تستعد تركيا لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 14 مايو/أيار 2023، وتعتبر هذه الانتخابات حاسمة، وسط تنافس شديد بين مرشح "تحالف الجمهور" الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ومرشح "تحالف الشعب" كمال كليجدار أوغلو، ومرشحَين آخرين هما مرشح تحالف "أتا"، ويعني الأجداد" سنان أوغان، ومرشح حزب البلد محرم إنجه. وحشد كل من التحالفين الأبرز (الجمهور – والشعب) مجموعة من الأحزاب مختلفة المشارب لتحقيق تقدّم مهم في هذه الانتخابات.
ينص قانون الانتخابات الرئاسية في تركيا على أن المرشح لهذا الاستحقاق يتوجّب عليه الحصول على نسبة 50٪ بزيادة واحد من أصوات الناخبين على الأقل للفوز، وفي حال عدم حصول أي مرشح رئاسي على هذه النسبة، فإن الانتخابات تنتقل إلى دورة ثانية تجرى بين أكثر مُرشحَيْن حصلا على النسبة الأعلى، ويفوز من يحصل على نسبة أكثر من 50٪ من الأصوات. أما الانتخابات البرلمانية فتجرى من دورة واحدة، ويتنافس عليها 24 حزباً سياسياً، و151 مرشحاً مستقلاً.
في 19 مايو/أيار 2023 يتم الإعلان رسمياً عن نتائج الانتخابات العامة في الجريدة الرسمية، ووسائل الإعلام التلفزيونية والإذاعية. وإذا تقرّر إجراء جولة ثانية في الانتخابات الرئاسية فسيكون ذلك في 28 مايو/أيار 2023، ويتم الإعلان عن النتائج المؤقتة في 29 مايو/أيار، وفي 1 يونيو/حزيران يتم إعلان النتيجة النهائية رسمياً عبر الجريدة الرسمية، ووسائل الإعلام.
تعتبر هذه الانتخابات تاريخية ومصيرية، لاسيما أنها تشهد تنافساً بين تحالفين كبيرين "حالف الجمهور" الذي يتزعمه أردوغان، و"تحالف الشعب" المعارض المعروف بالطاولة السداسية الذي رشّح كمال كليجدار أوغلو، ويطمح كل منهما إلى الانتقال بالبلاد لمئويتها الثانية. وقد تمكّنت أحزاب الطاولة السداسية التي تختلف في أيديولوجياتها "القومي، والإسلامي، والعلماني" من الاقتراب من بعضها البعض، بهدف إنهاء النظام الرئاسي، والعودة إلى النظام البرلماني الذي كانت تسير عليه البلاد ما قبل استفتاء 2017.
يواجه الحزب الحاكم معضلة في أن الانتخابات تأتي في ظل أزمة اقتصادية وغلاء معيشي، وصعود جيل جديد ولد في ظل وجود "العدالة والتنمية" بالسلطة، يطمح جزء كبير منه للتغيير، بصرف النظر عن المصير والمستقبل.
أما المعارضة التركية، فرغم تجمّعها لكنها تعاني من الاختلاف في وجهات النظر داخلياً وخارجياً، ما يزيد من قلق الناخب التركي في منحها صوته، وخصوصاً أنها تعتمد في كثيرٍ من خطاباتها على الشعبوية، وليس لها إنجاز حقيقي ملموس على الأرض.
على أي شيء يعتمد أردوغان لتحقيق الفوز؟
لا شك أن الرئيس الطيب أردوغان يستند بشكل كبير إلى رصيد الإنجازات التي حققها من خلال مسيرته مع حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه في أغسطس/آب من العام 2001، وكذلك على الظهير الشعبي الذي لمس هذه الإنجازات وشعر بها في حياته، على الرغم من بعض المشاكل التي تواجهه في الفترة الحالية، نتيجة للوضع الاقتصادي العالمي الذي يمر بأزمات تلو الأزمات، ومن ذلك زيادة التضخّم والأسعار، والسكن، وغير ذلك من الاحتياجات اليومية.
كما أن هناك قطاعاً كبيراً من الشعب التركي لا يُستهان به، لا يرغب في استمرار الرئيس أردوغان بسياساته التي تتقارب من العالم العربي والإسلامي، ولا تتناغم مع متطلبات الغرب، وهذا ما يسعى إليه خصمه اللدود كمال كليجدار أوغلو، حيث يرى أن الارتماء في أحضان الغرب سيفيد تركيا، ويحقق لها التطور المطلوب، بما في ذلك الانضمام للاتحاد الأوروبي.
إذا نظرنا إلى ما حققه أردوغان على مدار الـ 20 عاماً الماضية في المجالات المختلفة، وكيف كانت حالة الاقتصاد التركي قبل مجيئه، سنجد أنه حقق الكثير، على جميع المستويات، ويشهد بذلك الغريب قبل القريب، والعدو قبل الصديق، ونرى ذلك ماثلاً أمام أعيننا في التصريحات الغربية، والإعلام المنحاز الذي يريد التخلص من أردوغان بأي شكل، مستخدماً في ذلك كل الوسائل الخبيثة، لأنهم يعلمون جيداً أنه حقّق لتركيا طفرة كبيرة، كما ضمن استقلال سيادتها وسلطتها.
