في ظل إعلان نتائج الجولة الأولى للانتخابات التركية الرئاسية، وبعد إثارة كبيرة ومزيد من الحماس والتشويق بطريقة هيتشكوكية بتقدم الرئيس رجب طيب أردوغان مرشح تحالف الشعب على منافسه مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو مرشح تحالف الأمة. شهدت تركيا أيضاً انتخابات تشريعية حسم فيها تحالف الشعب الصراع في الجولة الأولى بفوزه بـ 322 مقعداً من ضمن 600 في البرلمان الجديد؛ حيث جرت هذه الانتخابات بعد ثلاثة أشهر من الزلزال القوي الذي هزّ 11 ولاية في جنوب شرق البلاد في شهر فبراير/شباط، كما امتدت اهتزازاته إلى شمال سوريا، حيث بلغ عدد ضحايا هذين الزلزالين في كل من تركيا وسوريا حسب تقديرات إدارة الكوارث والطوارئ التركية AFAD أكثر من 51000 قتيل و120000 مصاب، وخلّفا أضراراً مادية جسيمة في كلا البلدين.
ذكرى مئوية تحسم الصراع بين مشروعين
لحسم السباق الرئاسي المثير سيخرج الناخب التركي يوم 28 مايو/أيار الجاري للاقتراع، وتعتبر هذه أهم الانتخابات في تاريخ الجمهورية التركية، إذ تتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيسها. إنّ هذه الانتخابات تتمركز بين مشروعين واحد يريد إعادة ربط تركيا المنهزمة إلى "حنين" الغرب والتبعية الاقتصادية والاستلاب الثقافي — في حين يحمل الثاني مشروعاً نهضوياً تنموياً يسعى إلى الدفع بتركيا القوية إلى الأمام مع كبار القوى الدولية والإقليمية كدولة صاعدة تدافع على مصالحها وأمنها القوميين وهويتها ذات العمق الإسلامي.
هذا المشروع يمثله مرشح تحالف الشعب الرئيس رجب أردوغان الذي تصدّر السباق، ما جعل الإعلام الغربي من جديد يتيه في عناوين جرائده ومجلاته من برلين إلى واشنطن. هذا الإعلام الذي رمى بكل ثقله قبل الجولة الأولى لإسقاط الرئيس أردوغان وفي حالة فوز مرشح المعارضة تحالف الأمة كمال كليجدار سوف تفتح قارورات الشمبان والويسكي في برلين وباريس ولندن وواشنطن، إلا أن النتائج الأولية في ليلة 14 مايو/أيار خيّبت آمالهم وجعلتهم يتريثون ويضيفون قليلاً من الماء في كأس نبيذهم الأحمر، على عكس مناصري مرشح تحالف الشعب الذين فرحوا بالماء العذب وبمشروب Ayran.
عندها أصيب الإعلام الغربي بالصدمة بعد فشله في إسقاط الرئيس رجب طيب أردوغان الـ"ديكتاتور" الذي حصل على نسبة 49.5% من عدد الأصوات، الـ"ديكتاتور" الذي أجبر على الذهاب إلى جولة ثانية حاسمة ضد مرشح "ديمقراطي" ليبرالي علماني، هذا الإعلام العنصري عند البعض والمتغطرس عند البعض الآخر والقبيح في مجمله على غرار المجلة الهزلية الفرنسية شارلي/شارلو إيبدو التي خرجت من جديد بنشر عنوان حقير بحق شخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تتمنى فيه خلاص القدر منه كما جاء في عنوان صحفة المجلة، حيث أتى رد المتحدث باسم الرئاسة التركية، السيد إبراهيم كالين على الرسم، إلا أن الشعب التركي سيرد على المجلة في جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 28 مايو/أيار الجاري.
ونقلت الوكالة عن السيد إبراهيم كالين قوله: "انزعاج شارلي إيبدو وجنونها إلى هذا الحد يثبت أننا على الطريق الصحيح"، وفقاً لما نقلته الأناضول.
كما كان قد غرّد السيد كالين ليلة الأحد الماضي بتغريدة للصحف الغربية المعادية لتركيا القوية والرئيس رجب طيب أردوغان بـ bye Bye.
هكذا بات واضحاً أن الرئيس رجب طيب أردوغان يربك الإعلام الغربي من يمنيه إلى يساره مروراً بالإعلام الهزلي الفاقد لفن السخرية والداعي للتضليل والتلاعب بعقول قرّائه.
على غرار الإعلام الفرنسي، والإعلام البريطاني هو الآخر لم يخفِ عنصريته وكراهيته تجاه الرجل الشرقي مثلاً مجلة The Economist البريطانية، التي نشرت على غلافها "يجب على أردوغان الرحيل" قبل الانتخابات، ثم السخط ضمنياً من المعارضة الـ"علمانية-المتدينة" التي أثبت تحالفها أنها تشبه طاولة لعبة البوكر وإن النتائج التي حققها تحالف الأمة يعد بالأسوأ، مشيرة إلى أن مرشح تحالف الشعب الرئيس رجب طيب أردوغان التركي أربكهم وخيب آمالهم. حتى يومية Financial Times البريطانية المعادية هي الأخرى لسياسات ومواقف الرئيس رجب طيب أردوغان نشرت معلقة أن قوة الجذب الدائمة للرئيس رجب طيب أردوغان خرت آمال المعارضة، مضيفاً أن الأخيرة تواجه مهمة صعبة في الجولة الثانية لمواجهة موقف الرئيس القوي.
