تظهر الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية عبر الخطط الأركانية التي تقر كل خمس سنوات، وترسم من خلالها أهداف السياسة العسكرية وآليات تطبيقها، ومجالات استخدام القوة، التي تتناسب مع طبيعة التحديات التي يواجهها الكيان الصهيوني. وتلحظ كل خطة جديدة المتغيرات التي حدثت في المرحلة السابقة، والناجمة عن نتائج الحروب والتبدلات الجيوسياسية.
الجيش الإسرائيلي يسعى كل الوقت لأن يعيد بناء تصوره ووحداته وبنيته بحسب مرحلة الحروب الجديدة التي تتميز بالحروب غير المتجانسة، أي بين جيش نظامي أو جيش دولة وبين منظمة عسكرية أقل من جيش نظامي، وصعوبة الوصول إلى نقطة الحسم العسكري، فضلاً عن دخول الجبهة المدنية كجبهة مركزية، إضافةً إلى أهمية الإعلام والصورة كجزء من الحرب أو المعركة على الوعي. ولذلك قام كل قائد أركان جديد ببناء تصور لما يراه مناسباً للجيش الإسرائيلي بموجب تغير بيئة التهديد وطبيعة الحرب.
يعمد الجيش الإسرائيلي بصورة متواصلة إلى تطوير قدراته القتالية في مواجهة ما يسميه التحديات العسكرية أمام "إسرائيل"، فما أن يتولى رئيس هيئة أركان قيادة الجيش منصبه، حتى يشرع في وضع خطة تدريبية بموازنة مالية ضخمة، تستخلص العبر من المواجهات السابقة، بما يسمح لها بتحقيق انتصارات، على حد وصف العدو.
خضعت العقيدة القتالية الإسرائيلية، في غضون عقدين تقريباً، إلى عدة مراجعات متتالية، عبرت عنها خطط كيلع وتيفين وعوز وجدعون وتنوفا، حصلت المراجعة الأولى عقب حرب الخليج الأولى والثانية في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والمراجعة الثالثة أتت بعد حرب صيف، أما الرابعة فأحدثها "الربيع العربي" لا سيما تداعيات انفجار الوضع في سوريا، والخامسة كانت نتاج حرب غزة 2014، إلى أن وصلنا لخطة الزخم "تنوفا"، فكان دور القوات البرية مثار جدل وعرضة للتبديل والتغيير في المراجعات.
الفرق بين الخطط الأركانية متعددة السنوات خلال الفترة (2003 – 2021)
الخطة الأركانية – خلاصات الخطة – نتائج الخطة
خطة "كيلع" (2003-2006) ورئيس أركانها موشيه يعلون:
1ـ قائمة على فكرة "الحرب عن بعد".
2ـ خفض حجم القوات البرية العاملة بنسبة ١٠٪.
3ـ إعادة تأهيل القوات وتدريبها، لاستيعاب البرامج والأسلحة الحديثة.
في أعقاب فشل "حرب لبنان الثانية" 2006 صب أغلب الجنرالات جام غضبهم على خطة كيلع، منتقدين أسلوب إدارة الحرب، والاعتماد على سلاح الجو، وإهمال دور الجهد البري.
خطة "تيفين" (2008-2012) ورئيس أركانها جابي أشكنازي:
1ـ تعزيز كفاءة القوات البرية، كماً ونوعاً.
2ـ تقوية الذراع الطويلة للقوات الجوية وأنظمة الإنذار والتجسس الفضائي.
3ـ الوصول إلى "جيش متعدد الأهداف".
ألغت عملياً خطة كيلع، ونظرية "الحرب عن بعد"، وفكرة الجيش الصغير والذكي، وأرجعته إلى استراتيجية الحرب الخاطفة السريعة، وعمادها تقوية القوات البرية إلى جانب سلاح الجو.
خطة "عوز" 2011-2014 ورئيس أركانها بيني غانتس:
1ـ تقليص فرق سلاح البر.
2ـ زيادة الإنفاق على المشروعات المتعلقة بأجهزة الاستخبارات، وبالقدرات القتالية المتطورة لدى أسلحة الجو والبر والبحر، وعلى المشروعات المتعلقة بالحرب السيبرانية.
