في ظل الانشغال الأمريكي بحشد الموارد العسكرية نحو منطقة المحيط الهندي- الهادئ، ومجابهة الغزو الروسي لأوكرانيا، شرع البنتاغون مؤخراً في إرسال طائرات أيه-10 القديمة إلى الشرق الأوسط، وسحب طائرات أخرى حديثة منه لنقلها إلى آسيا وأوروبا، وتزامن ذلك مع حدوث قصف متبادل في سوريا بين مجموعات مسلحة موالية لإيران والجيش الأمريكي، وذلك بعد فترة وجيزة من زيارة الجنرال مارك ميلي، قائد هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، لقواته المنتشرة في سوريا. وقد أعادت تلك التطورات إلى الواجهة القيادة المركزية الأمريكية "سنتيكوم"، التي يتولى قائدها السابق لويد أوستن منصب وزير الدفاع، وتُشرف على التواجد العسكري الأمريكي في نطاق جغرافي يمتد من مصر في شمال إفريقيا، إلى كازاخستان في آسيا الوسطى، بإجمالي 21 دولة.
دوافع النشأة
تأسست القيادة المركزية الأمريكية في عام 1983، على وقع الغزو الروسي لأفغانستان، واندلاع الثورة الإيرانية في نهاية السبعينيات، ثم اندلاع حرب العراق وإيران عام 1980، ما أثار المخاوف الأمريكية حول أمن إمدادات النفط. وقد غطّت منطقة عملياتها آنذاك الشرق الأوسط، باستثناء (لبنان وسوريا وإسرائيل وفلسطين المحتلة)، التي ظلت تابعة للقيادة الأمريكية الأوروبية، التي تأسست عام 1952، وبعد غزو العراق ضم بوش الابن سوريا ولبنان للقيادة المركزية في عام 2004، ثم ألحق ترامب إسرائيل بها في يناير 2021، قبل مغادرته منصبه بساعات، وذلك عقب رعايته لاتفاقية "أبراهام" للسلام بين أبوظبي والمنامة وتل أبيب. وبذلك أصبحت القيادة المركزية تشرف على مساحة تبلغ 4.6 مليون ميل مربع، وتحتوي على خطوط التجارة الرئيسية البرية والبحرية بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، وتضم نصف احتياطيات النفط، كما تشمل ثلاثاً من أبرز خمس نقاط اختناق في خطوط الملاحة البحرية العالمية، وبالتحديد في قناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق هرمز.
يقع المقر الرئيسي للقيادة المركزية في قاعدة ماكديل الجوية، في تامبا بولاية فلوريدا، ولا توجد وحدات عسكرية مخصصة لها بشكل دائم، إنما تتشكل القوات العاملة تحت إشرافها من فروع القوات المسلحة الأمريكية وفقاً للمهام العسكرية المطلوبة، فعلى سبيل المثال وقت غزو العراق عام 2003، انتقلت وحدات عسكرية أمريكية من أوروبا والولايات المتحدة لتعمل تحت إشراف القيادة المركزية، ومع انتهاء المهام القتالية غادرت تلك القوات مسرح العمليات لتنتشر في مناطق أخرى.
مهام القيادة المركزية
تختص القيادة المركزية بقيادة العمليات والأنشطة العسكرية الأمريكية في النطاق الجغرافي لمنطقة عملياتها، التي تشمل عدة ساحات ملتهبة، مثل العراق وسوريا واليمن وأفغانستان، كما تقود عملية "العزم الصلب" الخاصة باستهداف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وكذلك تعمل القيادة المركزية على ضمان أمن إسرائيل، فضلاً عن دورها في الحد من النفوذ الصيني والروسي، عبر تعزيز عمليات التدريب المشتركة مع جيوش الدول الواقعة ضمن إشرافها، وتشجيع تلك الدول على شراء الأسلحة الأمريكية، وذلك في مواجهة تزايُد نفوذ موسكو، الذي يتجلى في ارتفاع مبيعات السلاح الروسية لدول المنطقة، والوجود العسكري الروسي في سوريا، الذي يكفل لموسكو انطلاقاً من قاعدتها البحرية في طرطوس نشر 11 سفينة حربية، تعمل بالطاقة النووية في البحر المتوسط، دون الحاجة للعودة إلى قواعدها البحرية في البحر الأسود.
مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في عام 2021، وانتهاء المهام القتالية في العراق عام 2011، وتحول أدوار القوات الأمريكية به إلى مهام التدريب والتأهيل والدعم الاستخباري، وتراجع أنشطة تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، شغلت إيران صدارة التهديدات بالمنطقة، في منظور القيادة المركزية، وذلك نظراً لمضي طهران في برنامجها النووي، وتصنيعها أعداداً كبيرة من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، ونشرها تلك الأسلحة لدى عدد من الجماعات الحليفة لها في لبنان واليمن والعراق، فضلاً عن استهداف المجموعات التابعة لها القوات الأمريكية في سوريا والعراق بهجمات متكررة، أسفرت عن مقتل وإصابة عدد محدود من المتعاقدين والجنود الأمريكيين، وهو ما دفع واشنطن للرد عدة مرات، وفي إحداها اغتالت قاسم سليماني قائد فيلق القدس خلال زيارته إلى بغداد مطلع عام 2020.
