نلاحظ أن بريطانيا كلما اتجهت أوروبا نحو مربع السلام والتفاوض والمحاورة تخرج بريطانيا من السرب وتعيد أوروبا إلى المربع الساخن والأحمر.
منذ بدء العمليات العسكرية الروسية على أوكرانيا في شهر فبراير عام 2022، واصطفاف الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مع الدولة الأوكرانية، ودعم أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية للجيش الأوكراني بكل الإمكانات الحربية لمواجهة الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية، اعتقد الروس أن غزو الأراضي الشرقية لأوكرانيا من دونباس، وخيرسون، وزبوريجيا، وخراكيف، ومريوبول إلى بخموت مؤخراً، أنها قضية وقت، ولكن حقيقة العمليات العسكرية تحولت مع الوقت والظروف إلى حرب حقيقية طويلة المدى.
إن إطالة أمد الحرب جعل الجيش الروسي يغير عدة مرات استراتيجية الحرب والعمليات العسكرية، ويستدعى لها قوات عسكرية إضافية بمئات الآلاف، ويعيد النظر في كثير من الخطط العسكرية، ويقحم مليشيات فاغنر العسكرية، ويستخدم ترسانة متطورة من أسلحته بعضها غير معروف لدى الغرب، وقد أدرك الروس تمام الإدراك أنهم يواجهون حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية بواجهة أوكرانية.
قد مرت سنة على بداية العمليات العسكرية، وصارت حرباً بعد ذلك، وحسب معطيات الميدان والقتال وما لحقها من ظروف، فالحرب هناك تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، حيث أخذت المواجهات العسكرية منحى الاستنزاف لدى الروس، وكذلك لدى الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية.
تجدر الإشارة إلى أن الدول الأوروبية هي الأكثر تضرراً من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً واجتماعياً، وكلما دخلت أوروبا في مربع التفاوض، والبحث عن نهاية للحرب، تحركت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البريطانية في اتجاه التصعيد وتعقيد تداعيات الحرب.
الكل يعرف أن بريطانيا بقيادة جيشها واستخباراتها تتحرك ميدانياً في أوكرانيا، وتدفع القيادة السياسية الأوكرانية إلى التشدد، والتطرف السياسي، ووضع شروط شبه مستحيلة، والتصلب في المواقف أمام كل مبادرات التسوية وإنهاء الحرب، منها المبادرة الصينية، حتى صارت القيادة العسكرية الأوكرانية لا تملك في الواقع القدرة والمبادرة في الميدان، فهي رهينة القيادة العسكرية البريطانية بإشراف أمريكي.
قد توجهت روسيا بالتهديد لبريطانيا لعلم القيادة الروسية بالأدوار الاستخباراتية والعسكرية البريطانية في أوكرانيا، حيث سبق أن صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى استقباله للزعيم الصيني "شي جين بينغ"، بأن الغرب يريد مقاتلة روسيا والقضاء عليها بآخر جندي أوكراني على حد تعبيره، وأن الغرب يريد "حرب استنزاف"، وطبيعة هذه الحروب هي تقويض أي مبادرة للسلام أو التفاوض أو الحلول الدبلوماسية والسياسية.
في الفترة الأخيرة تزامنت الأحداث، وسياقها يؤكد على الاستنزاف واستمرار الحرب رغم أن الجيش الأوكراني افتقد مع الحرب مواصفات الجيش النظامي بالكامل، فصار مجموعة فيالق متناثرة وعصابات تدافع وترد الهجوم الروسي، فهو لا يملك التغطية الجوية ولا تكفيه المنظومات العسكرية الدفاعية "الصواريخ"، ويطالب بالمدرعات من الغرب، ونفدت عنه الذخائر.
لكنه يملك وعوداً من الغرب مثل وعد المدرعات إبراهام الأمريكية وليوبارد الألمانية و"تشالنجير 2″ البريطانية، وهناك الآلاف من الجنود الأوكرانيين يتدربون في جنوب بريطانيا، ومنهم من يتدرب على الطيران، وقد طالب الناطق باسم وزارة الدفاع الأوكرانية بـ180 طائرة مقاتلة بقيمة 29 مليار دولار للتغطية الجوية، لكن الدول الغربية تماطل في تسليم تلك الأسلحة للجيش الأوكراني.
كل هذه الحاجات والمطالب العسكرية تدل أن الجيش الأوكراني يحتضر، والغرب هو من يقود الحرب وينفخ فيها ويقاتل الروس بالجنود الأوكرانيين.
