مع مرور أسبوعين على الاقتتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تلاشت التوقعات المتفائلة بأن ما يحدث هو مجرد تمرد سيستغرق القضاء عليه بضعة أيام، فبدأت الدول الغربية والعربية بإجلاء بعثاتها الدبلوماسية، ثم مع تواصل القتال شرعت في إجلاء مواطنيها، بما فيهم الولايات المتحدة التي ترسل السفينة تلو الأخرى إلى سواحل السودان لتنفيذ عمليات الإخلاء. إن تلك المعطيات تتطلب قراءة موضوعية لاحتمالات تطور الصراع.
لن أتطرق إلى الخلافات السياسية التي أوصلت إلى اللحظة الراهنة، أو كيف تشكلت وتطورت قوات الدعم السريع حتى وصلت إلى صورتها الحالية، فهذا له مواطن أخرى، لكن سأتطرق إلى أهمية السودان الاستراتيجية، والأطراف التي قد تنخرط في الصراع.
صراع السودان وخطوط الصدع
يقع السودان في قلب القارة الأفريقية؛ حيث تمر عبره عدة خطوط صدع، جلبت له تاريخياً صراعات دامية ولا تزال.
أولى تلك الخطوط هو خط الصدع التاريخي بين مناطق النفوذ العربية والإسلامية ومناطق النفوذ الأفريقية الوثنية والمسيحية، وهو ما قاد إلى حرب أهلية في الجنوب بدأت في عام 1955 واستمرت لعقود، وانتهت باستقلال جنوب السودان في عام 2011، وفقدان الشمال لنحو 75% من إيراداته النفطية، مما أوقعه في ضائقة اقتصادية ما زالت تلقي بظلالها على المشهد السوداني حتى اليوم، كما نتجت عنها خلافات حدودية بين الخرطوم وجوبا أدت إلى حدوث مناوشات قبلية متكررة، واحتضان كل منهما لفصائل معارضة مسلحة ضد الجانب الآخر.
أما خط الصدع الثاني فيقع بين مناطق السهول ذات الغالبية العربية المسلمة ومناطق النفوذ الإثيوبية المسيحية في مرتفعات الحبشة، وهو ما أدى إلى تكرار النزاعات الحدودية بين البلدين، وفي إحداها نهاية القرن التاسع عشر استغل الإمبراطور الإثيوبي "منيلك" القتال قرب أم درمان بين أنصار الثورة المهدية والقوات المصرية البريطانية، ليسيطر على منطقة "بني شنقول" العربية، والتي أقيم عليها سد النهضة مؤخراً.
وما زالت حتى اليوم توجد خلافات تؤدي لاشتباكات بين القوات السودانية والإثيوبية على منطقة الفشقة الحدودية، حيث تسلل سكان المرتفعات الإثيوبية للزراعة في المنطقة السهلية السودانية.
يقع خط الصدع الثالث بين القبائل العربية والإفريقية المسلمة في غرب السودان، وهو ما قاد إلى أزمة دارفور الشهيرة، والتي صعد خلالها نجم حميدتي، وانبثقت منها قوات الدعم السريع. وهي منطقة تتحكم في عقدة مواصلات مهمة على الحدود السودانية الليبية التشادية.
تشير تقارير برنامج "مسح الأسلحة الصغيرة" بجنيف إلى أن قوات الدعم السريع من خلال تمركزها في تلك المنطقة تسيطر على عمليات الهجرة غير النظامية من إفريقيا إلى أوروبا عبر السواحل الليبية، كما تتحكم في مسارات تهريب المخدرات من الغرب إلى الشرق باتجاه مصر، فضلاً عن إشرافها على مناجم الذهب في جبل عامر.
يقدر خبراء الأمم المتحدة أنه خلال الفترة من 2010 إلى 2014 تم تهريب 48 طن ذهب من دارفور إلى دولة الإمارات، فضلاً عن كميات الذهب المستخرجة رسمياً. وهو ما يعني أن بإمكان حميدتي إغراق أوروبا بالمهاجرين ومصر بالمخدرات والأسلحة.
بجوار خطوط الصدع الثلاثة، يتمتع السودان بموقع استراتيجي حيث يقع بالقرب من مضيق باب المندب ويطل على ساحل البحر الأحمر الذي يمثل عقدة اتصال استراتيجي تربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الهندي، وتمر عبره نحو 12% من التجارة العالمية المنقولة بحراً، و40% من تجارة أوروبا مع آسيا والشرق الأوسط، مما يجعله بؤرة صراع بين القوى الإقليمية والدولية.