حالة الاقتصاد قبل وصول أردوغان للحكم
كان الاقتصاد التركي قبل وصول أردوغان للحكم يرتكز على الدَيْن الخارجي من الصندوق الدولي مع آليات سداد مجحفة دون زيادة معدلات النمو والإنتاج، وعدم توقّف انهيار العملة ونِسَب التضخم، مما أدى إلى عجز سداد الديون الخارجية، وإعلان الكثير من البنوك والمؤسسات المالية في تركيا إفلاسها.
كانت القطاعات الاقتصادية الرئيسية التي يرتكز عليها الاقتصاد التركي، ما قبل أردوغان، مبنية على قطاعات بسيطة لا تُشكل ثقلاً اقتصادياً تحقق من خلالها عائدات مرتفعة تعود بالفائدة الكبيرة على خزينة الدولة، تمثّل ذلك في القطاع الزراعي المباشر، وتصدير المنتجات الزراعية، ومع أهمية هذا القطاع في توفير الاكتفاء الذاتي داخلياً، إلا أنه لا يمكن أن يُشكل رافعة اقتصادية قوية للبلاد.
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا لعام 2002 كان لا يتجاوز الـ 3600 دولار سنوياً، حيث ارتبط دخل المواطن التركي خلال تلك الفترة بالحالة الاقتصادية السيئة التي كانت تعصف بالبلاد، بالإضافة إلى ضعف القدرة الشرائية للأفراد، وعدم استطاعتهم توفير الكثير من الحاجات الأساسية اليومية.
بعد وصول أردوغان للحكم
بدأ أردوغان بإصلاحات غير اعتيادية في هيكلية الاقتصاد التركي بشكل عام منذ توليه الحكم، متجنباً حالة الصدام مع أي أقطاب سياسية خارج أو داخل البلاد، وركّز على الإصلاح الاقتصادي، وتعزيز الرفاهية، وتحسين مستوى المعيشة للأتراك.
تبنى الرئيس التركي خلال فترة حكمه عدة اتجاهات اقتصادية أساسية للنهوض بتركيا، وجعلها في مصاف الاقتصادات العشرين الأولى عالمياً، وظهر ذلك في: رفع حجم الإنتاج الصناعي من خلال توفير بنية تحتية للمدن الصناعية الكبرى، وخصخصة المشاريع، وإعطاء الشركات متعددة الجنسيات امتيازات للاستثمار بتركيا، وهذا جعل تركيا مركزاً لوجستياً مهماً في سلاسل التوريد والإمداد العالمية، والتركيز على زيادة حجم صادرات البلاد بإنشاء العديد من مشاريع الجذب الاستثماري التي تخص المشاريع اللوجستية الخاصة بالبنية التحتية، مثل الجسور، والمطارات، والطرق البرية، وخطوط السكك الحديدية، والموانئ، والاتجاه إلى رفع عائدات قطاع السياحة.
من ضمن حزمة الإصلاحات الشاملة للاقتصاد التركي التي حدثت في عهد أردوغان، هو اقتحام القطاع الصناعي في البلاد مجالات جديدة متطورة وحديثة، والبدء من حيث وصل العالم، مثل الصناعات الدفاعية الحسّاسة، والتكنولوجيا المتطورة للسيارات والآلات، والعربات، والطائرات، وغيرها.
وركّزت تركيا في عهد أردوغان على الدخول في مصاف الدول الكبرى في مجال إنتاج التكنولوجيا الحديثة بشتى أنواعها ابتداءً من صناعة الروبوتات إلى برمجتها ودخول قطاع الذكاء الاصطناعي، وعززت الحكومة التركية هذا المجال في إنشاء "وادي السيلكون" التكنولوجي الخاص بتركيا على غرار "وادي السيلكون" في الولايات المتحدة الأمريكية الذي يضم كبرى شركات التكنولوجيا، والبرمجة في العالم. وارتفعت صادرات البلاد بشكل كبير ومتزايد خلال العقدين الأخيرين، ووصلت إلى أرقام قياسية.
التميّز في الصناعات الدفاعية والسيارات
في 10 أبريل 2023 أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رفع ميزانية الصناعات الدفاعية في بلاده إلى 75 مليار دولار، في كلمة ألقاها خلال مشاركته في مراسم تسليم حاملة الطائرات السفينة "تي سي جي الأناضول" إلى قيادة القوات البحرية التركية، لافتاً إلى أن عدد مشاريع الصناعات الدفاعية في تركيا بلغ 750 مشروعاً، كما بلغ عدد شركات الصناعات الدفاعية 2700 شركة، وكان في عام 2002 (56) شركة فقط.
كما تتوسع تركيا في تصدير منتجاتها الدفاعية ما بين الطائرات المسيّرة، والغواصات، والسفن، والمركبات العسكرية، والمنصات البحرية، والمركبات البرية، وأنظمة الحرب الإلكترونية، وكذلك أنواع متطورة من المسدسات والبنادق.
