تتركز أنظار العالم حول الصراع الدائر في السودان والمعارك المستعرة داخله بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع، حيث يواجه هذا البلد عدداً من المسارات المحتملة، مع تعثر جهود السلام التي تقودها الولايات المتحدة، ما قد يجر هذه الدولة الإفريقية نحو حالة من الفوضى مثل جيرانها الأقربين. والمقصود هنا سيناريو الانهيار المشابه الذي سبق أن عاشته ليبيا عقب انفجار أزمتها الداخلية عام 2011، وما تلاها من تدخل عسكري مدمّر لحلف شمال الأطلسي، أتى على ما تبقّى من سراب القذافي تاركاً إياها والدول المجاورة لها تواجه حتفها الأمني منفردة، وبنظرة أوسع على السودان نجد أن المعارك قسّمت الولايات السودانية إلى مناطق خاضعة لنفوذ كلا الطرفين، ما يثير الجدل حول السيناريو الأكثر قتامة الذي يتمثل في دولة مقسمة يسيطر فيها الجانبان على مناطق مختلفة، ولا يستطيع أي منهما تحقيق نصر كامل، ما يؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة، ونشهد تدخلات أكبر من القوى الأجنبية.
ومع مرور أسابيع على الاشتباكات الدائرة بين طرفي الصراع لا مؤشرات حالية على توقف القتال، ولا دليل على تفوق فريق على آخر، ولا حتى على جنوح أي منهما للتفاوض الجدي، في حين ينحصر دور المجتمع الدولي في المناشدات والمطالبات دون تدخل جدي لوقف الحرب عدا بعض المبادرات المطروحة ومنها مفاوضات جدة، التي أعلن الجيش السوداني انسحابه منها، وحتى الهُدن التي تم الاتفاق عليها منذ اندلاع الصراع لطالما تم اختراقها. وبين هذا وذاك تعدد سيناريوهات ومألات الأزمة السودانية، لكن سيناريو التقسيم يبدو الأقرب حتى الآن.
لم يفاجئ فشل محاولات إحلال السلام في السودان الأطراف الدولية بقدر ما لم يفاجئها نشوب الصراع من أساسه، والذي يمثل ذروة التوترات المتصاعدة بين القادة العسكريين المتنافسين. لكن ما كان صادماً لأغلب المتتبعين لهذا الصراع هو حجم وشراسة الحرب التي اجتاحت مناطق عديدة في بلد عانى سابقاً من العديد من الانقلابات العسكرية.
وبين هذا وذاك، لم يغب دور التحالفات الإقليمية والدولية في هذه الأزمة والتي تمثل بُعداً آخر للصراع الدائر بين الدعم السريع والجيش السوداني، وترسخ حالة الانقسام على الأرض، التي تحول دون بسط طرف لسيطرته على كامل الأراضي السودانية، فالسودان اليوم يدفع ثمن التدخلات الخارجية والصراع على خيراته، فأمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الإقليمية تتصارع لنيل ما تقدر عليه من فوائد مستغلة بذلك الصراع القائم، وكل هذه القوى لها حسابات ومصالح وقد تمتد المواجهات ويتحول السودان إلى مناطق نفوذ وانقسامات جديدة ما بين المناطق الممتدة في الخرطوم وأم درمان ودارفور وساحل البحر الأحمر والجنوب، فلا يمكن إنكار حقيقة أن السودان "جائزة جيوسياسية" هامة، فهو يطل أكثر ممرات الشحن ازدحاماً على البحر الأحمر، ويمتلك احتياطيات غنية من الذهب والمياه والنفط، وهي الحقيقة التي أدركتها روسيا قبل سنوات ووضعت بموجبها السودان ضمن دائرة اهتماماتها، وتجلت الرغبة الروسية في بسط نفوذها في السودان في إعلان بوتين، في ديسمبر/كانون الأول 2020، بناء -بموجب عقد إيجار مدته 25 عاماً- منشأة بحرية قادرة على إرساء السفن السطحية التي تعمل بالطاقة النووية في بورتسودان، مباشرة عبر البحر الأحمر من المملكة العربية السعودية، أحد أكبر الشركاء التجاريين للسودان. وفي الوقت نفسه، فإن النفوذ المتنامي لمجموعة فاغنر في دارفور يساعد موسكو على إنشاء ممر عبر السودان إلى المواقع الروسية الراسخة في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى.
فمنذ مدة تسعى الصين وروسيا إلى تقويض النظام الذي تقوده الولايات المتحدة على مستوى العالم، وهو ما تسعى أمريكا لمحاربته بشتى الطرق، لكن الطريقة الوحيدة لرفع مكانة واشنطن في البحر الأحمر هي العمل مباشرة مع الحلفاء الذين يمكنهم، في هذه الحالة، التفاوض على وقف إطلاق النار بين حميدتي والبرهان ما يمكنها من استرجاع ما تبقى من نفوذها في المنطقة، خاصة أن الولايات المتحدة تنظر إلى السودان على أنه جزء من اتفاقية أبراهام والتي تسعى من خلالها لتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، ومن ثم عدم السماح بأي وجود روسي في السودان، فأكثر ما يزعج واشنطن هو أمن البحر الأحمر، خاصة مع وجود قاعدة روسية في بورتسودان يدفعها أمريكا إلى التحرك من أجل قطع الطريق عليها.
وبالتزامن مع هذا قد تؤدي هذه الصراعات الهامشية إلى إطالة أمد الصراع الرئيسي في السودان وتحول دون التوصل إلى تسوية نهائية بين الطرفين، ما يعزز استمرار تبادلهم الاتهامات بمساعدة أطراف أخرى في المنطقة ستؤدي بالضرورة إلى حرب طويلة متشابكة ومعقدة، فالصراع الدائر في السودان لا ينحصر فقط بين قوتين عسكريتين بقيادة عبد الفتاح البرهان وحميدتي فقط، بل يحاول كل طرف استخدام شبكة حلفاء نسجها خلال الأعوام الماضية من سياسيين واقتصاديين ودبلوماسيين للحصول على دعم.
فحميدتي يُعدّ أحد رجال الاتحاد الأوروبي الذين يحدّون من الهجرة غير الشرعية وتهريب الأفارقة إلى أوروبا، ما درّ أموالاً طائلةً عليه، ولا تتوقف تلك العلاقات الخارجية لحميدتي على الجانب السياسي فهو يمتلك قوات كبيرةً داخل ليبيا وعلى حدودها مع السودان، وقوات أخرى على حدود إفريقيا الوسطى.
وعلى الجانب الآخر، يتسلح الفريق البرهان بعلاقات خارجية واسعة، غير الدعم اللا محدود من بعض الدول العربية والغربية التي ترى أن السودان نموذج لحكمها للمنطقة، وهي تطارد الدعم السريع وتعدّه عدوّها الأول لأنه كان سبباً رئيسياً في إزاحة البشير عن الحكم.
متغيرات كثيرة وحسابات معقدة تفرض نفسها بقوة، ضمن الحرب التي لم تجد حتى الساعة من يضع لها حداً، ويبقى الخاسر الوحيد فيها هو الشعب السوداني، الذي يعاني من الحرب والجوع واللجوء وكوارث إنسانية من المحتمل أن تلحق به في حال استمرت الحرب لوقت طويل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.