كذلك استهدفت طهران عدة مرات سفن شحن غربية وإسرائيلية في الخليج، رداً على العقوبات الأمريكية المشددة ضدها، والغارات الإسرائيلية على أهداف إيرانية، بينما في المقابل تشرف القيادة المركزية على مهمتين بحريتين تستهدفان بالدرجة الأولى عمليات تهريب السلاح والنفط الإيراني، حيث تشمل المهمة الأولى "القوة البحرية المشتركة (CMF)"، التي تضم 34 دولة، وتعمل في المنطقة الممتدة من قناة السويس إلى الخليج العربي، فيما تشمل المهمة الثانية "التحالف الدولي للأمن البحري (IMSC)"، وهو تحالف من 8 دول أعضاء يركز على تأمين خطوط الملاحة البحرية في مضيق هرمز وباب المندب، ولا يكاد يمر شهر دون الإعلان عن ضبط ومصادرة سفن تحمل أسلحة إيرانية خلال توجهها إلى اليمن.
ويوجد نحو 900 جندي أمريكي في سوريا، أغلبهم رفقة الميليشيات الكردية، فيما ينتشر نحو 100 جندي منهم في قاعدة التنف، قرب مثلث الحدود العراقيّة الأردنيّة السوريّة، والتي يقول بومبيو، مدير الاستخبارات ووزير الخارجية السابق، إن التواجد الأمريكي بها يهدف إلى دعم الجهود الإسرائيلية لإبعاد الإيرانيين عن حدود فلسطين المحتلة. وبجوار تلك القوات ينتشر 6770 متعاقداً عسكرياً مع البنتاغون، موزعين بين سوريا والعراق، وهو ما يضع القيادة المركزية في قلب إدارة التحديات المتنوعة، التي تستهدف المصالح الأمريكية في سوريا والعراق، بداية من الروس والإيرانيين، وصولاً إلى تنظيم الدولة.
التكيف مع إعادة تخصيص الموارد
واجهت القيادة المركزية تخفيضاً في الموارد والتسليح، بعد أن ظلت لعقد ونصف العقد في صدارة الاهتمام الأمريكي، وبالأخص وقت إشرافها خلال حقبة "الحرب على الإرهاب" على العمليات العسكرية العراق وأفغانستان، بمشاركة أكثر من 300 ألف جندي أمريكي، بينما اليوم تشرف على عدد يتراوح بين 40 إلى 60 ألف جندي فقط، ينتشرون بمنطقة عملياتها. وللتكيف مع تلك المستجدات تركز القيادة المركزية على تعزيز الشراكات الإقليمية مع القوات الحليفة، من خلال التشجيع على بناء نظام دفاع صاروخي إقليمي، تلعب فيه إسرائيل دوراً محورياً، ولذا تم نقل تبعية تل أبيب في عام 2021 لإشراف القيادة المركزية، وبدأ تنظيم تدريبات مشاركة مكثفة بين الجانبين، بلغ عددها ثلاثة تدريبات منذ بدء العام الجاري، وشارك في إحداها تحت عنوان "جونيبر أوك" 142 طائرة من الطرفين، فوق أجواء فلسطين المحتلة، وقيل إن التدريب يستهدف محاكاة هجوم على المنشآت النووية الإيرانية. كما تم تنظيم تدريبات بحرية مشتركة ضمت قوات عربية وإسرائيلية برعاية أمريكية.
ولتعويض نقص الموارد، بدأ الاعتماد مؤخراً على أسلحة تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي رخيصة التكلفة، ففي سبتمبر 2021، دشنت البحرية الأمريكية انطلاقاً من مقر الأسطول الخامس في البحرين، وميناء العقبة في الأردن، فرقة العمل البحرية 59، والتي تتكون من قوارب غير مأهولة، يمكنها الشروع بشكل متواصل في عمليات المراقبة والتصوير، ونقل البيانات بشكل آني لمدة 365 يوماً، دون الحاجة إلى عمليات صيانة ضمن مساحة تمتد من السويس إلى شمال الخليج، وذلك بالاعتماد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
قارب مسير أمريكي
تخطط واشنطن لنشر ما يصل إلى 100 قطعة بحرية من القوارب غير المأهولة، بحيث تقدم البحرية الأمريكية 20 قطعة منها، بينما ستشتري دول أخرى مثل الكويت والبحرين الثمانين قطعة المتبقية من الولايات المتحدة، للمساهمة بها في فرقة العمل المذكورة، وهو ما يخفف من العبء المالي عن الميزانية الأمريكية.
تراجع نسبي
رغم الانشغال الأمريكي بالتنافس مع القوى الكبرى، وبالأخص في شرق آسيا، فإن منطقة الشرق الأوسط ستظل محط اهتمام، لارتباطها بوجود إسرائيل، التي تلتزم واشنطن بضمان تفوقها النوعي العسكري، ولتحكمها في خطوط المواصلات البحرية، فضلاً عن الاعتماد العالمي حتى الآن على إمدادات الطاقة من الوقود الأحفوري، فبكين تستورد 46% من واردات نفطها الخام، و36% من وارادت غازها الطبيعي من المنطقة، ما يزيد من أهميتها في حال حدوث صراع عسكري مع الصين، حيث يمكن قطع إمدادات الطاقة عنها من المنابع. وبالتالي فإن أهمية القيادة المركزية الأمريكية قد تتراجع بشكل مؤقت، لكنها ستظل تلعب دوراً محورياً في تأمين النفوذ الأمريكي عالمياً، ويمكن أن تعود إلى بؤرة الأحداث في حال تعرض المصالح الأمريكية بالمنطقة للخطر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.