ما من شيءٍ حزّ في نفسي وهمّني خلال الفترة الماضية بقدر ملاحظة تعرّض المكفوفين الصابرين أحباب اللّه للأذى والإهانة من مذنبين في حقّهم، وحقّ المارّة عموماً من أصحاب المحلّات في المدينة العتيقة، وحتّى في سواها من الأرصفة والطرق العامّة.
علِقت بذهني صورة أحدهم رافقته مرّة في طرق مدينة صفاقس العتيقة؛ حيث كان يعمد في سيرنا إلى التّنبيه لمروره بعطر القول مفشياً السلام بصوتٍ رخيم يحمل الكثير من الخجل. غير أنّه كان يحاول بمشقّة الاحتفاظ بمسافة عن جانب "النهج" الممرات الضيقة، التي بداخلها المحلّات والدكاكين، والتي تحتل جانبي الطرق والممرّات وجزءاً منها، حتّى ضيّقت على المارّة وأعيتهم، وذاك مكمن الأذى.
استغربتُ في البداية محاولته تحاشي جانب الممرّ بتوجّس، رغم أنّني أرافقه دليلاً، وكان ضيق الممرّ يصعّب مهمّتي بعض الشيء؛ إذ يجب أن أفسح الطريق للقادمين من الجهة المقابلة أو أضطر للاحتكاك أو الارتطام بهم.
لم يكن فعله ذاك لجهله بالطريق، فهو ابن المدينة، وكان يخمّن كلّ فترة أين صرنا بقدر من التوفيق وخبرة الخطوات، كما لم يكن لعدم إدراكه أنّ الحائط قد يكون سنداً له في صورة التعثّر، لا قدّر الله، أو وسيلة للاستدلال، لكن لخوفٍ من أذى بعض أصحاب المحلّات.
تبينتُ ذلك عندما سارع للاعتذار بشيء من الارتباك فور ملامسة كتفه بضاعةً معلّقة على بُعد نصف متر من باب محلّ، وهي مسافة كبيرة في "أنهج" وممرّات المدينة العتيقة. طمأنته أن لا ضرر قد حصل فخبّرني بقهر عن تعرّضهم للإهانة والتقريع من أصحاب بعض المحلّات، إذا ما أسقطوا أو أضرّوا ببضاعتهم الموضوعة أصلاً في الطريق العام.
أجبته بأنّ الوزر يقع على هؤلاء الباعة، غير أنّه آثر الصمت عن الموضوع مغلوباً على أمره، وجاريته في ذلك لعدم نفع الكلام. تابعنا طريقنا حتّى أوصلته إلى وجهته التي دلّني عليها قبل أمتار من وصولنا.
تفارقنا وبالقلب وجعٌ لحاله ورفاقه أحباب الله، إذ مقرّ اتحاد المكفوفين يقع وسط المدينة العتيقة بـ صفاقس، وحتّى إن كان خارجها فالحال واحد. الاستيلاء على الطريق من قبل أصحاب المحلّات وأذى ومشقّة للمارّة، سيما ذوي الهمم، يزداد كلّما ضاقت الطرق والأرصفة أو غابت هذه الأخيرة. والمدينة العتيقة معروفة بضيق ممرّاتها وأزقّتها، فزاد عديمو البصيرة هؤلاء اختناقها وصاروا يرون فيما احتلّوا من أرضٍ أشبه بمِلكيّة لهم.
هكذا الحال منذ عقود طويلة، ولم يجرؤ أحد على ردعهم، بل ساء الوضع أكثر بفساد أعوان الدولة الذين ينالون مقابل سكوتهم عن احتلال الطريق العام والاستحواذ غير القانونيّ على الأرصفة، فما بالك بالفوضى التي طبعت سنوات ما بعد الثورة.
ويجب أن نعود في التاريخ بعيداً لنجد قراراً صارماً بهذا الخصوص اتّخذه "حمّودة باشا" قبل أزيد من قرنين من الزمن وقت قويت الدولة، إذ أمر بهدم ما ابتناه واستحوذ عليه أصحاب المحلّات في الطريق العام وإلزامهم بمساحة دكاكينهم رفعاً للأذى عن الرعيّة. وكان هؤلاء التجار قد حاولوا الاستفتاء بالحيازة لتلك الاماكن، لكنّ العلماء ردّوهم خائبين بحكم أنّ الضرر لا تحوّز فيه.
أخذتهم العزّة بالإثم وتصوّروا أنّهم الضحايا فيما هم مقترفو الأذى، حالهم من حال القلّة القليلة التي طالتها قرارات الهدم في زمننا هذا، أو حتّى المشهد الساخر لأصحاب سيّارات الأجرة عندنا، عندما احتجّوا وقت أزمة قوارير الغاز، مطالبين بتوفيرها فيما الأصل أنّ استخدامهم إيّها وقوداً لسيّاراتهم غيرُ قانونيّ، لكنّ الدولة صامتة عن ذلك. والصمتُ عن الخطأ يفشيه، والتعوّد والتطبيع يمنحه نوعاً من الشرعيّة عند مرتكبيه، وما أكثر الأذيّة والأخطاء والخطايا المسكوت عنها في هذه الدولة المتهالكة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.