شاب في العشرينات من عمره، وحيد في أغلب الأوقات، يجد صعوبة في تكوين العلاقات لأنه لا يثق بأحد، علاقته مع جسده مضطربة، فهو يكره شعره المجعد، ويشعر بالانزعاج من وزنه الزائد؛ لذلك يضع دائماً قبعة لتغطية شعره، كما أصبح يقضي معظم وقته في نادٍ لكمال الأجسام. هو لا يحاول خوض تجارب جديدة؛ لأنه يخشى من الفشل، تقديره لنفسه منخفض وثقته بقراراته مهزوزة.
إذا ما بحثنا في طفولة هذا الشاب سنجد أنه تلقى تربية غير سوية، وأن والديه كانا يتعاملان معه -دون قصد غالباً- بطريقة لم تُعطِ لثقته مجالاً لتنمو.
علينا أن ندرك أن شخصياتنا ما هي إلا نتاج لما تعرضنا له في طفولتنا المبكرة، وكل مشاعرنا وسلوكياتنا وردود أفعالنا التي لا نعرف سببها أحياناً، هي انعكاس لما عشناه في مرحلة مبكرة من أعمارنا، وهذا الوعي هو الذي يجعلنا نسعى للتعامل بحرص وحذر مع أطفالنا، لأننا نستشعر أننا نساهم في صناعة إنسان بكل تركيباته النفسية والاجتماعية والفكرية والعقائدية، وبالتالي فنحن من نحدد جودة حياته وراحته وسلوكياته لاحقاً.
ولعل من بين الأسئلة الملحة التي تراود ذهن كل مربّ، هي كيف نعزز ثقة الطفل بنفسه، وبمحيطه؟
لا تستعجب إذا أخبرتك أن بناء طفل واثق بنفسه، وقادر على تكوين علاقات متينة مبنية على الثقة، تبدأ من يومه الأول الذي يخرج فيه إلى هذا العالم. فالأشهر الأولى للرضيع تكون بمثابة حجر الأساس لكل حياته فيما بعد، وحسب تعاملك معه ومدى استجابتك له، سيبني ثقته بنفسه وبمحيطه وسيكتسب شعور الأمان من عدمه.
الاستجابة لبكاء الطفل
يقضي الطفل تسعة أشهر في مكان ضيق ودافئ وآمن، يتعود أن يصله الماء والغذاء دون الحاجة إلى شعوره بالجوع، ثم يخرج فجأة إلى رحابة العالم المليء بالضوضاء والأشخاص والأحداث، يخرج الرضيع ليختبر مشاعر الجوع والألم والخوف لأول مرة، فمن الطبيعي أن يكون مفتقداً لليقين والثقة تجاه محيطه الجديد غير المألوف، وهو يحتاج ليستمد شعوره بالاستقرار من والديه.
يسمي محلل النفس إيريك أريكسون السنة الأولى من عمر الرضيع مرحلة "الثقة مقابل انعدام الثقة"، فعندما تستجيبين بسرعة وبحب لبكاء طفلكِ، فأنتِ تخبرينه أن لا يقلق لأنكِ ستكونين دائماً بجواره حينما يحتاجك، وهكذا يتطور لديه الشعور بالأمان، وتترسخ ثقته بمحيطه، ويصبح هذا هو الأساسَ المتين لعلاقات ناجحة طوال حياته. أما إذا حدث العكس فسيشعر أنه ليس هناك من يكترث له، وقد ينمو لديه شعور بالقلق والاضطراب، ولن يستطيع الوثوق في أحد فيما بعد.
ولا تقلقي بشأن من يقولون إنك ستفسدين طفلك بالتدليل بالاستجابة الفورية لبكائه، فالشهر التاسع تقريباً هو أبكر وقت يتعين عليك فيه التفكير في الإفساد بالتدليل، قبل ذلك، تغذية ثقة رضيعك هي أهم مئة مرة من دفعه لأن يكون مستقلاً.
الحب اللامشروط
"أنا أحبك في كل حالاتك ومهما حصل"، هذا ما يجب أن تزرعيه في قلب طفلك حتى يثق بقيمة نفسه ولا يبحث عن مصادر استحقاق خارجية، لذلك لا تطلبي منه شروطاً كي تحبيه أكثر، (أنا أحبك إذا حصلت على نقطة جيدة في الرياضيات، أنا أحبك إذا أكلت صحنك كاملاً) ما يفهمه الطفل من هذه الجمل أنه لا يستحق الحب إذا لم تتوفر تلك الشروط، وهذا ما يجعله محتاجاً دائماً إلى عوامل خارجية ليثق أنه يستحق الحب.
يحتاج الطفل إلى الشعور بالحب والقبول اللامشروط، لذلك أغدقيه بكلمات الحب وباللمس المحب، فالطفل يحتاج اللمس الحنون والمحب كحاجته للغذاء والماء. تقول الخبيرة في علم النفس فيرجينيا ساتير: "إننا جميعاً نحتاج إلى أربع ضمات في اليوم من أجل استمرار الحياة، وثمانٍ لكي نبقى هادئين، واثنتي عشرة لكي نصبح أكثر قوة"، فلا تبخلي على طفلك بالحب والأحضان كلما سنحت لك الفرصة بذلك.
