ما من أحد توقع أن تصبح حسناء حسينات، الشهيرة باسم حسنة البشّارية في يوم من الأيام شيخة أو معلمة في موسيقى الديوان أو الڤناوي، ذلك الفن الإفريقي التليد الذي توارثه نسل العبيد المستقدمين من قبل الطوارق من مملكة السودان القديمة، من جيل إلى جيل، لينشروه في بعض دول الساحل الإفريقي والمغرب والجزائر وتونس، ثم تطور مع اعتناقهم الإسلام بمضامين دينية وصوفية تحت مسمى البلاليين، نسبة إلى الصحابي بلال بن رباح الحبشي أول مؤذن في الإسلام، غير أنهم لم يتخلوا عن بعض الطقوس الاحتفالية والفنية في العزف والرقص الروحي، كما لو أنهم لا يريدون نسيان مأساة الرق التي مروا بها، فكل الأنغام والطقطقات والرنين الصادرة من آلات "القرقابو" أو "الصنجات" و"الهاونات" تذكرهم بصوت القيود والسلاسل التي كبلتهم زمن الاستعباد الأكبر.
لسنوات طويلة ستخزن تلك الطفلة في ذاكرتها الغضة صور وألحان وروائح البخور والجاوي، المرتبطة بذلك العالم السحري الغامض، وتراقب والدها سالم "مقدم" محلّة الڤناوة، وهو يعزف في حلقة من الراقصين المأخوذين بتلك الرنات المغناطيسية. يبدأ الطقس الفني والروحي بمتونه المتعلقة بذكر الله ومدح الرسول والصحابة والأولياء الصالحين من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر، طلباً للعلاج من أمراضهم النفسية والعصبية، عبر ما يسمى " الجذب" وهي أعلى مراتب الوجد الروحي. يتكرر المشهد بأكثر قوة في الطقس الأكبر المسمى "الوركيف" المنعقد كل موسم، حيث تجمع الأموال عبر الطواف على المتصدقين والمتصدقات من بشار والمدن المجاورة، ليختتم في الليلة الكبرى بذبح عجل ووليمة كبرى تنتهي بحفل مستمر حتى الصباح.
في تلك السنوات سُحرت الفتاة بآلة الڤومبري، لكنها اصطدمت بمحرمات كانت حظرت ذلك الفن على النساء، ثم لاحقاً ستتجاوز العنيدة كل الممنوعات الأبوية والأسرية والاجتماعية، لتطوف بهذا الفن مسارح الجزائر وعواصم العالم الكبرى، وتخلد اسمها في سجل الكبيرات، تماماً مثل الفنانة الكابفردية سيزاريا إيفورا والفرنسية شايلا شانسال.
1/ حسنة البشارية: صنعت آلتها الموسيقية من مكنسة وعمرها 15 سنة
وُلدت حسنا عام 1950 بمدينة بشار الواقعة على بُعد 1172 كلم جنوبي غرب الجزائر، والدها من أصول مغربية تعود به إلى مدينة أرفود، التابعة لمنطقة ذراع تافيلالت جنوب شرق المغرب، قبل أن ينزح لمنطقة الساورة طلباً للرزق والعيش، أما والدتها مباركة فجزائرية أصيلة، من مدينة القنادسة المعروفة بزاويتها الصوفية الشهيرة.
امتهن أبوها فن الديوان والعزف على آلة الڤومبري، وهي آلة وترية، تصنع من جذع شجرة محفور يكون مستطيل الشكل في الغالب، مكسو بجلد رقبة الإبل، ومن عمود ذي 3 أوتار، تُصنع من أمعاء الماعز المليّنة والمبلّلة في الزيت. ولتفوقه في هذا الفن ذي الطابع الروحي والصوفي أضحى بستانه محلة يقصدها المريدون والسامرون، فصار شيخاً برتبة مقدم. في عمر مبكر ستجد حسنة، وهي تسترق السمع للألحان ميلاً روحياً للڤومبري، فتقول" أدركت منذ نعومة أظافري أن صوت تلك الآلة العجيبة ينادي روحي وجوارحي بعدما استوطنت ألحانها شغاف القلب، لذا قررت أن أتعلم العزف مهما يكن الثمن".
