفها جيش الاحتلال والمستوطنون بحق المدنيين الفلسطينيين، في انتهاكٍ صارخ للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وللقانون الدولي الإنساني، وفي مقدمته اتفاقية جنيف الرابعة، الخاصة بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، واتفاقيتا لاهاي. سياسياً، الحكومة الحالية كما الحكومات السابقة، بل والحكومات الإسرائيلية اللاحقة، ستبقى سياساتها واستراتيجيتها وفكرها السياسي مستندة إلى أيديولوجيتها الدينية القائمة على أساس أن هذه الأرض هي أرض (الميعاد)، وبالتالي لا عودة جدية لطاولة المفاوضات من أجل إنجاز التسوية، وفي أحسن الأحول ستكون مفاوضات ولقاءات تخدم المصالح الإسرائيلية وذات صبغة أمنية، أو من أجل نقاش بعض القضايا الإنسانية (تسهيلات) حسب المفهوم والسياسة الإسرائيلية كلما تطلب الأمر ذلك. واستمرار سياسة القبضة الأمنية العنيفة، بما فيها الحلول الأمنية لمواجهة شعبنا، واستمرار استباحة مختلف الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومزيد من ضم الأراضي الفلسطينية للمستوطنات، وتقطيع أواصر الأراضي الفلسطينية، بحيث لا يكون هناك تواصل جغرافي فيما بينها، واستمرار "أسرلة" مدينة القدس، وتهجير المواطنين الفلسطينيين منها، واستخدام الضغط المالي على السلطة الوطنية كأداة.
والاستمرار في انتهاج سياسة العقوبات الجماعية، بما فيها حصار قطاع غزة، والعدوان عليه، كل ذلك من أجل ألا تكون في نهاية المطاف دولة فلسطينية مستقلة.
تعتبر قرارات الشرعية الدولية إحدى الأدوات الدبلوماسية لحل الصراع العربي- الإسرائيلي، ورغم ذلك فقد أسقطت مسيرة التسوية مرجعية العديد من هذه القرارات، فخضعت لتوازن القوى، وبالتالي لإملاءات إسرائيلية واشتراطاتها المستمرة. ولا غرو في ذلك، فطالما جرى الانتقال من الشرعية الدولية إلى ما يمكن تسميته بالشرعية التفاوضية، وفي ظل غياب مبدأي العدل والإنصاف، فضلاً عن اختلال موازين القوة، فما الذي يمنع إسرائيل، ليس فقط من الاستمرار في التنصل من التزاماتها والإفلات من العقاب، وإنما من فرض شروط جديدة وحتى صيغة إسرائيلية للحل النهائي؟!
وعموماً، تجنبت إسرائيل الإعلان عن مواقفها الرافضة للشرعية الدولية بصورة رسمية وواضحة، وعوضاً عن ذلك كانت تذهب مباشرة إلى عمليات الخداع والمماطلة والتأويل، وبالتالي عدم الالتزام بالتطبيق. كما كانت تذهب إلى خلق وقائع جديدة على الأرض، فقادة الحركة الصهيونية وحكام إسرائيل كانت لهم دوماً نوايا مستمدة من حلمهم الصهيوني ووعدهم المزعوم، لكنهم آثروا التعبير عن ذلك بالأفعال غالباً، وفقط في بعض الأحيان بالكلمات الواضحة التي لا لبس فيها.
في كل الأحوال، ستحرص إسرائيل، ما دام الصراع مستمراً، على أحد أمرين أو على كليهما معاً لكل ما ذكر سالفاً من أسباب: الأول أن يجري وسم كفاح الفلسطينيين التحرري بالإرهاب، وبأنه ضد الإنسانية ومواثيقها وأعرافها، والأمر الثاني أن تسحبهم دائماً بعيداً عن حلبة الساحة الدولية لتستفرد بهم، ولتفرض عليهم مرجعياتها ورؤاها. فالشرعية الدولية في نهاية المطاف سلاح يمكن أن تستخدمه إسرائيل بالطريقة التي تساعدها على تحقيق أهدافها كلما سنحت لها الفرصة لذلك، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها، وتعرفها إسرائيل جيداً، أن سلاح الشرعية الدولية في أيدي الفلسطينيين أشد مضاءً وأكبر أثراً.
مع التحولات التي شهدها الوضع الإقليمي والدولي عملت إسرائيل مدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على أساس أن شرعية النظام الدولي المنهار، وما صدر عنها من قرارات وتوصيات ومفاهيم، لم تعد صالحه كشرعية للنظام الدولي الجديد. فسعت جاهدة داخل أروقة النظام الدولي لإلغاء قرارات الشرعية الدولية السابقة حول فلسطين، أو إضعاف قيمتها القانونية. وبالفعل فقد تمكنت بدعم من أمريكا، وبتواطؤ أطراف أخرى من إسقاط قرار مساواة الصهيونية بالتمييز العنصري عام 1991.
بالرغم من ضم القدس ظل استخدام القوة غير الشرعية أداة وجود إسرائيل فيها. في الأثناء تواصلت الإجراءات المادية والعملية لتهويدها من خلال تطويقها بالأحزمة الاستيطانية، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي، وسحب الهويات المقدسية، وكل التغيرات الجغرافية والديموغرافية التي دأبت إسرائيل في تطبيقها منذ بداية الاحتلال عام 1967م وحتى الآن. بعد حرب يونيو مباشرة أعلن ليفي أشكول، رئيس الوزراء الإسرائيلي "أن إسرائيل لن تتخلى مطلقاً عن الجزء القديم من القدس، وأنها ستعمل من أجل حدودها الطبيعية الحقيقية". كما حدد إسحاق رابين مفهوم الأمن في أنه ما يمّكن إسرائيل من السيطرة على وادي الأردن وعلى القدس موسعة وموحدة وعاصمة أبدية لدولة إسرائيل.
وبعد توقيع اتفاق أوسلو، صدر قرار المحكمة الإسرائيلية العليا باعتبار الحرم الشريف في القدس جزءاً من دولة إسرائيل، ووضعه تحت وصاية جمعية (أمناء الهيكل) الصهيونية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.