بينما أتصفح صفحة الفيسبوك الخاصة بي أجد ترشيحاً من إحدى الصديقات للانضمام لورشة كتابة ذاتية، تصف صديقتي الورشة بأنها معجزة وبأن" فلوسها حلال"، أدخل إلى الصفحة الشخصية للمدربة وأفهم أن تلك ورشة تعافي بالكتابة الذاتية من إساءات الطفولة… أتابع التعليقات وأحسم قراري بالمشاركة بها.
أعرف ما أعانيه تحديداً فمنذ زمن وبسبب القراءة المستمرة في علم النفس في رحلتي الشخصية للتعرف على نفسي والوصول لأفضل نسخة ممكنة مني أعلم أني عانيت من الإهمال العاطفي في الطفولة، وبسبب قراءاتي في كتب التربية بعد أن وضعت ابنتي يتأكد لي الأمر.
فكل ما يحرص علماء التربية على تذكيرنا وتنبيهنا لأن نقوم به مع أطفالنا خاصة من طريقة التعامل مع مشاعرهم، لم أتلقه بالطفولة.
ما هو الإهمال العاطفي في الطفولة؟
الإهمال العاطفي هو عدم استجابة الآباء في الطفولة لمشاعر أبنائهم وإهمال تقديرها وعدم التعامل معها بصورة سليمة.
فكم منا يتذكر تهكم والديه عليه نتيجة بكائه بعد تكسر لعبته؟ أو وصفه بأنه شخص" حساس للغاية" عندما بكى من مشهد معين في كارتون؟ وأصبح الأمر بعد ذلك مسار تهكم من العائلة والأصدقاء.
إن ما يصيب الطفل في تلك اللحظات هو الشعور بأن ما يشعر به غير مقدر وربما يصيبه الشك بأنه غير حقيقي أيضاً.
استطراد
قلت في البداية إنني عرفت يقيناً أنني عانيت من الإهمال العاطفي في طفولتي بعد قراءتي في علم النفس، أي أنني عرفت ذلك بعد أن أصبحت شخصاً بالغاً وناضجاً…. وربما تتساءل عزيزي القارئ عن السبب الذي جعلني " أنبش" في أحداث الطفولة خاصة إن لم تكن سعيدة؟
في الواقع إنني لم أفتش في الماضي بل إنني كنت أحمله معي دون إدراك مني!
نعم فإن آثار الإهمال العاطفي تمتد مع الفرد وتنعكس على الكثير من صفاته الشخصية وترسم الكثير من صفات حياته حتى بعد البلوغ دون أن ينتبه للأمر.
ومن هنا ومن خلال متابعتي لتلك الصفات بدأت بالبحث وعرفت.
فما هي تلك العلامات التي تدل على التعرض لإهمال عاطفي في الطفولة؟
علامات تدل على أنك تعرضت للإهمال العاطفي في الطفولة
على الرغم من أن الإهمال الذي نتحدث عنه يحدث بشكل رئيسي في الطفولة، إلا أنه ينعكس على بعض السلوكيات ونمط الحياة في الكبر، مثل:
1- رفض المساعدة والدعم والاعتماد على الآخرين.
يولد الطفل وهو بحاجة إلى الشعور بالأمان والتقدير وبالتأكيد، فإن أول من يلجأ إليهم لتلبية تلك المشاعر هما الوالدن، فإن شعر بأنهما يهملان ما يشعر به ويقابلانه باستخفاف، سيتولد بداخله مشاعر عميقة بعدم الرغبة في طلب المساعدة والدعم من الآخرين.
2- عدم القدرة على الوصول لنمط محدد من الشحصية
على الأغلب فإن الطفل الذي لم يستمع له أبواه عاطفياً يحيا بتشتت داخلي بين ما يريده ويشعر به وما عليه الاعتراف به ظاهرياً، لذا تجده لا يريد أن يعترف بنقاط قوته وضعفه وما يحبه وما يكرهه بوضوح.
3- عدم التعاطف مع النفس
يحتاج المرء إلى أن يتعاطف مع نفسه حتى تجاه ما يرتكبه من أخطاء، خاصة بعد النضوج وفهم الحياة بصورة أكثر وضوحاً ورحمة، لكن ألم يقابلك بعض الأشخاص الذين لا يتعاطفون مطلقاً مع أنفسهم؟
هل لم يسبق لك أنت ذاتك أن قمت بجلد نفسك على أي مشاعر لك تجاه الآخرين؟
لا يمكن لشخص عاش طفولته يشعر بعدم احترام لما يشعر به أن يتعاطف مع نفسه ويعد ذلك رد فعل طبيعي لما رسخه بداخله أهله بأنه لا يستحق التعاطف ولا الاحترام؟
3- اللوم الدائم للنفس
تخيل معي طفل في الخامسة من عمره يبكي لأنه خسر في أحد الألعاب الإلكترونية مثلاً، ويذهب إلى أمه ليخبرها بما حدث فتقابل الأم دموعه بنظرة سخرية واستهزاء ولوم أن الأمر لا يستحق.
هنا حاول أن تتخيل مشاعر الطفل؟
بالتأكيد يشعر باللوم على ما يشعر به بالفعل؟ لذا فيكبر وينضج وبداخله شعور راسخ بأنه هو الأحق باللوم، فلا يوجد مخطئ غيره.
