في كتابه (المئة عام القادمة)، يقول جورج فريدمان: "أي نقاش حول المستقبل يجب أن يبدأ بنقاش حول الصين، ربع سكان العالم يعيشون في الصين، ولطالما كان هناك اهتمام كبير بالنقاش حول الصين كقوة عالمية مستقبلية".
ولأن القلق الكبير من تناقص المواد الخام والنفط والغاز الطبيعي، والنقص المتسارع في الذخائر، في القارة الأوروبية بسبب الحرب الأوكرانية الروسية، يسيطر على قادة أوروبا؛ فقد كان النقاش يتصاعد في الآونة الأخيرة حول التوجه الأوروبي نحو الصين، بعدما ظلت مصالحهم وعلاقاتهم الاقتصادية، والسياسية، لعقود عديدة مع الولايات المتحدة، وفي محاولة للانعتاق من القطب الأمريكي المهيمن على النظام الدولي.
تعتبر العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وجمهورية الصين الشعبية، هي علاقات ثنائية تأسست عام 1975 بين جمهورية الصين الشعبية والجماعة الأوروبية، وتهدف العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين وفقاً للدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية إلى التعاون في مجالات السلام، والازدهار، والتنمية المستدامة والتبادلات بين الأفراد.
ولأن الصين تلتزم سياسة صفر مشاكل، وعدم التدخل في النزاعات المندلعة بين الأطراف الدولية، وتنظر في سياستها الخارجية بمنظور يجعل من تلك النزاعات الدائرة فرصة مناسبة لتحويل تلك النزاعات إلى الحديث عن المصالح المشتركة، والفوائد الكامنة في كل الأطراف من ناحية اقتصادية ومنفعية، تعلو على موضوع النزاع، فقد كان توجه بعض أطراف الاتحاد الأوروبي لها فرصة سانحة لتحقيق توجهاتها واستراتيجياتها، خاصةً مشروعها "طريق الحرير".
ومنذ انتهاء الحرب الباردة تحولت الصين إلى التزام سياسات جديدة، تحاول من خلالها إحداث تحول في بنية النظام الدولي، وهو إحداث التحول من آحادي القطبية إلى نسق متعدد الأقطاب، أو إلى الوصول إلى حالة من اللاقطبية في النسق الدولي، وكان مشروع "الحزام والطريق" أو "طريق الحرير" هو المبادرة التي خرجت بها الصين على العالم، في شكل بيان صدر في 18 أغسطس 2003، أكدت فيه ضرورة الاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإدارة الصراعات الدولية سلمياً، ومعارضة استخدام أو التهديد باستخدام القوة، ودعم مفهوم جديد للأمن يكون جوهره الثقة المتبادلة والمساواة في السيادة بين الدول، أياً كانت ظروفها الاقتصادية والسياسية، وتحقيق التعاون المنفعي المتبادل والتنمية المشتركة بين الدول كافة.
لذا فقد كان حديث الرئيس الفرنسي ماكرون، الأخير، بعد زيارته للصين والذي طالب فيه الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف محايد في المسألة التايوانية، والصراع الصيني التايواني، (تايوان هي منطقة استراتيجية هامة لكلا الفاعلين الأمريكي والصيني، فهي تربط بين دول حليفة للولايات المتحدة في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، توليها الولايات المتحدة اهتماماً كبيراً، لأنها تمثل البعد الجنوبي لحليفتها اليابان، والبعد الشمالي لحليفتها الفلبين. وتعتبر تايوان بالنسبة للصين أيضاً منطقة هامة وحساسة لموقعها الجيوسياسي في بحر الصين الجنوبي، الذي يؤثر تأثيراً مباشراً على السيادة الصينية)، ودعا "ماكرون" إلى "استقلال استراتيجي" للاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية، كان يلاقي حديثه استجابة كبيرة للقادة في الصين.
