بعد الكثير من الشكوى على مدار سنوات عرض مسلسلات مكونة من ٣٠ حلقة في الموسم الدرامي وقد تمتد لأكثر من موسم لكننا نشاهد الآن جدوى الانتقاد للدراما الممطوطة والمحشوة بهوامش غير هامة فقط لسد الفجوات وتسلية المشاهدين طوال أيام الصيام.
يشهد الموسم الدرامي المصري لهذا العام لأول مرة عرض أكثر من مسلسل مكون من 15 حلقة فقط. بدأت الأزمة في الظهور حينما نجحت مسلسلات كثيرة عربية وعالمية في لفت انتباه المشاهد خارج أي سباق موسمي، ومن خلال منصات المشاهدة المدفوعة التي يُعرض عليها المسلسل لعدة مواسم ولكن في 10 حلقات على الأكثر في كل موسم.
واقع مسلسلات رمضان 2023
في الموسم الدرامي الحالي، نجح العديد من المسلسلات المُكثفة والمكتوبة بعناية شديدة بأدق التفاصيل في لفت انتباه المشاهد المعتاد على دراما تتصاعد ببُطء شديد لتظل مداومة على لفت الانتباه خلال 30 يوماً.
آراء وتحليلات انتشرت حول العديد من مسلسلات رمضان 2023 سرعان ما حجزت مكانتها في قلوب الناس باعتبارها أفضل مسلسلات الموسم الدرامي كمسلسل "الهرشة السبعة" الذي قام ببطولته علي قاسم وأمينة خليل ومحمد شاهين والذي دارت قصته عن المشكلات التي تبدو عادية في حياة أي اثنين يشتركان معاً في حياة واحدة.
فلا يحتاج المشاهد في الوقت الحالي إلا لمشاهدة قصة جيدة، وحوار متماسك ورؤية إخراجية واضحة، لم يعد يأمل المُشاهد العام في أكثر من هذا لأن مع انتشار الأسوأ ورواجه يصبح المحتوى المعقول في طرحه والأكثر ميلاً نحو الواقعية للشرائح الاجتماعية الكُبرى هو المحتوى الجيد.
مسلسل رشيد: معالجة درامية معاصرة لرواية الكونت دي مونت كريستو
في النصف الأول من رمضان ظهر مسلسل "رشيد" من بطولة "محمد ممدوح" و"ريهام عبدالغفور" كانت البداية مرتبكة ومُربكة لمسلسل درامي مأخوذ عن واحدة من أشهر الروايات الفرنسية العالمية، وهي "الكونت دي مونت كريستو" لألكسندر دوما وأوغست ماكيه والتي صدرت في عام 1844.
يطرح المسلسل عدة رؤى، وعدة أسئلة لا تتلخص في البحث عن الحقيقة أو الرغبة في تحقيق الثأر والعدالة، ولكنه تماماً كالنص الروائي يحمل في حواراته ومشاهده متعة كبرى.
"محمد ممدوح" فنان يشق طريقه نحو النجومية بموهبته، في زمن أشباه الموهوبين وعديمي الموهبة ينجح ممدوح أو "تايسون" كما يحب جمهور ممدوح تسميته نسبة لأحد أبرز أدواره، ينجح كل مرة في خلق مساحة خاصة به، يبتعد عن الرائج أو الرخيص، يتطور ويجتهد، يُكثف حضوره في كل عام من خلال مساحات أوسع وأشمل.
يدور مسلسل رشيد حول شخصية "رشيد السيد أمين" الذي يتعرض للخيانة من أقرب أصدقائه، فيتم حبسه 14 عاماً تقريباً -نفس مدة حبس بطل الرواية- في قضية قتل -مُلفقة- مع سبق الإصرار والترصد حتى يهرب هو وصديق آخر من السجن للبحث عن براءته.
بالنظر لأسماء المشاركين في صناعة هذا العمل من ناحية الكتابة أو الإخراج، فإننا نجد أسماء تخوض التجربة للمرة الأولى مثل المخرجة "مي ممدوح" شقيقة بطل المسلسل والتي عملت كمخرج منفذ في أعمال عديدة سابقاً مثل "زي الشمس وواحة الغروب" وغيرهما، ولكنها نجحت في الخروج بمسلسل رشيد على أكمل وجه من حيث التنقل في الزمن مثلاً أو من خلال سد الفجوات التي قد تنتج في نص روائي غير معاصر وكلاسيكي مثل الكونت.
من خلال التنقل في الزمن بين حاضر بطل المسلسل الذي هرب لإثبات براءته وحتى العودة بالزمن للخلف إلى ما قبل الحادثة نجد تبدّلاً تاماً، مصنوعاً بإتقان، بالاعتماد على قدرات الممثلين في صنع تاريخ لشخصياتهم المُجسدة.
