المعطيات التي كشفت عنها المندوبية السامية للتخطيط حول نسب التضخم تشعر بحالة من الغموض تكتنف وضعية الاقتصاد المغربي، وذلك بسبب عدم اليقين في السيناريو الذي سيتجه إليه التضخم، وما إذا كان الانخفاض الطفيف الذي سجل في نسبة التضخم في شهر أبريل (من 8.2% إلى 7.8%)، سيستمر بهذه الوتيرة، لينعكس في صورة انخفاض في نسبة التضخم السنوية، أم أنه مجرد انخفاض طارئ مرتبط بانخفاض بعض المنتجات التي تدخل ضمن سلة المنتجات الصانعة للتضخم في المغرب.
الأرقام السنوية، تشير إلى أن سنة 2022، خُتمت بتسجيل نسبة تضخم بـ6.6%، في حين سجلت نسبة التضخم المتحركة المبنية على قياس ما بين شهر أبريل 2022 وأبريل 2023 نسبة بـ7.8%، وهو ما يعني أن نسبة التضخم، إذا استمرت وضعية الأسعار بالوتيرة التي هي عليه، ستتجاوز 6.6% كنسبة سنوية.
الحكومة، تستند إلى الانخفاض المسجل في نسبة التضخم في شهر أبريل الماضي، وترى أن سياساتها آتت أكلها، وأن وتيرة التضخم بدأت بالفعل في الانخفاض، وأنها إذا استمرت بهذا النحو، فإن سيناريو الارتفاع سيتوقف، ويمكن أن تختم السنة بنسبة مستقرة في حدود النسبة المسجلة سنة 2022، لكن عدداً من الاقتصاديين يفسرون انخفاض التضخم في الشهر المذكور بانخفاض أسعار المحروقات مرتين خلال نفس الشهر، وأن ذلك كان له بعض الأثر على أسعار العديد من المنتوجات الغذائية التي عرفت تراجعاً طفيفاً، وأنه لا توجد مؤشرات أخرى، تدفع للاعتقاد بأن مجموع سلة التضخم، سيقع فيها انخفاض بما سيؤثر إيجاباً على انخفاض النسبة السنوية الثابتة للتضخم، وأن المواد الغذائية التي تشكل نحو 40% من سلة التضخم، تسجل ارتفاعاً في الأسعار بلغت نسبة 16.3% خلال هذه السنة كما هي معطيات المندوبية السامية للتخطيط.
قبل شهر رمضان المبارك، خرج كل من والي بنك المغرب والمندوب السامي للتخطيط للقول إن التضخم لم يعد أمراً طارئاً مرتبطاً بتداعيات جائحة كورونا والحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأنه أضحى معطى هيكلياً بسبب سنوات من الجفاف، وتوجيه الإنتاج الفلاحي للتسويق، وما نتج عن إشكالات العرض في السوق المحلية.
الحكومة، خرجت للرد ولإعادة نفس الخطاب حول تأثيرات السياق الدولي والإقليمي، وأن وضعية الاقتصاد المغربي تسير في اتجاه التعافي بفضل إجراءاتها الاستعجالية.
لكن الواقع، يؤكد شيئاً مختلفاً، فالحكومة اضطرت إلى استيراد لحوم الأبقار، واتجهت نحو استيراد رؤوس الأغنام لتغطية حاجة المواطنين إلى أضحية العيد، بينما أعلنت وزارة الفلاحة المغربية عن محصول الحبوب في الموسم الفلاحي الحالي في حدود 5.51 ملايين طن، أي أقل بكثير من توقعات الحكومة في قانون المالية بمليوني طن (توقع قانون المالية 7.5 مليون كم)، وهو ما يعني أن نسبة التضخم ستزيد بحكم الارتفاع في حجم الاستيراد.
هذه المعطيات، تؤكد أن قدرة الحكومة على مواجهة تحدي ارتفاع التضخم سيكون محدوداً، وأنه أضحى يشكل معضلة بنيوية للاقتصاد المغربي، بسبب تراكم سنوات الجفاف، والارتهان إلى السوق الدولي في تلبية الحاجات الطاقية، وأيضاً بسبب ارتفاع جميع المواد الغذائية وإشكالات قلة العرض قياساً إلى ارتفاع الطلب.
في الواقع، ثمة 3 مؤشرات أساسية يمكن أن نقيس بها تأثير التضخم على الاقتصاد المغربي، وما إذا كانت نسبته تصل إلى درجة خلق احتقان اجتماعي، وهي بالمناسبة مؤشرات تهم وضعية الطبقات الوسطى التي تعتبر محدداً أساسياً في رسم منحنيات السلم الاجتماعي.
أول هذه المؤشرات، هو قطاع البناء، ففي الغالب ما تكون الطبقات الوسطى هي المحرك الأساسي لهذا القطاع، فالأرقام تتحدث عن تراجع في مبيعات الإسمنت بنسبة 8 إلى 9%.
ثاني هذه المؤشرات، هو وضعية مبيعات قطاع السيارات، والتي تعتبر الطبقات الوسطى هو الزبون الرئيسي لها، فقد سجلت هي الأخرى تراجعاً بنسبة مماثلة.