ولأن الاتحاد الأوروبي يلتزم بسياسة "صين واحدة"، ويحترم سيادة الصين وسلامة أراضيها، فقد كانت الحاجة الاقتصادية له تدعو إلى تفعيل الميزان التجاري والاقتصادي معها، في ظل حروب الاستنزاف الدائرة بين روسيا وأوكرانيا أو بين روسيا والولايات المتحدة التي تقاتل بذراع أوروبية داخل أوروبا، لتركيع وإنهاك الدب الروسي، وتحقيق هيمنة الولايات المتحدة، فقد أظهرت الدراسات التي يقوم بها خبراء الاقتصاد في أوروبا أن القارة بحاجة إلى سياسات تجارية أخرى مع الصين، وأن أوروبا بأكملها باتت تعتمد على نحو 6 آلاف و887 منتجاً صينياً للحفاظ على إنتاجها وصناعاتها، وفي وقت ظلّ فيه الاستيراد من الدول الأخرى منخفضاً بصورة كبيرة، مع هذا فإن الصين تمثل للاتحاد الأوروبي بوابة يمكن أن تربطه بالدول الآسيوية في مجالات عديدة، مثل النقل والطاقة والاتصال الرقمي.
صحيح أن حدة التنافس الأمني والاقتصادي والسياسي بين الصين والولايات المتحدة تتصاعد، وترى الأخيرة أن الصين تمثل عدواً محتملاً وقوى صاعدة ينبغي إضعافها بأي وسيلة، وبالنسبة للداخل الأمريكي أيضاً فإن الصين تعتبر التهديد الأكثر خطورة على الولايات المتحدة، لما تقوم به الصين من إعادة تشكيل منطقة المحيطين الهادئ والهندي، ومن إقامة قواعد عسكريّة في عدة دول، إضافة لكونها دولة اقتصادية قفزت إلى الصدارة بسرعة كبيرة مقارنةً مع غيرها من الدول، ولأن رؤية الصين هي إيجاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، أو نظام عالمي لا قطبي، لذا سعت الصين لتعزيز علاقاتها مع مختلف الدول معتمدة على طاقتها وإمكانياتها الاقتصادية، ومشروعها طريق الحرير، فنجدها توقع شراكة اقتصادية واستراتيجية مع إيران، مثلما توقع مع روسيا، ومن غير المستبعد أن تقوم بتوقيع اتفاقيات اقتصادية كبرى مع معظم دول الاتحاد الأوروبي، باعتبار الاتحاد الأوروبي قطباً هاماً في نظام الهيمنة متعدد الأقطاب المتوقع، في حالة استقطاب جديدة كان المتسبب فيها هو الولايات المتحدة نفسها.
صحيح أن إعلان "مارشال" في منتصف عام 1947 كان في حقيقة الأمر يجسد الهيمنة الأمريكية وسياسة فرض الأمر الواقع، وطوق النجاة للقارة الأوروبية لتجديد اقتصادها وضخ الحياة فيه، بعد أن تعاظمت آثار الحرب العالمية الثانية في الدول الأوروبية، التي كان من أميز مظاهرها تفشي البطالة وانعدام مصادر الطاقة، ونفاد احتياطي العملات الصعبة والذهب، غير أن المساعدة الأمريكية وقتها تجاه الدول الأوروبية ليست لتفريغ المنتج الصناعي الفائض من السلع الأمريكية، وإيجاد أسواق أوروبية فحسب، ولكن كانت من جهة ثانية سياسة فرض الأمر الواقع أمام الهيمنة والسيطرة الأمريكية، والتي لا تملك الدول الأوروبية مجتمعة أو متفرقة إلا الإذعان والرضوخ لها، في مسميات عديدة مستترة أحياناً وظاهرة أحياناً أخرى، مثل الشراكة أو التفاهم أو التنسيق أو غيرها، لكن أتصور أن الأمر مع الصين مختلف لرؤية واستراتيجية الصين في إيجاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.