عندما تكون هناك سوق موازية لسعر الصرف بأي بلد، فإن المستثمر الأجنبي يتأنّى قبل دخوله للاستثمار بهذا البلد حتى يكون هناك سعر موحد، وهو ما يحدث بالحالة المصرية منذ ظهور السوق الموازنة للصرف بالربع الأول من العام الماضي وحتى الآن، بل إنه لا تظهر علامات واضحة قريبة على قرب التخلص منها، مع ازدياد حدة أزمة نقص العملة الأجنبية.
وها هي بيانات البنك المركزي المصري تشير إلى ارتفاع العجز ما بين الأصول بالعملات الأجنبية والالتزامات بها إلى 24.5 مليار دولار، بشهر مارس الماضي، وهو العجز المستمر للشهر الرابع عشر على التوالي، وتشير ضخامة الرقم إلى أنه حتى بافتراض إمكانية الخفض التدريجي لذلك العجز بمعدل ثلاثة مليارات شهرياً، فإن الأمر يحتاج إلى ثمانية أشهر حتى يمكن تغطية العلاج، بما يعني إمكانية القضاء على السوق الموازية للصرف حينذاك.
لكنه حتى هذا التصور المتفائل من الصعب تحقُّقه في ضوء الاحتياجات الدولارية المستجدة، للوفاء بالواردات السلعية والخدمية، وسداد أقساط وفوائد الدين الخارجي البالغة 22 مليار دولار بالعام الحالي، بينما تصعب إمكانية الاقتراض الخارجي في ضوء تراجع القيمة السوقية للسندات المصرية المطروحة بالخارج عن قيمتها الاسمية بشكل حاد، وبطء برنامج بيع حصص من الشركات الحكومية للحصول على عملات أجنبية، حيث ينتظر المشترون المرتقبون مزيداً من الخفض للجنيه المصري للحصول على تلك الحصص بقيمة أقل.
إخفاق الجولة الترويجية لوزيرة التخطيط بالخليج
ولم تقتصر عوائق الاستثمار على عدم اليقين بشأن سعر الصرف الذي عاد البنك المركزي المصري لتثبيته إدارياً، رغم وعده مسبقاً بتحقيق مرونته، فهناك معدلات تضخم عالية لم تحدث منذ 6 سنوات، واستمراراً لحالة الركود بالأسواق، وإجماع مؤسسات التصنيف الائتماني على تصنيف الاقتصاد المصري بدرجة غير استثمارية، والنظرة السلبية المستقبلية له، وصعوبات حصول الشركات المصرية على تمويل لاستيراد مستلزمات الإنتاج، ومن هنا كان قرار أغلب الصناديق السيادية الخليجية بالتمهل قبل إتمام صفقات حصص من الشركات المصرية.
وليست الصناديق الخليجية وحدها التي قررت التمهل، حيث أعلن المليادير المصري سميح ساويرس، مؤسِّس شركة أوراسكوم للتنمية القابضة، أن شركته لن تقوم باستثمارات حالياً بالسوق المصرية، نظراً لاستمرار حالة عدم اليقين بشأن الجنيه المصري، وفي الإطار نفسه كان إعلان الشركة المتحدة للإلكترونيات السعودية "إكسترا"، وقف خططها التوسعية بمصر، والتي كانت تتضمن تأسيس شركة تابعة.
وكذلك عدم حدوث نتائج عملية لجولة وزيرة التخطيط المصرية هالة حلمي، والتي ترأس الصندوق السيادي المصري المسؤول عن بيع حصص من عدة شركات حكومية، لخمس دول خليجية مؤخراً لترويج بيع حصص من تلك الشركات التابعة للصندوق، وغيرها من الشركات المملوكة للحكومة، وتبعتها زيارة رئيس الوزراء المصري لقطر لنفس الغرض، التي لم تحقق شيئاً.