احتواء وفهم مشاعر الطفل
عندما نفهم ونحتوي مشاعر أطفالنا، فنحن نكون بصدد بناء طفل واثق من نفسه، لأن إحساس الطفل بأنه شخص مفهوم، وبأن مشاعره واضحة ومقبولة ومعترف بها، وأن له القدرة على شرحها ووصفها وإيصالها، يعزز شعوره بالثقة في نفسه.
الكلام مع الطفل هو أفضل وسيلة لنعلمه كيف يعبر عن مشاعره، فمن خلال حديثنا وتسميتنا لمشاعرنا يومياً في كل موقف يواجهنا أمام الطفل نكون ندربه على فهم شعوره والبوح به، مثلاً:
– لقد خفت عليك كثيراً حينما سقطت من فوق الكرسي.
– أنا جائعة هيّا لنأكل.
– عندما تبكي أشعر بالتوتر.
– لقد تعبت اليوم من التنظيف…
وهكذا مع باقي المواقف البسيطة في حياتنا، سيكتسب طفلنا المفردات وسيبدأ في توظيفها في حديثه بطريقة عفوية وتلقائية.
احرص كذلك على أن لا تلجأ إلى العنف مهما حصل، فالتعرض للضرب أو الصراخ يجعل تعلق الطفل بوالديه تعلقاً "غير آمن"؛ لأنه غير مبنيّ على تقبل كامل، مما يفقده أمانه الداخلي وقد يخلق لديه كبتاً عميقاً في الشعور، وتبلداً في المشاعر نتيجة كبتها المستمر، وبالتالي عدم القدرة على معرفة وفهم ما يشعر به، وهذا ما يفقده ثقته بنفسه.
الإطراء والتركيز على الإيجابيات وتجنب المقارنة
ينبغي عليك -كمربّ- أن تمثل مصدر التقبل الأول لطفلك في حياته، فهو يتعرف على نفسه من خلالك، فإذا أخبرته أنه جميل ومقبول وذكي، سيكبر وهو واثق من أنه كذلك. أما إذا انتقدته وانتقصت من قيمته فستتشوه نظرته لنفسه ويفقد الثقة والإحساس بالقيمة.
امدحي طفلك بكل تفاصيله، قدمي له الدعم والتشجيع الكافيين عندما يتعلم مهارة جديدة، وإذا أخطأ لا تصفيه بأي صفة سيئة، بل صفي سلوكه؛ فبدل أن تقولي: أنت مزعج، أخبريه أن "هذا التصرف مزعج"، وبدل أن تقولي: أنت سيئ، أخبريه أن "ما قام به سيئ". وهكذا تكونين بصدد تكوين صورة إيجابية للطفل عن نفسه، وتعزيز ثقته الداخلية بذاته وبقدراته، والتي سيحتاجها عندما يقوم بخطأ ما، أو عندما يتعرض للتنمر خارجاً. واحذري من مقارنته مع شخص آخر، معتقدة أنك بذلك تشجعينه على التنافس، فهو سيحس بالنقص وسيفقد ثقته بنفسه. يصف الأخصائي النفسي يوسف الحسني المقارنة بأنها "جريمة في حق الطفل"، ويضيف أن "كل طفل مميز بذاته، ويجب تشجيع تفرده الخاص"، وأن "الإنسان يفقد جاذبيته ما أن يفقد تفرده".
تجنب الحماية المفرطة
الخوف المبالغ فيه على طفلك سيحرمه الكثيرَ من التجارب في حياته، فتوفير الحماية الدائمة ومساعدته على القيام بمعظم أموره وفي اتخاذ قراراته سيجعل عقله غير متمرس على مواجهة المخاوف الخارجية، وسينتج عنه شخصية "تجنبية" غير قادرة على اتخاذ القرارات، وغير واثقة أنها تستطيع خوض تجربة ما جديدة.
لذلك فمن المهم تشجيع الطفل على اقتحام التجارب الذاتية واتخاذ القرارات -مع الإشراف بشكل جانبي للتأكد من عدم وجود خطر عليه- ثم محاورته فيما بعد عن المواقف وتقبل رؤيته وتشجيعه ودعمه، ثم محاولة اغتنام الأخطاء لتقويم السلوك والتوجيه الصحيح دون فرض أو ضغط، مما يدعم ثقته بنفسه وبقدرته على تحمّل مسؤولية أفعاله وقراراته.
إن ملء خزان ثقة الطفل الداخلية بنفسه في البيت يجعله صامداً لا يهتز بسهولة أمام المواقف في الخارج، لذلك كوني حريصة على بناء هذه الثقة والحفاظ عليها بحبك ودعمك وتشجيعك وإيمانك الدائم بقدراته. وتذكري دائماً أنكِ مصدر الأمان الأول لطفلك، فلا تخذليه!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.