4- الشعور بالذنب تجاه احتياجاتك العاطفية
إن تلبية الاحتياجات العاطفية واحد من مظاهر الصحة النفسية السوية للإنسان، وتبدأ منذ اللحظات الأولى لميلاده، بداية من احتضان الأم لطفلها والاستجابة لبكائه، حتى الاهتمام بمشاعره وتقديرها.
لذا يرى خبراء التربية أن الإهمال العاطفي للطفل حتى في سنوات عمره الأولى يعلمه أنه غير مقدر؛ مما ينعكس على شعوره بالخجل من احتياجاته العاطفية.
5- عدم القدرة على احترام الذات
يعاني الأطفال من تدني احترام للذات إن لم يشعروا بتقدير أبويهم لهم منذ الطفولة، وبالتأكيد أحد سبل الاحترام هو تقدير مشاعرهم دون الاستخفاف بها أو نكرانها.
أتذكر صديقتي التي وصلت لمكانة مميزة في عملها وكان الجميع يحترمها للغاية، فهي بالفعل حققت الكثير من النجاحات التي لا يمكن لعاقل أن ينكرها، لكنها للأسف كانت دائماً تشعر بأن ما حققته ليس كافياً ولم يكن لديها القدرة على تقدير نجاحها ولا ذاتها.
التحقت معي صديقتي بإحدى الورش من قبل وكان السبب الذي قالته في تفسير شعورها بأنها لم تتعود أن تشعر بأن غيرها" يحترمها" ويقدرها حتى في مشاعرها التي كان يرفضها والداها ويتهكمان عليها بسببها دائماً.
6- عدم حب التواجد بالقرب من الوالدين
يمكن أن تلاحظ في دائرة معارفك ذلك الشخص الذي يخبرك بأنه يحب والده، لكنه لا يشعر بالراحة في أثناء التواجد معه، لعل هذا بسبب الشعور الخفي بالإهمال الذي يزداد لديه كلما كان بالقرب منه.
7- عدم القدرة على البوح بالمشاعر
يعد البوح بالمشاعر والتعبير عنها- سواء كانت مشاعر إيجابية أو سلبية- إحدى المهارات الحياتية التي يتعلمها الطفل داخل أسرته.
فالطفل الذي لم يتعود أن تسمعه أمه كلمات الحب لن يتمكن يوماً من قولها، تماماً كما الحال مع الطفل الذي تعود أن يكبت مشاعره؛ لأنه لا يتم الاعتراف بها سيجد صعوبة دائمة في البوح بمشاعره بسهولة.
الآن جاء دورك، فإن كان الإهمال العاطفي هو نتيجة لأفعال الآباء فالاستسلام له وعدم محاولة مداواة أوجاع الماضي هي مسؤوليتك من دون جدال.
طرق للتعافي من الإهمال العاطفي
لا يعد الأمر سهلاً بكل تأكيد، ولكنه يحتاج إلى الكثير من الجهد والرغبة الأكيدة في التخلص من الآثار السلبية لتلك المشاعر، كان الحافز الأساسي بالنسبة لي هم أولادي الذين لا أريد أن أنقل لهم تجربتي، فكان لا بد من السير في طريق التعافي.
1- اقبل نفسك واعترف بما حدث لها
عندما نعترف بالأخطاء التي ارتكبها الآباء نخاف كثيراً من الوقوع في فخ العقوق، وهو أمر خاطئ بكل تأكيد، لذا عليك بأن تعترف بما وقع عليك أمام نفسك وتقر بأنه كان خطأ وبأنك تعرضت للكثير من الإهمال حتى وإن كان عن غير قصد.
2- تعود أن ترى مشاعرك أولوية
في ورشة الكتابة التي أحضرها الآن تعرفت على كيفية أن أفكر بمشاعري كأولوية، بالطبع يجب أن أحترم مشاعر الآخرين وأن أقدرها لكن لا يجب أن أكبت مشاعري وألا أعترف بها خوفاً على مشاعر الآخرين أو تجنباً لحدوث مواجهة.
3- اطلب تلبية احتياجاتك العاطفية
ليس من شريكك فقط بل اطلب من أولادك حضناً أو قبلة إن أردت ذلك، ولا تخجل من ذلك أبداً.
4- اكتب يومياتك
لا تحتاج الكتابة اليومية إلى كاتب متخصص، فيكفيك ورقة وقلم ومكان مناسب لتفريغ كل مشاعرك أمامك ومن ثم النظر إليها ومحاولة الوصول لأسبابها، إن كان سبب تلك المشاعر والأفعال ما تعرضت له لإهمال في مشاعرك فإن الكتابة تساعدك على رؤية الأمر بصورة أشمل من الخارج وتساعدك في التعافي.
5- استشِر متخصصاً
لن يقوم المتخصص بمحو كل آثار الماضي من داخلك، لكنه قد يوضح لك العديد من السبل للتعافي والتعامل معها بصورة إيجابية لا تسبب أضراراً لكل في مستقبل.
إن الإهمال العاطفي لا يتساوى مع إساءات الطفولة الجسدية، لأن الأخيرة لها دليل حي ويمكن الاعتراف بها، أما الأولى فهي أشد قسوة وتأثيراً على حياة الفرد؛ لذا لا تختذل أي جهد للاعتراف بها ومحاولة مداواة تأثيرها عليك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.