يهزُّني "جزء عم" كثيراً، وكم أطرب لسماعه من الشيخ محمد صديق المنشاوي! كأنها منه قراءة مودِّع.. صدّقني يا صاحبي.. يغمرني حينها شعورُ مسافرٍ يكاد يطير قلبه مع قرب وصول رحلة العودة لمحطتها الأخيرة.
على أثير الإذاعة.. يُقلع قطار القراءة من "الفاتحة"، حاملاً الهدايات والبشريات، والإنذار والإعذار، ووعود الجنة والنار، حتى يصل بها إلى "الناس"..
وتتفاوت سرعته حسب القارئ والسورة وانفعاله به وتفاعله معها، من حيث الرتم والتنغيم والجواب والقرار… لكن الجميع حين يدخل تلك المحطة الأخيرة (جزء عم)، تتوحد المشاعر في اتجاه واحد.. الوداع.. وداع الختمة المرتلة.. وداع المستمع.. وداع الحياة بأسرها بحلوها ومرها.. وبدء أكبر عملية تفكيك للكون "حتة حتة" إلى أجزاء متناهية الصغر، لتدخل في العدم كما بدأت تعود.. في سرعة رهيبة تخطف الأنفاس قبل القلوب..
"يوم يُنفخ في الصور فتأتون أفواجاً، وفُتحت السماء فكانت أبواباً، وسُيّرت الجبال فكانت سراباً".. "إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سُيّرت وإذا العشار عطلت.. وإذا الوحوش حُشرت وإذا البحار سُجرت".. "إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فُجرت وإذا القبور بُعثرت..".. "إذا زُلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها".. يا لجمال "إذا" وفجأتها.. والأفعال الماضية وهزتها.. وتاء التأنيث ورقّتها وسط ذاك الدمار.. دمار تنهيه هي إلى سكون يتبعه همس (الصفة الملازمة للتاء الساكنة).. وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا..
صدِّقني يا صاحبي.. ستشعر بمدى ضآلتك حين تندمج مع القارئ – أياً كان- وهو يقرأ تلك الجمل السريعة الخاطفة ذات الكلمات الدقيقات الشديدات التي تختزل دقائق من الغضب الرباني، الذي يجتاح كل شيء من الذرة للمجرة.. "يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة"..
الغضب يبتلع الكون بكل ما فيه ويطويه في غمضة عين.. ينتهي بعدها كل شيء إلى لا شيء.. حيث يُسدل الستار على آخر فصول تلك القصة المزعجة.. الحياة.. تخيّل أين أنت وسط كل هذا الجنون الانفجاري بالكون.. يقول الإنسان يومئذ: أين المفر.. كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر..
ألا ما أضعفك! ما أهونك! ما غرك بربك الكريم الذي خلقك..
إيقاع جزء عم سريع جداً.. آيات قصيرة وعبارات أقصر.. وألفاظ جزلة فخمة محمّلة بأثقال من المعاني والدلالات، ولا أعجب من أن تجتمع كلها في سور صغيرة جداً لا تكاد تتجاوز الأسطر، لتصف مشهداً انهيارياً ضخماً.. يتداعى فيه كل شيء بسرعة لم يعرفها البشر من قبل..
حدثني عن ألفاظ في أي لغة تصمد في الوصف وسط هذه الصواعق النازلات والعواصف المرسلات، والجبال السائرات والسموات المطبقات.. وجدلاً.. أعطِ تلك الألفاظ بحالتها تلك لأمهر الحكّائين، ودعه يصف هذه المعمعة الكونية.. إذن فانتظر مشهداً مهلهلاً لن يحرك ذرة فيك..
على كل حال.. ذاك هو النبأ العظيم الذي عنه يتساءلون.. كلا سوف يعلمون ثم كلا سوف يعلمون.. وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً..
وبقدر ما كانت البدايات مبهجة، فإن النهايات هنا تقلب الروح والكيان، تزلزل الزوايا والأركان، ويفر فيها الإنسان من الإنسان.. إنها نهايات الكون، نهايات المصحف المرتل، نهايات الحياة.. نهايات التمادي والطغيان.. اللحظة التي يقول فيها الجليل للجميع: كفى عبثاً.. انتهى الوقت فلتعودوا كما كنتم..
سورة "عم".. وأسلوب المطرقة
كأنها مطرقة تهوي متتابعة على القلوب فتخلعها، ترفع يدك لتتلقى الضربات المتتاليات بدل قلبك الضعيف، فلا يدك تسعفك، ولا قلبك يتحمّل.. هكذا تفعل سورة "عم" بمستمعها.