نظراً لموقع السودان تسعى روسيا لإقامة قاعدة عسكرية بحرية في بورتسودان، وهو ما ترفضه واشنطن وأوروبا. كذلك تسعى شركة "فاغنر" الروسية لترسيخ حضورها في السودان، حيث تواجدت فيه عقب زيارة الرئيس السابق عمر البشير إلى موسكو في عام 2017 لطلب المساعدة من بوتين ضد التدخلات الأمريكية في الشأن السوداني، فبعدها تولت "فاغنر" تدريب قوات الدعم السريع على فض التظاهرات، ثم بنت "فاغنر" شراكة مع "حميدتي" قائد قوات الدعم السريع في ملف التعدين عن الذهب في جبال النوبة ودارفور وولاية نهر النيل وفي دولة "إفريقيا الوسطى".
آفاق الصراع في السودان
لم يكن الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش" بعيداً عن كبد الحقيقة حين حذر من أن القتال الحالي في السودان قد يتسع ليبتلع المنطقة بأسرها، فالأمر ليس مجرد تمرد عسكري عابر، إنما هو صراع تختلط فيه الحزازيات العرقية والمناطقية بمظالم تاريخية، ويمتزج فيه المحلي مع الإقليمي والدولي، وتوجد أطراف عديدة لديها مخاوف أو ثارات وتتأهب للدخول في الصراع بجوار هذا الطرف أو ذاك.
فموسى هلال زعيم الجنجويد السابق، وأحد رموز عشيرة المحاميد المتفرعة من قبيلة الرزيقات، والذي أزاحه حميدتي ابن عشيرة أولاد منصور من موقعه، أعلن دعمه للجيش السوداني، وهو نفس موقف الرئيس التشادي ديبي الذي يتخوف من أن يصبح حميدتي الرجل القوي في المنطقة، وبالأخص لعلاقة حميدتي بالمعارضة التشادية المسلحة، ووجود مقاتلين تشاديين ضمن قوات الدعم السريع.
وبينما ينفي حفتر ما أوردته صحيفة وول ستريت جورنال عن إرساله إمدادات إلى حميدتي، فإن وقائع عدة أوردتها لجان خبراء الأمم المتحدة المعنية بليبيا خلال السنوات الماضية تكشف اعتماد حفتر على قوات من القبائل العربية والأفريقية بدارفور وتشاد في مغامراته العسكرية، وتقاسمه مع حميدتي إدارة ملف التهريب عبر جنوب ليبيا. كذلك فإن حميدتي الذي زار روسيا قبيل اندلاع الحرب في أوكرانيا بساعات، يتمتع بعلاقات وطيدة مع فاغنر المتمركزة في ليبيا وإفريقيا الوسطى، وقد يتلقى من موسكو دعم وإمداد.
في حال تقدير إثيوبيا بوجود فرصة لفرض سيطرتها على منطقة الفشقة الحدودية، فستصبح مصر في موقف حرج قد يدفعها للدخول كطرف في الصراع بالأخص مع استمرار أزمة سد النهضة. كذلك قد يدفع القتال الحالي الحركات الانفصالية السودانية التي وقعت اتفاقيات سلام مع الخرطوم بعد عزل البشير، إلى النشاط مجددا في دارفور وكردفان والنيل الأبيض، فضلاً عن شرق السودان الذي تلعب فيه إريتيريا دوراً هاماً، وهو ما يهدد وحدة السودان، كما يفتح الباب لامتداد الصراع إلى جنوب ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإريتريا.
إن المنطقة الممتدة من ساحل البحر الأحمر والقرن الأفريقي إلى الساحل والصحراء الأفريقية، تشهد حالياً حروباً طاحنة، ونشاطاً لجماعات مسلحة عديدة ذات خلفيات دينية وعرقية وقبلية، لتصبح إفريقيا على صفيح ملتهب لا يقل سخونة عما يحدث في أوكرانيا، لكنه بعيد نسبياً عن دائرة الضوء الإعلامي رغم تداعياته الخطيرة، وهو ما يضيف له القتال في السودان مزيداً من التأجيج، ولا يبدو أنه سيخبو قريباً، فالأطراف الدولية والإقليمية ستسعى للاستثمار في تلك النزاعات لتعزيز مصالحها وتقويض مصالح الأطراف المنافسة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.