تلعب الانتخابات الوطنيّة في الدول الديمقراطيّة دوراً مهماً في تحول السياسات العامة للدولة داخلياً وخارجياً، انطلاقاً من ثقة الناخبين في البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية، حيث تحمل هذه البرامج تيارات سياسية وساسة إلى سدة السلطة عبر صناديق الانتخابات التي تعكس المزاج العام للمواطنين بمنح الثقة أو عدمها، وهو ما يؤثر على طريقة التعاطي المستقبلية مع قضايا هذه الدول على مختلف الأصعدة، ومنها السياسة الخارجيّة للدولة.
في المشهد السياسيّ التركي يقترب موعد استحقاقين مهمين يتمثلان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهما محطُّ اهتمام على الصعيد المحليّ والدولي، حيث يتنافس في الانتخابات القادمة "تحالف الشعب" الذي يقوده الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، وأحزاب المعارضة السياسيّة ممثلة في "الطاولة السداسية" بزعامة كليجدار أوغلو.
ويتبنى كلا الفريقين سياسةً مختلفة تجاه العديد من القضايا الداخلية والدولية، ما يكسب هذا السباق أهمية بالغة لدى الأطراف الدولية وعلى رأسها روسيا التي تربطها بأنقرة ملفات عديدة على الساحة الدولية، ما يعكس أهمية ما تفرزه صناديق الاقتراع على المصالح الروسية في ملفات عديدة قياساً بالحجم الجيوسياسي للجمهورية التركية والرؤية السياسية لصانع القرار فيها.
الملف الأوكراني
الملف الأوكراني يمثّل اليوم التحدّي الأكبر للسياسة الخارجية الروسية، ويلعب الرئيس أردوغان تجاه هذا الملف دوراً هو أقرب للحياد على الرغم من تزويده لأوكرانيا بمركبات ومسيرات قتالية، إلا أنه يكسب ثقة الطرف الروسي لعدم انخراطه بشكل أوسع في الصراع كما تتمنى الدول الغربية وحلفاؤه الآخرون في الناتو، وهو ما مكّنه من لعب دور مهم في اتفاق الحبوب وعمليات تبادل الأسرى بين الجانبين الروسي والأوكراني.
إلا أن السياسة الحالية لتركيا مرتبطة بما تتمخض عنه الانتخابات الرئاسية القادمة، وعلى الرغم من عدم وضوح موقف المعارضة التركية من الغزو الروسي لأوكرانيا إلا أن بوتين يفضل التعامل مع أردوغان في هذا السياق بسبب علاقته الوطيدة به واتباعه سياسة أكثر استقلالية عن المجموعة الغربية، وتحديداً في مواجهته مع دول الناتو التي يعرقل أردوغان حتى اللحظة انضمام السويد إلى الحلف، في حين تعمل فنلندا على إجراءات التفاوض مع الجانب التركي لتحقيق مطالب السماح بالانضمام.
يدرك الكرملين أن وجود المعارضة التركية ذات الميول الغربية في سدة السلطة سيؤدي لانتهاجها سياسة أكثر قرباً ومرونة في طريقة التعاطي مع التوجه الغربي إزاء الملف الأوكراني، وهو ما يشكل ضربة يحسب لها في موازين الصراع مع الناتو، حيث ستتسع جبهة الناتو المضطربة أمام روسيا من البحر الأسود جنوباً حتى بولندا في القارة الأوروبية.
من سوريا وليبيا إلى الإرث السوفييتي
من جهة أخرى في كل من سوريا وليبيا تقف كل من تركيا وروسيا على طرفي نقيض، إلا أن مصالح الجانبين في كلا البلدين العربيين تحت سقف التفاهم والتنسيق بين الرئيسين أردوغان وبوتين، وترتبط بهذه الملفات تفاهمات اقتصادية وسياسية عديدة تتعلق بمسألة الحل السياسي في سوريا والتطبيع مع النظام السوري وقضية اللاجئين في تركيا والمسار السياسي الليبي والتفاهمات الاقتصادية ورعاية مصالح الطرفين في البلد الغني، وهي أيضاً محكومة برؤية مختلفة من جانب المعارضة التركية بغض النظر عن مدى توافقها مع المصلحة الروسية، إلا أن ما تحمله المعارضة التركية بخصوص ذلك هو سياسة مختلفة جذرياً عما رسخه الرئيسان على مدار سنوات.
كما تولي السياسة الروسية في سياق علاقتها مع تركيا اهتماماً خاصاً للدور التركي في دول الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا الوسطى ذات الغالبية العرقية التركية، وكذلك دول البلقان، حيث ترتبط تركيا تاريخياً وثقافياً بروابط قوية مع دول هذه المنطقة، ولاسيما في أذربيجان، وهي دول تتعامل روسيا معها بحساسية سياسية من منطلق الإرث السوفييتي، وعلى مدار عقدين تحت قيادة حزب العدالة والتنمية تطورت السياسة التركية لمستويات متقدمة في علاقتها مع دول المنطقتين.
كسر التفرد الغربي
وإذا كانت العين الروسية على النشاط التركي في هذه المناطق واضحة الدوافع ومنضبطة كما غيرها من الملفات بعيداً عن صبغة المصالح الغربية، فإن ضمان استمرارها بهذا الشكل مرتبط أيضاً بضمان استمرار "تحالف الشعب" بقيادة الرئيس أردوغان في الرئاسة؛ لأن أحزاب المعارضة التركية المنافسة تحمل في أجندتها أيضاً سياسة مختلفة في طريقة التعاطي مع دول هذه المنطقة من منطلق رؤيتها.
كما يهتم بوتين اليوم على الصعيد العالمي بكسر التفرد الغربي في التحكم بالمنظومة العالمية، ويشترك مع الرئيس التركي في هذا المضمار الذي يكرسه أردوغان بأن العالم أكبر من خمسة، ويتبع ذلك جملة من المسائل الحساسة بالنسبة لروسيا تتعلق بالعقوبات الغربية ومدى تطبيقها، ورسم السياسة الخارجية المستقلة لبلد بحجم تركيا، وهي خطوة محط اهتمام الجميع لأنها ستخضع لرؤية جديدة بمعزل عمن تصدره صناديق الانتخابات لتولي السلطة.
قراءة المصالح الروسية تكشف عن مكاسب محققة على المدى المنظور في أقل تقدير من استمرار الرئيس التركي وتحالفه في السلطة، إلا أن ذلك لا يعني فقدانها الكثير في حال تصدر المشهد الأحزاب المعارضة؛ لأن السياسة الخارجية الروسية تمسك بملفات مهمة تشكل عامل ضغط كبيراً في تحقيق مصالحها مع أي طرف، بداية من المصالح الاقتصادية التركية مع روسيا وليس نهاية بإغراءات التعاون في قطاع الطاقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.