وكانت مصر قد أعلنت عن اللجوء إلى أسلوب بيع حصص من الشركات الحكومية للصناديق الخليجية، للوفاء بما عليها من التزامات لدول الخليج منذ خروج حوالي 22 مليار دولار من الأموال الساخنة منها، بالربع الأول من العام الماضي، وحصولها على قروض خليجية بقيمة 13 مليار دولار، للإسهام في سد تلك الفجوة الدولارية، وبالفعل اشترى صندوق إماراتي حصصاً في خمس شركات بقيمة 1.8 مليار دولار بشهر أبريل من العام الماضي، وصندوق سعودي اشترى حصصاً بأربع شركات بقيمة 1.3 مليار دولار، بأغسطس الماضي، والإعلان عن اتفاقية بين مصر والسعودية لإنشاء صندوق الاستثمارات العامة بمصر.
السياسة تحرك الاقتصاد بالخليج
لكن يبدو أن الأمور لا تُحركها العوامل الاقتصادية وحدها، خاصةً بالدول الخليجية، والأمثلة كثيرة، منها ما حدث من قِبل السعودية، عند خلافها مع تركيا حين خفضت الاستثمارات والتجارة معها، وكذلك فعلت السعودية مع مصر مؤخراً، حين تردّد الحديث عن وجود خلاف بين البلدين، ظهرت معالمه حين خلت جولة وزيرة التخطيط المصرية الأخيرة للخليج من زيارة السعودية.
وما تم الإعلان عنه من عزوف الصندوق السعودي عن شراء بنك مصري بسبب الاختلاف حول عُملة التقييم له، ما بين الجنيه المصري حسب الرغبة السعودية، والدولار حسب الرغبة المصرية، وحين أشار موقع إعلامي اقتصادي شهير ممول من السعودية إلى أنه عندما حضر وزير المالية المصري مؤتمراً اقتصادياً بالسعودية مؤخراً، فقد قابله وزير المالية السعودي بقاعة المؤتمر فقط، وكذلك مرور شهر على لقاء الحاكم المصري بولي عهد السعودية، برمضان، دون نتائج عملية.
أيضاً لم تكن العوامل الاقتصادية السلبية حائلاً دون استمرار الاستثمارات الخليجية بمصر، بالعام المالي الأول لتولي الجيش السلطة 2003/ 2004، حيث بلغت 1.1 مليار دولار، منها 284 مليون دولار من السعودية، بل وعُقد مؤتمر استثماري لدول الخليج بمصر أوائل ديسمبر 2013، حين كانت حالة الطوارئ مفروضة، والتصنيف الائتماني منخفضاً بشدة.
وحتى تكون الأمور محددة فإنه حتى إذا كانت قطر لم تنفذ بعد أي عملية شراء كبيرة، لحصص بشركات مصرية، في إطار وعدها باستثمار 5 مليارات دولار بمصر، فإن الاستثمارات الإماراتية لم تتوقف بنفس الدرجة، حيث استحوذت جهات إماراتية على العديد من الشركات المصرية، وربما يذكرنا ذلك بما ذكره مسؤل كبير عمل مع الدكتور محمد مرسي خلال فترة توليه.
عندما سُئل مسؤول إماراتي حينذاك عن سبب عدائهم للدكتور مرسي، قال لأنكم سمحتم لقطر بالاستثمار بمصر، وهو ما يُمكن ربطه بسعي الجهات القطرية لشراء حصص بشركات حاويات مصرية وأعمال بموانئ مصرية، وسعي جهات إماراتية لشراء حصص بتلك الشركات وأعمال بتلك الموانئ وهو ما تم بالفعل.
