يأتي شهر رمضان المبارك كل عام، لنستقبله كمسلمين بأذرع على مصاريعها، نحاول بأرواح تئن من جبال الذنوب، أن ننال من نفحات الشهر العظيم، لكن تأبى صناعة الترفيه أن تتركنا في لحظة خلوة واحدة بيننا وبين أنفسنا وبين خالقنا، فتتنافس الصناعة، تنافس المفترسين على فريستهم، محاولة أن تنال كل دقيقة بل كل ثانية من يومك الرمضاني، سواء عن طريق المسلسلات أو الإعلانات أو برامج الترفيه الواقعية.
وككل عام، يفاجئنا الفنان رامز جلال ببرنامجه للمقالب، ولمن لا يعلمه منكم فهو برنامج مقالب يقدمه الفنان رامز جلال، وتعتمد فكرته على استضافة عدد من النجوم الذين يقعون في فخ مقالبه في النهاية؛ حيث يعانون أو يتصنعون المعاناة لأجل متعة المشاهدين والجماهير.
وقد حقق برنامجه نجاحاً ساحقاً، حيث أصبح برنامجه والذي استمر لمدة أحد عشر عاماً كاملة تقليداً سنوياً من تقاليد الشهر المبارك، ورغم أن البرنامج كان يمتلك في البداية القدرة الإبداعية في مقالبه التي يصنعها في النجوم والمشاهير، إلا أنه سرعان ما سقط في حفرة من التكرار والابتذال والسخرية غير المقبولة وربما التحرش اللفظي كذلك وهذا أقل ما تمت ملاحظته.
هذا العام سُميّ برنامج رامز "رامز نيفر إند" كنوع من التعبير على ديمومته المزعومة، وكأن رامز جلال يظن باستمراره هكذا أنه أصبح خالداً كأهرام الفراعنة العظام، وهو لا يدري أن بقاءه مرهون ببقاء شريحة مشاهديه، وبالتالي بقاء استثمار المعلنين في برنامجه، فإن قرر الناس فجأة التوقف عن مشاهدته في وقت الإفطار، فلن يستطيع الاستمرار، وسرعان ما سيكتنفه النسيان كما يكتنفه كل عام بمجرد وداعنا لشهر رمضان.
ومن المثير للملاحظة والتساؤل أننا إن وضعنا البرنامج في ميزان المبادئ المعلنة اجتماعية كانت أو ثقافية أو حتى إنسانية ليبرالية مجردة، سنجد قدراً لا يمكن تجاهله من التجاوزات الأخلاقية، سواء كانت تجاوزات لفظية أو جسدية، ولكن بالطبع يمتلك الليبراليون الجدد وسيلة للرد على وجود هذه التجاوزات بأنها تصبح غير موجودة حين يعطي نجم المقلب موافقته عما يحدث به، وهذا بالطبع امتداد لمبادئ الـ consent الليبرالية.
وهنا يأتي التساؤل الحقيقي، وهو إن تجاهلنا المبادئ الليبرالية التي فرضتها علينا الحداثة والإطار الرأسمالي، لماذا يستمر المشاهدون من عوام الناس في مشاهدة البرنامج ودفعه للاستمرار طوال هذه المدّة، رغم اختلاف الكثير من الناس معه واتفقاهم على رداءة ما يقدمه البرنامج؟
وسأحاول إيجاد إجابة لهذا السؤال في الفقرة التالية..
برنامج رامز: لماذا يحب الناس مشاهدة المشاهير يعانون؟
سواء اتفقنا أو اختلفنا حول حقيقة ما يحدث في البرنامج وحقيقة معاناة نجومه الذين يقعون في مقالب برنامج رامز، تبقى أمامنا كمشاهدين عاديين مشاهد مجردة لمعاناة هؤلاء المشاهير وصراخهم ورعبهم وفزعهم، فسواء كانت هذه المشاهد في برنامج رامز بالذات أو في غيره، لماذا يستمر الناس في مشاهدة المشاهير وهم يعانون؟
في إحدى مقالات مجلة VICE وصفت الطبيبة النفسية والمتخصصة Ruksheda Syeda هوس الناس بصعود وسقوط أو بمعاناة وفرح المشاهير بأنه مرتبط بالأزمنة القديمة، حيث يربط العوام أنفسهم بملوكهم وقادتهم والشخصيات المؤثرة حولهم؛ سواء كانوا رجالاً أو نساء، يربط العوام أنفسهم بهذه الشخصيات في نوع من العلاقات السامة من ذات الطرف الواحد.
والسبب في ذلك هو تعرض العوام لهذه الشخصيات المشهورة والمؤثرة بشكل يومي وبالتالي يرتبط بهم العوام عاطفياً، ويطورون نوعاً من التأثر بمشاعرهم وأفكارهم والمرتبط بما يحدث لهؤلاء النجوم.