أما في مجال صناعة السيارات، فنجحت تركيا من أن تجعل من نفسها مركزاً إستراتيجياً لصناعة السيارات، حيث يُضم إلى شركاتها المحلية، نحو 13 شركة عالمية لعلامات تجارية كبرى في مجال السيارات، وتتخذ هذه العلامات التجارية من 9 مدن تركية مكان لإقامة مصانعها، وأخيراً تم إنتاج وصناعة أول سيارة تركية كهربائية محلية الصنع ذات الدفع الرباعي (TOGG).
الطفرة في قطاع السياحة والمشاريع المساندة
في قطاع السياحة، تُعد تركيا ضمن أكبر 10 مقاصد سياحية على مستوى العالم، واستطاعت خلال عام 2021، أن تستعيد حيوية قطاع السياحة في ظل جائحة كورونا، حيث تشير بيانات معهد الإحصاء التركي إلى أن عدد السائحين لتركيا بلغ 52.5 مليون سائح مقارنة بـ 15.8 مليوناً في عام 2020، وبلغت الإيرادات السياحية لتركيا في عام 2022 ما يناهز 46.28 مليار دولار، مقارنة بـ 12.1 مليار في عام 2020.
خلال الأشهر الأخيرة، حققت أعداد السُياّح الأجانب القادمين إلى تركيا، نمواً بنسبة 97.96%، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021، كما حققت العائدات السياحية نمواً بنسبة 27.1%، خلال هذه الفترة.
في يونيو/حزيران 2021، دشن الرئيس أردوغان مشروع قناة إسطنبول، وذلك من أجل تخفيف الزحام الشديد على مضيق البسفور، الذي يربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، حيث إن طاقة المضيق تتحمل مرور نحو 25 ألف سفينة سنوياً، بينما تمر به الآن نحو 43 ألف سفينة كل عام، ما يؤدي إلى طول فترة السفن للمرور.
ويتوقع أن يبلغ عدد السفن التي تمر بمضيق البوسفور في 2050 نحو 78 ألف سفينة، ومن المستهدف أن تبلغ تكلفة قناة إسطنبول 15 مليار دولار.
لم تقف إنجازات أردوغان عند هذا الحد بعد إعلانه في 17 أبريل/نيسان 2023 العمل على افتتاح مركز إسطنبول المالي، مما سيجعل من المدينة التركية إحدى العواصم المالية في العالم إلى جانب نيويورك، ولندن، وهونغ كونغ، وفرانكفورت.
من الإنجازات، أيضاً، التي حققها الرئيس أردوغان لمدينة إسطنبول فقط في فترة حكم العدالة والتنمية: بناء أكثر من 38 ألف قاعة دراسية جديدة، وإنشاء 38 جامعة جديدة، وإنشاء سكنات لطلاب التعليم العالي تتسع لأكثر من 13 ألف طالب، وتشييد 46 منشأة رياضية جديدة، وتشييد 163 منشأة صحية بينها 66 مستشفى بسعة 17 ألفاً و534 سريراً، ومشاريع بناء 173 ألف منزل جديد جميعها مقاوم للزلازل، وتشييد 10 حدائق وطنية عامة، وإنشاء أكثر من 500 كلم من الطرق الفرعية، وبناء جسري يافوز سلطان سليم، وعثمان غازي على مضيق البوسفور، ونفق أوراسيا، ومطار إسطنبول، وبرج الإذاعة والتلفزيون في تشامليجا.
وكذلك زيادة خطوط المترو في مناطق مختلفة من مدينة إسطنبول، منها الخط الواصل إلى مطار صبيحة، وتوسيع نطاق السكك الحديدية، مع توفير قطارات فائقة السرعة بين العديد من المدن.
السؤال هنا؛ هل هذه الإنجازات، وغيرها مما لا يتسع له هذا المقال، ستشفع للرئيس أردوغان عند الشعب التركي لكي يواصل إنجازاته في وضع تركيا ضمن مصاف الدول الكبرى في العالم، لأن تركيا بحاجة إلى رئيس يتقن فن الإدارة دون الخضوع للضغوط الخارجية، ويضع مصالح البلاد فوق كل اعتبار، أم أن الخطاب الشعبوي الذي تتبناه المعارضة التركية سيُنسي الشعب تلك الإنجازات، ويذهب بتركيا إلى سابق عهدها قبل أردوغان، مع تكبيلها بالديون من البنك الدولي، وتبعية تركيا للغرب في كل الميادين؟!
أظن أن أبلغ رد من الشعب التركي على حالة الهيستريا السياسية والإعلامية في الغرب ضد تركيا أردوغان، هو الذهاب بكثافة للانتخابات، لكي يعطوا لهؤلاء درساً قاسياً، باختيار من يُكْمل لهم مسيرة البناء والنهضة، ويسعى للاستقلال الوطني، وعدم التبعية لإملاءات الغرب، فهؤلاء لا يؤمنون بحق الشعوب العربية والإسلامية في اختيار حُكامها بإرادتها الحرة.فعلى الناخب التركي أن يختار بين هذا وذاك حتى يكون لتركيا المكان اللائق بها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.