استمرار شراء حصص صغيرة من الشركات
كذلك إمكانية الربط بين الخلاف غير المُعلن حالياً بين السعودية والإمارات، حين امتلكت الإمارات خمسة بنوك بمصر، واستحوذت على السادس، بينما أخفقت محاولة السعودية لشراء المصرف المتحد بمصر، وهي التي لا تمتلك أية بنوك بمصر، وقيام شركة الأصباغ الإماراتية بشراء 81% من شركة البويات المصرية، في اليوم التالي مباشرة لإعلان شركة إكسترا السعودية وقف خططها التوسعية بمصر، ولا ندري مدى صلة الإمارات ببطء تمكين مصر لبيت التمويل الكويتي، الذي اشترى البنك المتحد البحريني، بما يتبعه من فروع، ومنها وحدته التابعة الموجودة بمصر، وذلك منذ فترة.
ورغم أن الجانب القطري لم يُعلن أسباب تأخر شرائه حصصاً من شركات مصرية، فإن ما نُشر بوسائل الإعلام الاقتصادية المصرية يشير إلى خلاف على الحصص المطلوب شراؤها، مثلما قيل عن سعي لشراء حصة المصرية للاتصالات بشركة فودافون، وإصرار السلطات المصرية على بيع حصة أقل، ومثل ذلك قيل عن سعي لشراء حصص كبيرة بشركتَي دمياط وبورسعيد للحاويات أو بميناء سفاجا.
إلا أن الأمر لم يخلُ من بعض الاستثمارت القطرية، مثلما حدث بالشهر الأخير من 2021، باستحواذ شركة قطر للطاقة على نسبة 17%، من امتيازين تديرهما شركة شل بالبحر الأحمر، وفي مارس من العام الماضي باستحواذ شركة قطر للطاقة على حصة 40%، من منطقة استكشاف مملوكة لشركة إكسون موبيل بالبحر المتوسط، وبنفس الشهر اشترت شركة بلدنا القطرية نسبة 5% من شركة جهينة للصناعات الغذائية.
وبنفس السياق استحوذت الشركة السعودية المصرية للاستثمارات الصناعية على حصة 37%، من شركة أتيكو فارما إيجيبت للصناعات الدوائية، في ديسمبر الماضي، واستحوذت شركة المراعي السعودية على حصة 48% من الشركة الدولية لمنتجات الألبان والعصائر "بيتي"، بقيمة 68 مليون دولار، في فبراير من العام الحالي، حيث يملك صندوق الاستثمارات العامة السعودي نسبة 16% من شركة المراعي.
كما أعلن رئيس شركة الهيثم للتعدين السعودية، عن سعيها لزيادة استثماراتها بمصر، كما دخلت شركة جيتش للتطوير العقاري المصرية في شراكة مع مجموعة الخيرات السعودية، لإطلاق مشروع عقاري تجاري بمنطقة الشيخ زايد المصرية، واستحواذ الشركة السعودية المصرية للاستثمار، التابعة لصندوق الاستثمارات العامة السعودية، على نسبة 34% من شركة "بي تك" العاملة بمجال توزيع الأجهزة المنزلية بقيمة 150 مليون دولار.
واستحواذ شركة سلوشنز، التابعة للاتصالات السعودية على نسبة 89.5%، من شركة جيزه للأنظمة بقيمة 119 مليون دولار، بأكتوبر الماضي، واستحواذ صندوق الاستثمارات السعودي على حصة أقلية بشركة إيبكو الدوائية، وكذلك حصة بشركة سيرا التعليمية.
الإمارات تتصدر الاستثمارات المباشرة والحافظة
وتشير بيانات البنك المركزي المصري الخاصة بالاستثمار الأجنبي المباشر بالعام المالي 2021/ 2022، إلى استحواذ الدول الخليجية الست على نسبة 35% من مجمل الاستثمارات الأجنبية الداخلة لمصر، بقيمة 7.789 مليار دولار، موزعة بين 5.656 مليار من الإمارات و669 مليون دولار من الكويت و518 مليون دولار من قطر، و492 مليون دولار من السعودية و458 مليون دولار من البحرين، أما سلطنة عمان فشهدت تدفقاً عكسياً من مصر للسلطنة بقيمة 5 ملايين دولار خلال العام المالي.
