الذين تخطّوا سن الثلاثين يتذكرون- حسب درجة اهتمامهم بالسينما- الأفلامَ التي كانت تُنتَج أواخر التسعينيات وبداية الألفية، إذا أردنا تقسيم الأنواع الثلاثة التي كانت تحتل المشهد فهي: الخيال العلمي، والأفلام التاريخية، والأفلام النفسية الغامضة.
في تلك السنوات عرفت الشعوب ثورة الإنترنت، لم تكن لديهم فكرة كيف يستخدمونه، وما الفائدة منه؟ في تلك السنوات أسهم الإنترنت في تقريب بعض المفاهيم العلمية إلى الشعوب، ما أنتج شيئاً يسمى "pop-culture".
استغلت هوليوود هذه الظاهرة للتربع على الموضة الجديدة التي تغزو العالم، ولكي تُريَ الناس ما يحب أن يروا من خلال الإنترنت والعالم الافتراضي، صحيح اعتمدت كثيراً على أعمال الفلاسفة أمثال إسحاق عظيموف، وخبير الروبوت نوستراداموس بالقرن العشرين فيما يخص الآلة، وكذا تصورات سابقة مثل ما جاء به الروائي والمغامر الفرنسي جول فيرن، وآخرون في علم الاجتماع مثل جون بودريار، لكن الأفلام لم تكن وفية للرسالة، لأن السينما لا يمكنها أن تكون أخلاقية، لأنها تخاطب من لا يبحثون عن الأخلاقية. طوال فترة الثمانينيات والتسعينيات إلى 1998 عجّت السينما الأمريكية بأفلام الخيال العلمي، على رأسها "Starwars"، والتي سأذكر العديد منها بعد قليل، إلا أن ماتريكس، الذي ظهر سنة 1999 كانت له الكلمة العليا والترويج والنجاح الأكبر، بالرغم من أنه لم يكن الأول في مجاله، في عديد من التفاصيل السينمائية وكذلك الفكرية.
ما هي المصفوفة؟
أول ترويج لفيلم "ماتريكس"، أو المصفوفة في الترجمة العربية للكلمة، اكتفى المخرجان فيه بترك سؤال واحد للمشاهد: "ما هي المصفوفة؟".
بعد أن ظهر "ماتريكس" للنور راحت عديد من الأفلام تحاول تقليده مباشرة، مثل فيلم "Art of war" لكريستيان دوغاري.
لكن ماتريكس نفسه كان قد أخذ العديد من التفاصيل من أفلام سبقته، مثل الحركة البطيئة عند المواجهة، وذلك من فيلم "Perdu dans l'espace" لستيفان هوبكينس، أو من فيلم "Blade" لستيفان نورينتون.
كذلك نجد أن فكرة الـ"ديجا فو" التي استعملها ماتريكس كانت قد ظهرت قبل ذلك في فيلم "Men in black" لباري سونيفيلد، والأمر الذي سيصدم محبي ماتريكس حتماً هو أن فكرة القرص الأزرق والأحمر لم يكن أيضاً فكرة المخرجين واتشوفسكي، فقد سبقهم في ذلك فيلم "Total recall" مع بطله شوارزينغر سنة 1995، وسأعود لهذا لاحقاً.
ماتريكس اعتمد على شيء ذكي جداً، وهو وضع قدم في الماضي وقدم في المستقبل، استعمل المخرجان كل الإشارات التي تلخص سينما التسعينيات كنوع من الإشارة إلى نهايتها، بداية الألفية الجديدة.
هوليوود عالم من التقليد، وعالم من صناعة الموضة، وعالم من صناعة التفكير والفلسفة لكل عقد، ذلك أننا لو فحصنا كل عقد سينمائي لوجدنا أن كل حقبة تتميز بأفلام متشابهة، الستينيات مع أفلام الواسترن، والسبعينيات مع الرومانسيات، والثمانينيات وبداية التعدد السينمائي الأمريكي-الأوروبي والهوكونغي (الفنون القتالية)، إلى أن عدنا إلى الانغلاق الذوقي في سنوات التسعينيات كما أشرت أول المقالة. سنة 1999 كذلك عرفت عودة سلسلة ستار وارز، ورغم التباين الكبير بين النوعين فإن هناك تلاقياً كبيراً في بعض الجمل، ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت هوليوود فعلاً تعمل على وضع خطوط عريضة للرسائل الفكرية.