أما المؤشر الثالث، فيتعلق بنسبة الإقبال على التعليم الخصوصي، فحسب المعطيات التي كشف عنها شكيب بنموسى، وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة أن عدد التلاميذ المتمدرسين في التعليم الأولي الخصوصي تراجع بـ3% خلال الموسم الدراسي الجاري، وهو ما يفيد بتضرر وضعية الطبقات الوسطى، بالشكل الذي اضطرها إلى تأخير تمدرس أبنائها في التعليم الأولي حفاظاً على توازناتها المالية.
الحكومة، اضطرت بفعل الصدمة في 18 مايو 2023، إلى فتح اعتمادات مالية إضافية لفائدة الميزانية العامة بمرسوم بحوالي 10 مليارات درهم، وضبطت صرف المبلغ بـ4 استعمالات.
التأمل في هذه الاستعمالات يفيد بأن 7.4 مليار درهم، وجهت لمصرفين أساسيين، هما المكتب الوطني للماء والكهرباء بواسع 4 مليارات درهم، ومواجهة آثار التضخم بواقع 3.3 مليار درهم، أي إن الحكومة اعترفت بشكل عملي، بآثار التضخم بتوجيه أكثر من ثلثي الاعتماد المخصص لمواجهة التضخم بحكم أن ما خصص للمكتب الوطني للماء والكهرباء هو في جوهره بسبب آثار التضخم.
الخيارات المتاحة أمام الحكومة جد محدودة، فقد أضحت الحاجة ماسة إلى تنزيل فوري لتعميم الحماية الاجتماعية، والذي يتضمن دعماً مباشراً للفئات الهشة، وهو ما وعدت بتنزيله في الفصل الثالث من سنة 2022، ولم تفِ بذلك، وهي الآن تعد بتنزيله في الفصل الأخير من سنة 2023، ولم تلتزم بالوضوح الكافي، في بيان إلى أين يتجه مبلغ 3.3 مليار درهم الموجه لمواجهة آثار التضخم، وهل سيكون من مشموله تفعيل الدعم المباشر، أم سيتم ترحيل تنزيل الحماية الاجتماعية إلى السنة القادمة؟
الإجراء الثاني، الذي أثبت مفعوله من خلال تسجيل انخفاض طفيف في التضخم في شهر أبريل، هو إخضاع شركات المحروقات للمراقبة، ابتداء من الاستيراد إلى التوزيع، لاسيما وأن لجنة الاستطلاع البرلمانية، سبق لها أن ذكرت في تقريرها تحقيق شركات المحروقات لأرباح غير مشروعة بلغت حوالي 17 مليار درهم.
الإجراء الثالث، الذي أثبت فعاليته في عدد من التجارب الدولية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وهي أن تلجأ الحكومة إلى سياسة الضغط على الشركات الكبرى المنتجة وعلى الأسواق الممتازة من أجل الاكتفاء ببيع لائحة من المنتوجات الأساسية بكلفة المنتج، والتضحية بالربح أو بالجزء الأكبر منه للتعبير عن مواطنتها، كما حصل في فرنسا التي حصرت 300 منتوج، متسبب في التضخم، وحصل الاتفاق بين الحكومة والأسواق الممتازة والشركات على ضبط سعرها.
الإجراء الرابع، وهو أن يباشر مجلس المنافسة عمله، بعد أن صدرت المراسيم التطبيقية، فقد كان في السابق يتعلل بعدم القدرة على مواجهة التواطؤات الكبرى بين الشركات على رفع أسعار المنتجات بدعوى عدم وجود هذه المراسيم. اليوم، أصبح مجلس المنافسة معنياً بالتصدي لهذه التركيزات، وإيقاع العقوبات على الشركات التي لا تحترم قانون المنافسة، بما ينعكس إيجاباً على الأسعار.
ثمة شك كبير في إمكان لجوء الحكومة لهذه الإجراءات، فالجزء الأكبر من شركات المحروقات مملوك لرئيس الحكومة، وتلكؤ الحكومة في التنزيل لفوري للحماية الاجتماعية، يشي بوجود خلافات داخل التحالف الحكومي، وتقدير يرى أن الأولى دعم الشركات التي تمتص البطالة وتزيد في نسبة النمو بدل توجيهه إلى الفقراء، والضغط الذي مورس على البرلمان من أجل تلطيف تقرير اللجنة الاستطلاعية لأسعار المحروقات، فضلاً عن الصراع الذي نشأ داخل مجلس المنافسة، والذي أفضى إلى إعفاء رئيسه السابق، كل ذلك مؤشرات تدل على قدرة لوبي المصالح على إبطال مفعول مجلس المنافسة، بما في ذلك مراسيمه التطبيقية. أما حكاية إلزام الشركات الكبرى أو الأسواق الممتازة بضبط الأسعار والتضحية بجزء من الربح، فالحكومة التي تمثل في الجوهر هيمنة رجال الأعمال لا يمكن تقطع أصابعها.
ليس ثمة خيارات أخرى، فما دون ذلك، من الاستسلام للانتظارية، يعني أن السلم الاجتماعي سيبدو أكثر تهديداً، وأن اللجوء إلى الاعتمادات الإضافية، لن يكون حلاً في المدى القريب أو المتوسط ما لم يتم الاتجاه بجرأة وإرادة سياسية لمواجهة التضخم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.