فتجد أناساً تسيطر عليهم الفرحة حين يحقق نجمهم المفضل إنجازاً ما، وآخرون يخيم عليهم الحزن حين يصيب نجمهم المفضل مكروه ما، وآخرون يستمتعون بمعاناة بعض المشاهير والنجوم، وهذا النوع من التأثر هو بالتأكيد نوع سلبي، يعبر عن فراغ في المثل العليا لهؤلاء العوام، وكيف حين لم يجدوا أشخاصاً يمثلون مثلهم العليا، ارتبطوا مع هؤلاء المشاهير من الممثلين والنجوم وصناع الدراما، والذين قد يصطدمون معهم في كثير من الأحيان، سواء على المستوى الأخلاقي أو الاجتماعي أو المبادئ العامة.
فالمستوى الطبقي بين هؤلاء النجوم وبين عوام الناس عامل مهم أيضاً والذي يؤثر في مشاعر الناس حول هؤلاء النجوم.
برنامج رامز: لماذا هذا الهوس الطبقي برؤية المشاهير والأغنياء وسط المعاناة؟
يُطلق على هوس العوام ببرنامج رامز أو بالبرامج المشابهة بهوس استراق النظر، أو الـ voyeurism حيث يشعر الناس بنشوة غامضة تنتابهم بمجرد مراقبتهم لضحية وهي تفعل شيئاً ما أو تعاني بسبب شيء، ما بينما لا تدري أنها مراقبة، بالطبع يرتبط هذا المفهوم بالنوايا الجنسية أكثر، ولكنه مرتبط دائماً بهوس العوام بمشاهد معاناة وسقوط المشاهير.
في تصريحه لمجلة Cosmopolitan الخاصة بالنساء، قالت الطبيبة النفسية إلينا توروني بأن هذا النوع من الهوس يرجع إلى تحويل هؤلاء المشاهير أو الأغنياء إلى Idols فكأنهم أصبحوا في مكانة ملوك الفراعنة القدماء بالنسبة إلى شعوبهم، وبالتالي حين نشاهد معاناتهم من حيث لا يعلمون، نخرجهم من هالة التقديس هذه ونسقطهم إلى مستوانا على الأرض، فندرك أنهم بشر عاديون مثلنا، يبكون ويصرخون ويعانون حين يخضعون لمثل هذه المقالب أمام أعيننا.
وكذلك يمتد هذا الهوس خارج برامج المقالب وبرامج الواقع، حتى يصل إلى حياة هؤلاء المشاهير أنفسهم، فتجد أناساً يقدسونهم كأنهم آلهة وثنية نزلت من السماء، وأناساً يحتقرونهم كأنهم أسوأ البشر على الإطلاق، متجاهلين أنهم مجرد بشر عاديين في النهاية لا يختلفون عنا ولا نختلف عنهم، والفرق الوحيد بيننا وبينهم هو الخيارات التي اتخذناها في حياتنا والتي اتخذوها في حياتهم.
بالطبع، يتفاقم كل ما سبق، حين تتأزم الأحوال الاقتصادية على الجميع، فيصور العوام لأنفسهم باستخدام ما يعرف بـ"عقلية الضحية" أو "The Victim Mentality" أن هؤلاء الأغنياء والمشاهير يمتلكون نوعاً من الحصانة ضد هذه المعاناة، وبالتالي يدعم اتساع الفرق بين طبقة الأغنياء والمشاهير وطبقة العوام هذا النوع من التصورات، فيبلور عامة الناس تصوراً أكثر تطرفاً، وهو أن الأغنياء ولمشاهير أشخاص سيئون بطبيعة الحال، وبالتالي يستحقون أكبر قدر من المعاناة كي يكونوا على قدم المساواة معنا.
ما الذي نستنتجه في النهاية؟
ما نستنتجه هو أننا كعوام أو أغنياء أو مشاهير، مجرد ضحايا للهيمنة الرأسمالية والحداثة الغربية، والتي تتغذى على كل المشاعر السلبية السابقة والفروق الطبقية كي تصنع الكثير من الأموال باستخدام هذه البرامج، والتي يدعمها المشاهد العادي بمجرد استمرار مشاهدته لها.
إن صناعة الترفيه الحالية هي مجرد نموذج حديث لكولوسيوم روما القديمة، حيث يجعل نظام الدولة شعبه مهووساً بأبطاله المصارعين وصعودهم وسقوطهم وفرحهم ومعاناتهم؛ كي يصنعوا له الكثير من الأموال ويبقوا في حالة لهي عن واقعهم الذي يحتاج إلى تغيير.
إن هذه العجلة السنوية، حيث تتحرك تروس الصناعة، لتحقق أكبر مكسب من جذب انتباه جمهور العالم العربي نحو الإعلانات والبرامج والمسلسلات في الشهر الفضيل، لا تعبّر إلا عن وحش يجب علينا مواجهته بإعطاء فرصة لإنفسنا، كي ننعم ببعض العزلة والبعد عن هذه الملهيات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.