وهكذا تكون الإمارات قد حازت نسبة 71% من مجمل الاستثمارات الخليجية الواردة لمصر خلال العام المالي الأخير، بينما كان نصيب السعودية أقل من 7% منها، وخلال السنوات المالية التسع الأخيرة، تفوّق نصيب الإمارات بالاستثمارات الخليجية الواصلة لمصر، على باقي الدول الخليجية، وإن كانت قيمتها متذبذبة، وساعد على ذلك ما قامت به من مساندة للنظام الحاكم بمصر، عقب استيلاء الجيش على السلطة، في يوليو 2013.
وتكرر تصدرها أيضاً في استثمارات الحافظة الواردة إلى مصر، حسب بيانات جهاز الإحصاء المصري، للعام المالي 2020/ 2021، كآخر بيانات منشورة، حين بلغ نصيبها 1.677 مليار دولار مقابل 234 مليون دولار للسعودية، و63 مليون دولار للبحرين، و57 مليون دولار لسلطنة عمان، و4 ملايين دولار للكويت، وأقل من ربع مليون دولار لقطر.
حيث تملك الإمارات العديد من الصناديق السيادية، وهي جهاز أبوظبي للاستثمار، ومؤسسة دبي للاستثمارت الحكومية، ومبادلة للاستثمار، وأبوظبي القابضة "أ دي كيو"، وهيئة الإمارات للاستثمار، والشارقة لإدارة الأصول.
آثار سلبية لتأخر الاستثمارات الخليجية
وهكذا يمكن توقع تمهل بعض الصناديق السيادية الخليجية في الدخول للسوق المصري حالياً حتى تتحسن أوضاعه، وفي الوقت نفسه تضغط للحصول على مزايا نسبية، خاصة بتحديد الشركات المطلوب شراء حصص منها، ونسب تلك الحصص، في ضوء الحاجة الماسّة للحكومة المصرية للنقد الأجنبي.
وهكذا يتسبب التريث الخليجي في طول أمد الأزمة المصرية الحالية، واتساع الفجوة بين السعر الرسمي للدولار والسعر بالسوق الموازية، وتدني سعر صرف للجنيه المصري بأسواق الصرف الآجلة، وتأخر حصول مصر علي القسط الثاني لقرض صندوق النقد الدولي، وكذلك على القرض الذي طلبته من صندوق الصلابة التابع لصندوق النقد الدولي.
وتزايُد احتمالات خفض التصنيف الائتماني للديون المصرية طويلة الأجل، واستمرار حالة الترقب والتوقف الحالية بالمجتمع الاقتصادي، حيث اتجهت الغالبية للاستثمار، إما في العملات الأجنبية أو في الذهب على حساب باقي الأنشطة الاقتصادية، وبالتالي الدخول في دوامة المزيد من خفض الجنيه المصري كل عدة أشهر، دون استقرار لسعر الصرف.
لكن الصناديق السيادية الخليجية في رأيي لن تتخلى عن السوق المصرية ذات الكتلة السكانية الضخمة، والمرتبطة بعدد من اتفاقيات التجارة الحرة مع العديد من الدول، وفرص الربح العالية بها.
فها هي نتائج أداء البنوك الخليجية العاملة بمصر بالعام الماضي، تشير إلى بلوغ نسبة العائد على حقوق الملكية ببنك أبوظبي الأول مصر 38%، والأهلي الكويتي 27% وأبوظبي الإسلامي 25%، والإمارات دبي مصر 24%، والأهلي المتحد الكويتي 19%، وقطر الوطني مصر 19%، والكويت الوطني 16%، وأبوظبي التجاري 15%، وأ بي سي البحريني 3.5%، ما دفعه للاستحواذ على بنك بلوم اللبناني مؤخراً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.