كما نجد اهتماماً بالغاً بالديكور في فترة 2009 التي يدور فيها شطر المسلسل الأول، وخلق لازمات خاصة بكل شخصية والاستعانة بها فيما بعد، بالإضافة للعبة الزمن فإن تطور مشاعر الشخصيات خلال هذه المدة الزمنية شيء لم يُر كُلياً للمشاهد ولكنه انتقل من خلال الصورة أو من خلال الحوارات المباشرة.
تعاون محمد ممدوح مع ريهام عبدالغفور هو واحد من أهم تعاون في مسلسلات رمضان 2023 بلا شك، المساحة الفنية المتاحة لريهام في عمل كهذا منحتها القدرة على تقديم موهبتها كما ينبغي لفنانة نضجت موهبتها على مهلٍ، انتقائية بصورة مُدهشة.
لذلك نكتشف قدرة ريهام عبدالغفور على التلون والتحول لأكثر من شخصية في نفس اللحظة من خلال نظرات العيون أو تبديل طبقة الصوت، تطور كبير في شخصية "أسماء" التي تمر على أكثر من مرحلة عمرية أو تتبدل مصائرها مع التطور الدرامي المتداخل في حكاية رشيد.
كما لا يُمكن إغفال دور "جامايكا" الولد المُشرد الضائع من أسرته والتي قام بأداء شخصيته الفنان الصاعد "حسن مالك".
العديد من التفاصيل في عمل كهذا اعتمد على التحضير الجيد لكل شخصية، وشخصية "جامايكا" الولد الهارب من الملجأ هي واحدة من أكثر الشخصيات تعقيداً في دراما هذا العام، يظهر "حسن مالك" بلا انطباعات مسبقة كثيرة عنه، بلا آمال قد تُصيب أو تخطئ؛ لذا فإن هذا التحرر هو واحد من أهم الأسباب التي ساهمت في التعبير عن شخصية ولد هارب من ملجأ أيتام وتاجر مخدرات بكل هذه الواقعية.
بالرغم من وجود العديد من المحاولات في تأدية دور أبناء الشوارع من نجوم ومشاهير غالباً ما تخرج شخصياتهم على الشاشة في شكل كاريكاتيري إلا أن "حسن مالك" تمكن من تجسيد الشخصية من خلال عدم تكلفه وبساطته، ووعيه بتفاصيل الشخصية التي يؤديها ليس من خلال قراءة السيناريو فقط، ولكن باستخدام الخيال والقدرات التمثيلية التي تعتمد على لغة الجسد أو التمكن من انعكاس الشخصيات الواقعية على الشاشة.
مسلسل تغيير جو: منة شلبي حبيبة الملايينم
في النصف الحالي من شهر رمضان يُعرض حالياً مسلسل "تغيير جو" من بطولة منة شلبي وإخراج "مريم أبو عوف"، فمازالت منة قادرة على لفت الانتباه في أي عمل، يمكنها التلون وتجسيد أي شخصية بسهولة.
يتعامل الجمهور مع منة منذ ظهورها باعتبارها فنانة طبيعية، لا تعتمد على المؤثرات للظهور على الشاشة، بلا أي تكلف أو محاولات لتأطير موهبتها؛ حيث تتشكل منة شلبي على الشاشة في أي شخصية.
من الحلقات الأولى يرتاح المُشاهد للقطات التي تظهر فيها منة شلبي وكأنه ينتقل لبُعد فني آخر حيث الظهور على الشاشة لا يُسمح إلا لمن يملكون موهبة التجسيد وتغيير جلدهم فقط.
تبدو منة شلبي أكثر من زميلاتها في هذا الجيل أكثر جرأة على التجريب، فتنجح مع إياد نصار في كل تعاون، وتنجح في كل مرة في النفاذ لقلب المشاهد.
لم تظهر معالم مسلسل "تغيير جو" حتى الآن، فبطلته فتاة مستقلة تعاني من الوحدة في ظل غياب أمها في مصحة لعلاج الإدمان تبدو "شريفة" بطلة المسلسل كزورق صغير تائه في عرض البحر. هل تأتي المتعة في الحلقات القادمة ننتظر ذلك؟
مسلسل تحت الوصاية: أحكام مسبقة بلا هدف
منذ أن تم الإعلان عن الغلاف الرسمي لمسلسل "تحت الوصاية" للفنانة "منى زكي" لاحق هذا الإعلان الكثير من الضجيج والصخب، ففي الغلاف الدعائي ظهرت منى زكي ترتدي الحجاب ومعها ولد وبنت، ولكن هذا أثار حفيظة الجميع على اعتبار أن منى لا تجسد المرأة المسلمة المحجبة إلا مظلومة ومقهورة وهذا يضر الشكل العام لمجتمعنا.