"عمَّ".. حرفان خفيفان على اللسان حتى صارا الاسم الأشهر لتلك السورة بين الكبار قبل الصغار.. فهي تسمى حقيقةً "النبأ"، لكنّ الحرفين جريا بخفة على ألسنة الأطفال في الكتاتيب، وذاك بفضل سلاسة اللغة العربية ومرونة قواعدها الصوتية، فهذان الحرفان اختزال لأربعة أحرف (عن ما)، حرف الجر (عن) متبوعاً باسم استفهام (ما)، والقاعدة تقضي بحذف الألف من اسم الاستفهام هذا -على سبيل التخفيف- إذا سبق بحرف جر.
وبعيداً عن قواعد الصرف الحاسمة، أسمع هذين الحرفين فأتهادى طرباً وشجناً بين ذكريات الطفولة وعبق الكتاتيب، واللوح الصاج الذي تلقيت عليه جزء عم عذباً سلساً من فمّين طيبين: فم شيخي عبر التلقي والإقراء وفمي عبر الترديد والمحاكاة، وبينهما قلم خشبي يدوّن المسموع، فيلمع المكتوب على الصاج كأنه نزل لتوّه من اللوح المحفوظ.. وذلك قبل أن يُهزم اللوح الصاج العفيّ الذي لا يفنى ولا يكاد يبلى، في معركة الحداثة أمام الكراسات ذات الجنيهات الثلاثة الآن رغم أنها تفنى وسريعاً ما تبلى بالعرق والغرق.
مشهد لا يزال حياً في الذاكرة الأمينة ووحَّد جيلاً لا تزال بقيته الصالحة تمسك بتلابيب المجتمع؛ حتى لا ينهار على رؤوس أجيال حمو بيكا والغزالة الرايقة والبابجي.
أعود لمطرقة النبأ العظيم.. ولا أبالغ إن قلت إني أشعر -حين أسمع تلك السورة مرتلة- بأخْذةٍ تفاجئني وجذبة شديدة يشخص معها البصر، وهذا الشعور هو السر الكامن في آيات السورة القصيرة، فالنص القرآني استخدم أسلوب المطرقة في مواجهة هؤلاء الكفار الجاحدين المعاندين المتسائلين عن النبأ العظيم.. بمعنى أنه تعجب من سؤال بعضهم بعضاً: "عن أي شيء يتساءل هؤلاء المكذبون؟ يتساءلون عن النبأ العظيم؟".
وأياً ما كان هذا النبأ؛ أهو محمد أو القرآن أو البعث والنشور، على اختلاف أقوال المفسرين، فإن القرآن بدل أن يجيبهم أجّل الإجابة وانطلق بنا وبهم في جولة مفتوحة في جنبات الكون الفسيح، ليريهم قدرة الخالق في خلقه عياناً بياناً، "ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعل الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً".
ثم فجأةً يأتي الفصل بين مشهدين؛ الأول الهادئ البطيء المناسب لجو التفكر والتأمل في جمال الكون وقدرة خالقه، والثاني السريع الخاطف المناسب لأهوال الحشر وفجأة البعث والنشور، وفي هذا المشهد تنزل مطرقة الآيات سريعاً على أدمغة الكافرين بعد جولتهم الأولى، في ميدان المواجهة: "إن يوم الفصل كان ميقاتاً يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً وفتحت السماء فكانت أبواباً وسُيّرت الجبال فكانت سراباً".. فلا يكادون يفيقون من ضربة بالمطرقة حتى تفاجئهم ضربة أخرى عبر الآيات القصيرة التي تنزل سريعاً في ضربات متلاحقة على أدمغتهم..
لك أن تتخيل هلع النفخة الأولى نفخة البعث والنشور "يوم ينفخ في الصور"، فـ"يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر".. أفواج وراءها أفواج آتية من كل حدب وصوب "خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة"، "مهطعين إلى الداعِ يقول الكافرون هذا يوم عسر".
لك أن تتخيل مشهداً كهذا: جنائز عكسية تُساق من القبور عقب النفخة إلى ساحة المحشر.. تلاحقها الجبال الأوتاد مسيَّرة حتى تبدو من بعيد كالسراب الذي كانوا يهرولون وراءه في دنياهم، و"فتحت السماء فكانت أبواباً"، فالهلع يلاحقهم رأسياً عبر أبواب السماء، وأفقياً عبر الجبال المسيّرات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.