قد أدركت الدول الأوروبية أن الحرب الروسية الأوكرانية قاتلة ومدمرة لهم، لهذا يجب أن تنتهي، ورأت في المبادرة الصينية فرصة سانحة وفاعلة في اتجاه تهدئة ضراوة الحرب، حتى روسيا أبدت استعداداً للمبادرة الصينية ورحبت بها، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تحركت وحركت حلفاءها الاستراتيجيين في أوروبا لرفض المبادرة الصينية والتشكيك فيها، ومنها ما صدر عن المحكمة الدولية من إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي "بوتين" كمجرم حرب.
في الوقت نفسه أعلنت وزيرة الدولة للدفاع البريطاني "أنابيل جولدي" أن بعض قذائف مدرعات تشالنجير 2 التي سترسلها بريطانيا إلى أوكرانيا تحتوي على قذائف خارقة للدروع تحتوي على اليورانيوم المستنفد، ويعتبر هذا تصعيداً خطيراً في الحرب، وجاء التصريح لإفساد المبادرة الصينية للمصالحة.
إن هذا التصريح أشعل الأوضاع من جديد، خاصة مع تزامن زيارة الزعيم الصيني "شي جين بينغ" لروسيا ولقائه مع الرئيس فلاديمير بوتين، ما اضطر الرئيس الروسي بوتين فلاديمير ليرد بقوة، وهو يناقش المبادرة الصينية للتسوية مع صاحب المبادرة الصينية فقال: "إذا حدث هذا فسيتعين على روسيا الرد وفقاً لذلك، مع الأخذ في الاعتبار أن الغرب بدأ جماعياً بالفعل استخدام أسلحة بها مكون نووي".
قد صرح وزير الدفاع الروسي "شويغو" "أن القرار البريطاني قلص الخطوات التي تسبق حدوث صدام نووي بين روسيا والغرب".
نلاحظ أن بريطانيا كلما اتجهت أوروبا نحو مربع السلام والتفاوض والمحاورة تخرج بريطانيا من السرب وتعيد أوروبا إلى المربع الساخن والأحمر.
حينما سئل وزير الدفاع الروسي كيف ترد روسيا في حالة ما تسلح الجيش الأوكراني بهذا النوع من القذائف البريطانية ذات المكون النووي، على حد تعبير بوتين، قال: "من الطبيعي أن يكون لدى روسيا ما ترد به على هذا السلاح"، وهذا يعنى أن روسيا تدخل في مواجهة شبه نووية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من خلال حربها في أوكرانيا.
قد انتقلت روسيا فعلياً إلى التصعيد النووي، حيث تفيد الأخبار شبه الرسمية أن روسيا نقلت 10 طائرات محملة برؤوس نووية على متن صواريخ إسكندر إلى جمهورية بيلاروسيا، في مواجهة تموضع القوات الأمريكية ببولونيا حيث تتمركز القوات الأمريكية في بولندا.
قال أحد جنرالات القوات الروسية مشككاً في قدرة القوات الأوكرانية على استعمال قذائف اليورانيوم المستنفد، أنه في حال الرد الروسي باليورانيوم المستنفد ستكون أرض أوكرانيا خارج المنطقة الزراعية في المعيار الفلاحي الدولي، لأن استعمال هذه القذائف يعود بالضرر على أوكرانيا أولاً.
مع هذا زادت بريطانيا في الاستهتار بالرئيس الروسي وقواته العسكرية، وهي تتحرك وفق نوستالجيا الحروب مع الإمبراطورية الروسية، بريطانيا حالياً تعمل على تعقيد الوضع الأوروبي في مواجهته لروسيا، وهذا يساعد أمريكا من جهة أخرى في تعقيد مهمة الصين في أوكرانيا وأزمتها مع جزيرة تايوان في الباسفيك، وبريطانيا الحليف الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة الأمريكية في الباسفيك وأزمة تايوان مع الصين.
بريطانيا لن تغرد مع أوروبا، وإن كانت تنتمي إلى أوروبا جغرافياً، وهي في حل من الاتحاد الأوروبي منذ فترة، بل تغرد أمريكياً بحكم أنها حليف استراتيجي للولايات المتحدة وشريك في سياساتها في المنطقة، وهي أكثر الدول الأوروبية انزلاقاً في الحرب الروسية الأوكرانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.