أطاحت بخطة تيفين ورؤى أشكنازي، حول بعث الروح في جيش الشعب، ومعها كل الجهد المبذول، خلال السنوات الماضية، من تدريبات ومناورات واستحداث وحدات برية جديدة، ووضحت فشل الخطة خلال حرب غزة 2014.
"خطة جدعون" 2015- 2019 ورئيس أركانها جادي آيزنكوت:
1ـ توحيد ذراع العمليات البرية وذراع السايبر واللوجستيك.
2ـ تشكيل مركز تنسيق بين مختلف أذرع الجيش والأجهزة السرية.
3ـ تعزيز قدرة الجيش الإسرائيلي على الردع والنشاط التشغيلي في إطار (المعركة بين الحروب).
الخطة لم تحمل أي جديد، باستثناء التعديلات التي طالبت بها لجنتا مريدور عام (1986) وعام (2006)، التي كان من أهمها ضم مصطلح الدفاع إلى جانب مصطلحات الردع والإنذار المبكر وحسم المعركة إلى الاستراتيجية الجديدة. وأضيفت ساحتا حرب جديدتان هما (التجسس والقرصنة الإلكترونية والصراع من أجل اكتساب الرأي العام الدولي).
خطة "تنوفا" 2020-2025 ورئيس أركانها أفيف كوخاف:
1ـ جعل الجيش أكثر تكنولوجيةً وأشد فتكاً.
2ـ الحفاظ على نوعية القوى البشرية بجيش الاحتلال.
3ـ رفع مستوى الدافعية للخدمة بالجيش.
4ـ ملاءمة ذراع البر وفقاً للمتغيرات المختلفة.
5ـ مضاعفة القدرات الدفاعية بمجال السايبر، والربط بين الأذرع المختلفة.
جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية وجاهزية المقاومة وجهت ضربة قوية لخطة "تنوفا"، وتسببت في تجميد العديد من البنود المتعلقة بالمنظومات الدفاعية والهجومية الواجب الحصول عليها، لضمان تحديث القوة العسكرية الإسرائيلية، ومواكبتها لأهداف هذه الخطة.
الجديد ما كشفه تقرير صحافي لموقع "واللا" الإسرائيلي عن الخطوط العريضة لخطة الجيش الإسرائيلي متعددة السنوات، التي ناقشها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هيرتسي هليفي، مع أعضاء هيئة الأركان العامة وضباط كبار آخرين، في ورشة عمل أولى عقدت الأسبوع الماضي، تمهيداً لوضع الخطة وإقرارها.
وبحسب التقرير، فإن المحاور الأبرز التي استعرضها هليفي خلال ورشة العمل، وستكون في صلب الخطة الخمسية المقبلة للجيش الإسرائيلي، تتمثل في:
زيادة الاستعداد لمواجهة ضد إيران: وكجزء من هذا الاستعداد، فإن الجيش الإسرائيلي مطالب بـ"مراكمة القدرات وتحسين المهارات الموجودة على عدة مستويات في الهجوم والدفاع وجمع المعلومات الاستخباراتية".
التحضير لحملة عسكرية متعددة الجبهات: تعزيز قدرة الجيش على القتال في عدة ساحات في الوقت نفسه، بما في ذلك على الجبهات (الأطراف والمواقع الحدودية والخارجية)، وكذلك في "العمق".
تعزيز العلاقة بين الجيش والمجتمع
– تنظيم القيادة والسيطرة في حالات الطوارئ والحالات الروتينية بطريقة تشجع على تعدد الأبعاد في الهجوم والدفاع، وتسمح بالحوار العملياتي المستمر بين جميع القوات والأسلحة والأجنحة العاملة على جميع الجبهات.
– ترتيب صفوف الجيش، وتعزيز سبل التعامل مع الأفراد، سواء الجنود في الخدمة النظامية (دائمة وإلزامية)، أم الجنود في قوات الاحتياط.
– تكثيف تدريبات القوات الجوية والبرية والبحرية خلال السنوات المقبلة.
– دمج المزيد من الأنظمة والوسائل القتالية الجديدة لخدمة القوات البرية بحلول نهاية العام الجاري.
– إدخال قدرات سيبرانية متقدمة في خدمة جميع الأسلحة والقوات.