إنه إعلام النّعاق والنّفاق
هكذا بات واضحاً أن الرئيس رجب طيب أردوغان يربك الإعلام الغربي إعلام النعاق والنفاق. أما مجلة Le Point التي شبّهت الرئيس رجب طيب أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على غلافها قبل الانتخابات، فقالت إن الرئيس التركي سيخوض جولة ثانية مواتية لفوزه بفترة رئاسية جديدة. هذا اعتراف بقوة وسر الرجل الذي استطاع أن ينقل تركيا من رجل مريض إلى مهندس عبقري في فترة قصيرة من الزمن في مجتمع نخبه متباينة نسيجها الاجتماعي منقسم بين المدن الساحلية التي تميل للفكر الغربي والمدن العميقة بين سهول الأناضول المحافظة.
ثم يأتي دور الإعلام الألماني الـ"مستقل" عن أصحاب القرار في بلده، هو الآخر كزملائه البريطانيين والفرنسيين، مجلة Der Spiegel الألمانية التي نشرت على صفحتها الأولى قبل الانتخابات التركية الهلال العثماني ورمز الدولة التركية مكسوراً، هذا الهلال الذي حاصر مدنية فيينا مرتين -قصة الهلال منتوج الخبز الفرنسي Le croissant مستلهم من حصار فيينا عام 1683؛ التي أصبح الفرنسيون يسمون منتوج حلوياتهم الخبزية بـ La viennoiserie نسبة لمدينة فيينا النمساوية- حصار قائد جيش المسلمين الذي وصل إلى آخر نقطة الحدود أوروبية حصارها جيش المسلمين. عقدة الغرب وإعلامه الـ"محايد" الحاقد لا تزال تطارد قاعات التحرير في الجرائد والمجلات والغرف الخضراء في القنوات الإخبارية التي تتمنى رحيل الرئيس رجب طيب أردوغان الذي كذّب كل تحاليل خبرائهم وحبر الصحفيين المختصين في الشأن التركي، أن لا يزال الرجل يتمتع بقاعدة شعبية كبيرة وخزّان انتخابي قوي وثقة جماهيرية واسعة. حيث ظهرت الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية في تركيا، فلا الأزمة الاقتصادية الخانقة ولا الزلزال العنيف غيّرا رأي مناصرين الرئيس رجب طيب أردوغان بعبارة أبوسفيان الشهيرة رضي الله عنه: "كيف نحارب رجلاً، لا نعرف سرّ قوته!".
بناءً على هذا فإن مزاعم قادة الغرب والنخب والإعلام الغربي والمعارضة التركية بوجود سلطان تركي جديد اسمه أردوغان ما هي إلا تخيّل سينمائي، إنّ انخراط المجتمع التركي في العملية السياسية وإيمانه العميق بالانتقال السلمي للسلطة يدل عن نضج ووعي سياسي يجعل المسار الديمقراطي يسير على سكة صحيحة وسليمة بعيداً عن الأزمات السياسية والانقلابات العسكرية والتدخل الأجنبي في شؤون الدولة التركية. فآلية التداول على السلطة ليست حكراً على الرجل الغربي فقط، فالرئيس رجب طيب أردوغان استطاع أن يقنع شعبه بإنجازاته في الداخل ومواقفه على الصعيد الدولي وأن يجسّد مبدأي الشرعية والمشروعية وإشراك المواطن التركي بكل مكوناته العرقية والمذهبية بحسم الخلافات الحزبية والإيديولوجية عن طريق الاحتكام للصندوق كوسيلة للاستقرار والأمن والرفاهية.
الدهاء والأداء
الخلاصة، إن نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية على عكس ما تم الحديث عنه في وسائل الإعلام الغربية تعبّر بالضرورة عن نجاح لمسيرة قائد آمن بشعبه وقوة بلده، وبالتالي أصبح الناخب التركي يفكّر كبيراً Think big ويطالب بتقديم الأفضل من منتخبيه سواء على الصعيد المحلي أو الوطني قبل أن يمنحه صوته للاستمرار في السلطة. إن الرئيس رجب طيب أردوغان أثبت للعالم أنه زعيم داهية ورجل دولة من العيار الثقيل الذي فاز في كل الاستحقاقات الانتخابية والذي تولى منصب ثلاث مرات كرئيس للوزراء ويحاول تأمين ولاية ثالثة والأخيرة كرئيس للجمهورية التركية الثانية — ويدخل تركيا بالمئوية الثانية إلى عالم متقلب ومجتمع منقسم، لكن تجربته النضالية وإيمانه العميق بالديمقراطية الاجتماعية العادلة وبلاغته في الخطاب السياسي سوف يسمح له بكسب رهان الجولة الثانية والبقاء في قصر باش تبة لخمس سنوات أخرى، تكون حافلة بالإنجازات والرقي والأمن والاستقرار والاستقلال السيادي عن إملاءات صندوق النقد الدولي وتبعية سياسات حلف الناتو والانصياع لواشنطن وبروكسل، ما يمنح زخماً جديداً لقوى التغيير والديمقراطية في تركيا خصوصاً في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط عموماً.
تبقى رسالة الإعلام الغربي وما تحمله من عداء وكراهية ضد الرجل الشرقي في مخيّلة وذاكرة المجتمع الغربي تعيد بنا أطروحات أحزاب اليمين والنخب المتطرفة العنصرية الغربية فكرة صراع صدام الحضارات. على هذا الإعلام الإنتقائي أن يستعد كيف يعيش مع الرئيس رجب طيب أردوغان في السنوات الخمس القادمة وتبقى بعبع الديمقراطية والحرية شعارات تتغنى بها للمزيد من الاستلاب الثقافي والتبعية الاقتصادية والعسكرية والسياسية لاغتصاب حقوق ودسّ كرامة الرجل الشرقي الذي اختارت أغلبيته أن يكون الرئيس رجب طيب أردوغان صوتها وزعيماً لها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.