منذ الإعلان عن المسلسل، انطلقت حملات التشويه في منى زكي وحملات للمقاطعة، هكذا ببساطة وبلا أي فرصة لمعرفة محتوى تم رفضه بدعوى الخوف من تشويه صورة المرأة المحجبة!
يدور المسلسل في دمياط وتحديداً في "عزبة البرج" حيث تهرب "حنان" من مدينتها بعد موت زوجها واستيلاء أخيه على مركب الصيد الخاصة به وحصول والد زوجها على حضانة الأولاد.
تهرب لمدينة بعيدة وتنجح في تمرير المركب لها ومن ثم تسعى لتزوير أوراق ثبوتية للعيش بعيداً عن شر أهل زوجها.
منذ الحلقات الأولى للمسلسل وردود الأفعال على مواقع التواصل تُشير لنجاح المسلسل حتى في ظل انتقادات جادة حول عدم إمكانية ركوب النساء للبحر والذهاب كقائدة مركب للصيد، ولكن أحياناً نحتاج للفانتازيا لمناقشة القضايا الواقعية.
لذلك من الواجب توجيه اللوم للذين لا يعترفون بالمرأة، ويفرضون عليها كل ما يهوى حظره من ممارسات، ويمنع عنها كل ما يمكن أن يفعله الرجال بدلاً من توجيه اللوم لمن يحاولون صناعة دراما جادة بأنهم يصنعون قصتهم في مكان محظور على المرأة عبوره.
في الحلقة الرابعة من مسلسل تحت الوصاية، يدور هذا الحوار بين أرملة تحاول كسر وديعة باسم أطفالها وبين موظف من المجلس الحسبي:
– أنا جــوزى متـوفي والعيال عندهم شهادات ومحتاجة اكسرها
= اسم المتوفي إيه ؟
– عادل عطية السيد
= إحنا محتاجين الأستاذ عطية السيد اللي هو الجد
– ليه، أنا أمهم
= أنا عارف إنك أمهم .. بس إحنا محتاجين اللي معاه الوصاية على مال القُـصر
– يعني إيه الوصاية ؟
= يعني المسؤول عن أي فلوس تخص الأولاد
– يعني أنا أمهم مقدرش .. دانا أدرى واحدة هما محتاجين إيه
= القانون بيقول طالما الزوج توفي .. يبقى الوصي هو الجد
– وأنا الأم مقدرش .. يعني إيه ولادي يبقى وارثين وأنا مش عارفه آخد الفلوس عشان أصرف عليهم .. انتوا مستصغرني ولا إيه!
يقع كل عمل درامي يتناول الظلم الذي تتعرض له المرأة في مصر على أساس تأويل ديني أو بالاستناد لنص قانوني يستند لتشريع ديني قد لا يكون مناسباً لعصرنا الحالي إلى فريسة، يتم تشويه العمل وصُناعه واتهامهم بالفسق ونشر الفجور فقط لقولهم الحقيقة وعرض قصة المظلوم أمام عيون الظالم.
لا يمكن تجاهل النجاح الكبير لدراما النصف شهر لمسلسلات رمضان 2023، ومع توقع زيادة عدد المسلسلات المُعدّة لـ 15 حلقة فقط خلال السنوات القادمة سواء كانت في الموسم الدرامي الرمضاني أو خارجه وذلك لتعدد الأسباب الإيجابية لهذه الظاهرة التي لا يبدو أبرزها وجود أعمال فنية أكثر تتسم بالترابط والتصاعد السريع للأحداث الذي يخدم جودة العمل، بالإضافة لإتاحة الفرصة للتخلي عن السيناريوهات الرديئة والاعتماد أكثر على التجريب فقط.
ميزة أخرى في مسلسلات النصف موسم، وهي أن الشكل العام للمجتمع لم يعد مثلما كان منذ 30 عاماً مثلاً، لم يعد متوفراً لجميع أفراد الأسرة مثلاً التجمع عند التلفاز، وقت عرض المسلسل، ناهيك عن العدد الكبير للمسلسلات، بالإضافة لوجود مسلسلات كثيرة يفشل أغلبها في لفت الأنظار في السباق الرمضاني وينجح بعده.
في الوقت الحالي، لم يعد المسلسل ذو الـ 30 حلقة عصرياً، أصبح سمة تُميز المسلسلات القديمة التي اعتاد أهلنا مشاهدتها، أما في العصر الحالي حيث المنصات والحلقات المقرصنة، وضيق الوقت الذي لا يسمح لنا بالترويح عن أنفسنا بسبب العمل في وظائف شاقة لمواجهة الأزمات الاقتصادية فإن وجود مسلسل مكثف، جيد المضمون، متماسك في قصته، ويمكن مشاهدته في يومين أو ثلاثة على الأكثر سيمنح المشاهد فرصة أفضل في الحكم على الدراما المصرية بدلاً من التعرف عليها كل عام من خلال المنشورات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.