من خلال مراجعة واستعراض العقيدة القتالية الإسرائيلية، وأنها في غضون عقد زمني خضعت تقريباً إلى أكثر من خمس مراجعات متتالية، كان واضحاً فيها التركيز على التفوق الجوي، وانعكس ذلك تدريجياً على إهمال نسبي للقوات البرية؛ إذ سادت قناعة لدى القيادات العسكرية بأن المناورة والمعركة البرية تنتمي لحروب الماضي، ولهذا كان اهتمامهم الأكبر بتحديث وتقوية القوات الجوية، لتصبح أساس ومحور التحديث الفعلي في الجيش الإسرائيلي.
وبمعنى آخر، أصبح الإدراك الإسرائيلي للمفاهيم الجديدة حول مستقبل الحرب مفاده أنه لن تكون هناك "حروب كبيرة وعالية الشدة". وفي حالة حدوث مثل هذه الحروب فإنه ينبغي محاربتها -على الأرجح- بمعلومات استخبارية عالية الجودة، ومن خلال استخدام قوة نيران طويلة المدى يتم الاعتماد فيها على القوات الجوية لتدمير أهداف العدو.
أبرز ما في الرؤية الاستخباراتية الإسرائيلية الراهنة هو عدم قدرة الاستخبارات العسكرية على ادعاء الوضوح في استشراف مجريات الأمور، والسبب في ذلك التغييرات المتسارعة في خريطة التهديدات في المنطقة التي من شأنها أن تؤدي إلى أخطاء في التقديرات الاستخباراتية، فلا رؤيا بعيدة المدى، والحسابات رهن التطورات.
كما أن الأداء الفاشل للقوات البرية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة وضع يد الإسرائيليين على جرح نازف لهم، ووضعوا خططاً وبرامج عسكريةً متعددةً، لكن لم تخرج حتى الآن نتائج إيجابية مشجعة تجعل الجيش الإسرائيلي يبادر لتنفيذ عمليات عسكرية، معتمداً بالدرجة الأولى على القوات البرية.
أثبت الواقع العملياتي للجيش الإسرائيلي، وجود العديد من الثغرات والفجوات في عملية التعلم والاستجواب واستخلاص الدروس وتطبيقها، هذه الفجوات لدى العدو ليست موجودةً على المستوى الاستراتيجي فقط، ولكن أيضاً في العمليات التكتيكية، وفي كثير من الحالات أدت المفاجأة التكتيكية والاستراتيجية إلى ضرورة إيجاد حلول فورية أثناء القتال عجزت القوات الإسرائيلية على التعامل معها ميدانياً.
اليوم تشكّل المقاومة ومحورها عنصراً مهماً من عناصر تراجع جاهزية الجيش الإسرائيلي وضعف قواته البرية، بتطوير قدراتها القتالية التي دخلت بها مرحلة جديدة من الصراع، وأصبح باستطاعتها إيقاع عدد كبير من القتلى والإصابات في صفوف الجيش الإسرائيلي.
ختاماً.. الإسرائيليون الآن يعتقدون أن المنطقة عموماً، والجبهات المتوترة خصوصاً، في غزة ولبنان وسوريا وإيران، قد تحمل متغيرات جيوسياسية مفاجئة لصانع القرار العسكري الإسرائيلي، ما يجعل الخطط العسكرية الإسرائيلية في حالة تبدل وتغير على مدار الساعة، هذا يجعلها تدخل في حالة سوء التقدير تارةً، والارتباك تارةً أخرى، وبالتالي يأتي التطبيق ترجمةً حقيقيةً لسوء التقدير، لأن ما يسبق الترجمة الميدانية للسلوك العسكري هو وضع الخطة، وإذا شاب هذه الخطة حالة من الارتباك أو سوء التقدير؛ فبالضرورة ينجم عنها إخفاق عسكري وفشل عملياتي، وهذا ما تم ملاحظته في حروب غزة الأخيرة 2008، و2012، و2014، و2021، فضلاً عن العمليات العسكرية الخاطفة المسماة المعركة بين الحروب في لبنان وسوريا والعراق، نتيجةً لاندماج جملة من سوء التقدير والارتباك والتغيرات الجيوسياسية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.