للصيف رائحة تهب مع أول لياليه، أعرفها جيداً وأعرف أشخاصاً يعرفونها كما أعرفها، عاد الصيف وعادت قصصه وسهراته وأحاديثه على الشرفات والأبواب والباحات والطرقات، في الصيف تنتشر القصص بسرعة، ولا تزال تدق في رأسي قصص سمعتها تُتداول على ألسنة الناس بطلاتها، نساء خرجن عن المألوف أو كنّ مطالبات بحقوق لم يعتد المجتمع من المرأة المطالبة بها، اليوم لم يعد أحد يهتم بتلك القصص كما السابق، ولكن هل لا تزال هناك حقوق تنقص المرأة لم تأخذها؟
نعم ما زالت هناك حقوق يتيمة، ولكن الفرق أن قديماً كان الهمز واللمز يطال المرأة بسوء، فيعطل شؤون حياتها، أما اليوم فلا أحد يكترث، ولكن ما يعطل حياة المرأة وشؤونها هي القوانين التي لم تعدل ولم تتغير منذ سنوات بما يناسب التطور الذي رافق المرأة والمجتمع، أضف إلى تأخر العجلة الاقتصادية بما يقلل من مدخول المرأة واعتمادها على نفسها مادياً بشكل كلي، خصوصاً إذا كانت تعيل أسرة.
التطور الذي واكبته المرأة العربية رافقه قصور القوانين وقصور التربية الواثقة، فلا تزال المرأة العربية في كثير من الأوقات ينقصها قانون يدافع عنها، ويأتي بحقها كاملاً، وتنقصها الثقة التي نأخذها من التربية والتنشئة السليمة، ولكننا نحمد الله على نعمة الانفتاح والإنترنت والفضائيات، إذا استُغلت بشكل صحيح ففيها من التوعية ونشر ثقافة الثقة عند المرأة والقوة ما يكفي لمن تبحث عن ذلك، إلا أننا نشاهد نماذج تعلمت من ذلك الانفتاح بشكل سلبي، فتعتمد في قوتها على مظهرها الخارجي وأنوثتها بشكل سيئ، يصاحب تلك القوة وقاحة اللسان، إن ما يجمّل المرأة شيئان هما: طبيعتها وحيائها الذي تعرف متى تكون عليهما، صادفت امرأة في جلسة عامة، لها من الجرأة ما يحيّر فعلاً، فلا تدري أجرأتها من ضغط تواجهه، أم وقاحة لا تدري منبعها، أتعاطف مع هذه النوعية ولا تعجبني، فهي تخفي ضعفاً ووحدة ونقصاً لا يعلمه إلا الله، ولكن مثل هؤلاء النساء لم تعد بطلة أحاديث الصيف، لقد اعتدنا على وجود المختلفات، وأصبحت أحاديث الصيف تلتهم قصص الفقر والجوع والظلم المجتمعي واليأس القانط في الروح من كل الوضع السياسي والاقتصادي، وحتى أهلية المجتمع؛ ليصبح في قائمة الدول المتقدمة.
تغير الصيف، أو ربما نضجنا وكبرنا وكبرت أحاديثنا معنا وتغيرت، والوقت غداً أسرع، حتى السمر والسهر والأحاديث لم يعد لها وقت ضمن ازدحام يومنا وليلنا بالمشاغل والأحداث والهموم التي تعلو صدورنا، فيارب لك الحمد ومنك الفرج، ولكن رائحة الصيف تفرض نفسها، ففيها رائحة الطفولة واللعب والسهر والرفاق الذين تفرقنا عنهم وتفرقوا عنا، وأصبح كل منا غريباً عن الآخر، حتى لو جربت العودة إلى أماكن الطفولة وذكرياتها، فأين الصخب والضجيج والقهقات التي تملأ الصدور، وأين أعراس الصيف والحناء في البيوت، وأين الجدات والأجداد الذين يملأ دفئهم عبق المكان، لن تعود عليك الزيارة سوى بالألم والحنين اليتيم والذكرى السعيدة، والحزين فيها أن الصيف يجيء كل عام نكبر فيه أعواماً، يحضرني قول الشاعر محمود درويش: إن أعادوا لك الأماكن القديمة فمن يعيد لك الرفاق؟ فسلام على الرفاق وسلام على الصيف وأماكنه وسهره وسمره، وسلام على المرأة التي تجاهد لتظل قوية بطبيعتها وعفويتها وحيائها وشخصيتها، وسلام على تلك المرأة التي تخبئ دموع تعبها وجهدها للشتاء وتترك للصيف نفساً ترتاح فيه مع من تحب ويعنون لها وتحمل شؤونهم ورعايتهم في روحها وجسدها.
للصيف رائحة أعرفها جيداً، تملأ النوافذ والشرفات والأساطيح ومقاعد أكلها الشتاء بغيثه وجاء الصيف يجففها للسمر وأحاديث دافئة كالزاد للمسافر، إنه الصيف راحة من غبار الربيع وخوف الخريف من فراق أوراق الشجر، وبرودة عواصف الشتاء، إنه التين والعنب والجوري والياسمين، إنه الصيف وللصيف رائحة أعرفها جيداً، وأعرف أشخاصاً يعرفونها كما أعرفها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.