"الجريمة والعقاب"، في تلك الرواية الخالدة ظهرت عبقرية الكاتب الأدبية والنفسية، وذلك من خلال الغوص في أعماق النفس البشرية، حيث استطاع الروائي العبقري فيودور دوستويفسكي أن ينقلنا بخياله الخصب إلى تلك الحقبة من الوقت، وذلك بوصفه للمكان والزمان وحتى الأشخاص بملابسهم وهيئاتهم وقسمات وجوههم وطول وقصر قاماتهم وأحجامهم، واشتمام رائحة المكان بمخيلتنا لوصفه الدقيق للأحياء والأزقة.
وتعبر "الجريمة والعقاب" عن مرحلة النضج الأدبي للكاتب، ويظهر ذلك بكمال مكونات عناصر الرواية الأدبية التي تتمثل بالزمان والمكان، وتظهر الحبكة في سياق الأحداث التي تدور حولها فكرة رواية "الجريمة والعقاب" كلها، وتهدف الحبكة الى حل المشكلة وفك العقدة التي يعاني منها البطل، بسرد مشوق ومثير مع الشخصيات كأنه في مشهد سينمائي.
أحداث "الجريمة والعقاب"
حيث تدور أحداث "الجريمة والعقاب" في مدينة "سانت بطرسبرغ" في روسيا القديمة، فتبدأ بوصف مسكن الشاب الجامعي "روديون راسكولينكوف" البائس في أحد الأحياء الفقيرة، فعند خروجه من مسكنه بعد أن نجح في تجنب لقاء صاحبة البيت؛ لكيلا تذكّره بدفع ما عليه من ديون فيتسلل على السلم كالقط الحذر دون أن يراه أحد.
تبرز عبقرية الكاتب بأنه يطلعنا على الحديث الذاتي الذي يدور في ذهن الشاب عندما أراد أن يغير واقعه المحبط بفكرة راودته في نفسه، وهي قتل العجوز المرابية وسرق أموالها لتحقيق العدالة، فيقول: "لماذا تمتلك تلك العجوز المال وهي عجوز وشريرة وهنالك الفقراء من يستحقون المال عوضاً عنها؟"، فتدور الأفكار في ذهنه قائلاً: "يبدو أنني أثرثر كثيراً ولأنني أكثر الكلام لا أعمل شيئاً أو على الأصح أنني أثرثر لافتقاري للعمل، ولقد تعلمت ذلك خلال هذا الشهر بسبب بقائي أياماً كثيرة منطوياً في ذلك الجحر أفكر في كل شيء وفي لا شيء".
"هل أستطيع تنفيذ ما عزمت عليه؟ هل يعقل أن أكون جاداً في ذلك؟". ولم ينفك عن الحديث مع نفسه في كل لحظة بتفاصيل ارتكاب الجريمة، حتى دخل المقهى ليروي عطشه فشعر براحة آنية ثم عادت أفكاره أكثر وضوحاً وتركيزاً، راح يخاطب نفسه من جديد، وفي أثناء ذلك التقى أحد المخمورين.
"كان يبدو أنه فريسة اضطراب معين"
فبدأ يقول بلهجة رزينة: "حقيقة يا سيدي العزيز، إن الفقر ليس عيباً، كما تعرف كذلك أن الإدمان رذيلة، لكن العوز يا سيدي، نعم العوز، إنه عيب ولا شك".
لأنك في الفقر تستطيع الحفاظ على نبلك ولكن في العوز تفقد كرامتك، ثم يبدأ يروي له قصته ويتكلم عن ابنته سونيا الرقيقة التي اضطرت إلى العمل في البغاء لإطعام إخوتها.. فهتف أحد المستمعين: "يالك من مهرج يا هذا! لماذا لا تعمل وتصون كرامتك؟! أكمل (مارميلادوف) حديثه متجاهلاً ذلك الصوت، موجهاً حديثه للشاب قائلاً إن قلبي يقطر دماً كلما أحسست بما أنا عليه من ذل وحقارة".