"انهض نيو!"
ماتريكس ومن سبقه أبناء ما يُسمى بالـ"سايبر بنك"، هذا النوع المتفرع من الخيال العلمي عرف بداياته في الثمانينيات، تحديداً مع رواية "Neuromancer" للروائي ويليام جيبسون، الذي يسمى أبو السايبر بنك في الرواية، لأنه سُبق سينمائياً سنة 1982 في فيلم "Blade runner"، من الأفلام المتأثرة بالـ"سايبر بنك" نجد فيلم "Programmé pour tuer" سنة 1995 للمخرج بريت ليونار، مع النجم راسل كرو.
لقد أسهم ويليام جيبسون في صناعة فكرة إنترنت يشبه ما نحن عليه، والذي سمّاه "ماتريكس".
كما تعلمون، الشباب المهووسون بفكرة الحبة الزرقاء والحبة الحمراء يشيرون دائماً إلى لقطة مورفيوس وهو يحمل واحدة في كلتا يديه، يعرض بذلك على نيو أن يختار، إما الحبة الزرقاء التي تجعله يعيش في الكذب والمحاكاة في حالة اليقظة، أو أن يبتلع الحبة الحمراء ليرى حقيقة العالم كما هو فعلاً، لكن وهو حالم. الحقيقة أن فيلم توتال ريكال استعمل نفس الأسلوب، بنفس الأقراص، لنفس الهدف! ذلك أن البطل كان يحلم بالعودة لكوكب المريخ، لكنه لم يستطع، فقام الباحثون بعملية تجعله يعيش رحلته اعتماداً على ذاكرته وهو نائم، بيد أنهم اكتشفوا أن ذاكرته قد مُحيت، وقد أصبح مجرد عميل للمرخيين. وبعد عدة مغامرات زار البطل دكتوراً جعله يشك فيما اذا كان فعلاً كما يظن، أم أنها مجرد تخيلات، أخبره بأن ما يعيشه مجرد حلم، فأعطاه قرصاً أحمر ليتناوله ويعود بذلك إلى الواقع. كذلك الفكرة مأخوذة من "أليس في بلاد العجائب".
هل يعتبر ماتريكس سارقاً للأفكار، أم هو مجرد ملمّ ومشير لها؟
أعتقد أن ماتريكس هو خلاصة ذلك العصر كما أشرت، فالقضية ليست سرقة، بل هي إشارة أن كل ما يجب أن يقال حول الخيال العلمي جمعه ماتريكس، وأشار أنه قد انتهى، لننطلق إلى عالم آخر لا يمكننا أن نمثله في تلك الفترة، ماتريكس يقول إن المستقبل مستحيل حالياً، ما يجعله في عيني فيلماً عبقرياً من الجانب الفكري.
حذار، روعة ماتريكس لا تجعل منه فيلما ذا أفكار صحيحة، لأنني كما أشرت الأفلام ليست وفية تماماً للفلسفات التي استلهمت فكرتها منها، كذلك هذا لا يمنعه من السرقة الفكرية المُزعجة جداً للمخرجين الآخرين، فقد واجه ماتريكس حملة شديدة جداً من مخرج فيلم "dark City" سنة 1998، فالفيلمان متطابقان بشكل صارخ ومزعج، إلا أن ماتريكس 1999 نجح، والآخر لا، من يريد أن يتحقق، فليشاهد الفيلم المذكور، أو يمكنه أن يشاهد المقارنات الموضوعة في منصة يوتيوب.
في النهاية، أرى أن فكرة ماتريكس كانت رائعة في تلك السنوات، فهدم نجاح "ماتريكس 4" سنة 2021 عائد إلى أن فلسفة العالم قد اختلفت، بالرغم من أن ماتريكس الأخير حاول أن يغير بعض الأفكار، وأن يواكب الموضة الحالية، فإنه لم ينجح، لأننا كمحبين لماتريكس الأصلي أردنا أن نشاهد نفس الأشياء، لكن بطريقة مختلفة، وليس اختلاف كل شيء، مفارقة مستحيلة تجعلني أشكك في كل مرة أن نجاح فكرة تتابُع الأفلام هو خاضع للصدفة، لأن في الغالب تلك التتابعات لا تحمل جديداً، بل تواصل في استغلال نجاح العمل الأول.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.