يقول سيغموند فرويد إن "دوستويفسكي معلمٌ كبيرٌ في علمِ النفس. لا أكادُ أنتهي من بحثٍ في مجالِ النفسِ الإنسانيةِ، حتى أجدَ دوستويفسكي قد تناولَه قبلي في مؤلَّفاتِه".
لابد أن هنالك علاقة وطيدة بين الأدب وعلم النفس، إنهما يسيران نحو الاتجاه نفسه وهو البحث في الوعي والإدراك الفردي والجمعي للإنسان، ولكن الأدب أكثر شمولية، لأنه يضم الحقائق المادية ويعترف أيضاً بالروحانيات، ويذكرها بعفويتها كما جاءت دون الالتزام بمنهجية معينة.
وعليه يمكن أن نقرأ الأحداث السابقة كالآتي: قد ضعف الشاب أمام التحديات التي واجهته فارتكب جريمته، وإن الرجل المخمور كان يتألم من واقعه وعجزه فهرب بتخدير نفسه بشرب الكحول، وإن زوجته المسكينة كاترينا قد أصابها مرض السل من الفقر والقهر على أبنائها الحفاة الجياع، كانت تحاول وتقاوم حاضرها من خلال قص حكايات ماضيها النبيل، فكانت تعيش حياة كريمة في طفولتها فبقيت حبيسة الماضي ولم تستطع أن تتجاوزه وأن تتقبل واقعها الصعب.
أما سونيا فهي البطلة الأبدية من وجهة نظر الكاتب، هي الوحيدة التي لم تستسلم لواقعها المؤلم وعملها البغيض، لم تفقد إيمانها مع مرارة الواقع، بل قدمت المساعدة، وضحّت بكل شيء تملكه من أجل الآخرين، وأشعلت شرارة الأمل والإيمان لدى راسكولينكوف ودفعته إلى الاعتراف بجريمته لينال العقاب الذي يستحقه.
حيث اعتبر الكاتب أن العقاب النفسي أشد وطأةً من العقاب الجسدي، كأنه استطاع أن يجسد المدرسة المعرفية السلوكية في علم النفس لأبطال "الجريمة والعقاب" والتي تنص على رصد الأفكار التلقائية من خلال المواقف التي تحدث معنا ومراقبة أثرها على المشاعر حتى يتشكل الوعي والإدراك لسلوكنا، كأنه يقول: "من أن أجل أن تستطيع الاستمرار في الحياة مع تحدياتها وصعوباتها، عليك أن تعيش اللحظة الحالية هنا والآن، لا تقفز ما بين الماضي والمستقبل، عش اللحظة الآنية".
فعندما رفض الشاب واقعه وخاف من مستقبله المحبط ارتكب جريمة القتل. أما كاترينا التي لم تستطع أن تتجاوز الماضي وتقبل الحاضر فكانت نهايتها المرض والجنون، وزوجها المخمور الذي يشكل تحدياً لأنه كان لديه إدراك ووعي بما يحدث لكنه لم يحاول التغيير، استسلم لواقعه بالهروب منه فمات بقهره وحزنه.
سونيا هي التي حاولت أن تساعد نفسها والآخرين من الواقع المؤلم، واستطاعت أن تواجهه بالإيمان الصادق المبني على مرجعية ثابتة لا يمكن أن تحيد عنها، فاستطاعت أن تَبُث الإيمان والأمل فيمن حولها، ولم تؤثر المواقف القاسية في معتقداتها الجوهرية.
ويبقى السؤال المهم هنا: لماذا هناك أشخاص دون غيرهم يحافظون على إيمانهم بمعتقداتهم وعلى مبادئهم مهما كانت ظروفهم الحياتية والنفسية قاسية ومتغيرة وكيف يمتلكون الشجاعة لذلك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.