ولتستكشف سر تلك الآلة طلبت من قريبها محمد بيراما أن يسرق لها آلة والدها خلسة، فعزفت نوتات، ثم أرجعتها له في دقائق، كانت كافية لفك سر النوتات الثلاث، بلا ريب ساعدتها جلسات الإنصات الشغوف من فوق السطح من تفكيك سر العزف بسهولة دلت على موهبتها الفطرية، ثم قررت أن تصنع، وعمرها لا يتعدى 15 عاماً آلتها بنفسها. جمعت ألواح الخشب الرقائقي "كونتر بلاكي" وعمود مكنسة، وفككت أسلاكاً معدنية من عجلة دراجة هوائية لتستعملها أوتاراً، لكن قريبها محمد الذي نبهها إلى استحالة الحصول على رنات من خيوط معدنية، تولى بنفسه أن يهيئ لها أوتاراً من أمعاء الماعز، لتبدأ خطواتها الأولى في العزف. دأبت على ممارسة هوايتها بشكل أكثر جدية وأكثر سرعة، على الرغم من أن والدتها مباركة التي امتهنت رتبة "شاوشة" في محلة زوجها كانت تنهرها بشدة:
"لو يعلم والدك ما تقومين به لانتزع جلدك من العظم"، وقيل إنه ضربها فعلاً لما علم أنها كانت ترغب في العزف مهدداً إياها: "إن هذا الفن شأن رجالي مقدس لا يحق للمرأة أن تدنسه"، ولكي يقطع عنها الطريق النهائي كان ينذرها "عليك الاهتمام بشؤون المطبخ لإعداد الكسكس والمسمن والملوخية، بدل التفكير في هذه الصنعة"، قبل أن يقرر أخيراً تزويجها بابن عمتها، فأنجبت منه ولداً وبنتاً، لكنها ما توقفت عن حلمها الخاص أبداً.
2/ حسنة البشارية: أول امرأة إفريقية تعزف على القيثارة الكهربائية
بالتوازي مع ذلك، كانت الظروف العائلية القاهرة تدفع بحسنة إلى أن تشتعل في طفولتها منظفة بيوت لدى المعمرين، ثم الجزائريين، خاصة بعد زواج والدها من امرأة ثانية. تدهورت الحالة الصحية لوالدتها بعدما أصبحت قعيدة البيت تعاني من السكري، ثم العمى، تعترف بخصوص تلك الفترة القاسية "اشتغلت خادمة كي أشتري الدواء لأمي ولأعيل إخوتي وقريباتي".
وحسنة العصامية، التي كانت تهوى سماع الموسيقى، ستقوم رفقة زميلاتها عزة وفاطمة وزليخة بإنشاء فرقة نسائية امتهنت الغناء في الأعراس وولائم الحج، فبدأت تشتهر محلياً رغم المضايقات الاجتماعية والثقافية داخل مجتمع ذكوري تقليدي، فتعرضت بعض حفلاتها للتشويش والرشق بالحجارة التي طالت خيمة العروض، وأمام تعاظم شهرتها محلياً في أعراس مدينة بشار وفي المناطق الصحراوية المجاورة، أقبلت على هذه الحرفة بعدما نصحها جارها الإسباني غوميز باقتناء قيثارة كهربائية ومضخم صوت من مدينة وهران، ومكنها تطوير نفسها من اكتساح الأعراس حتى قيل "إن العرس الذي لا تعزف فيه حسنة ليس عرساً"، أما هي فلم تكن تفكر في الشهرة و المجد، بل في هم يومي وأساسي هو تدبير الأموال لمداواة والدتها وإعالة أفراد أسرتها، خاصة بعدما قررت التضحية بحياتها الزوجية بالطلاق من زوجها، لتتحول لسيدة الدار أو "الرجل الأوحد" لتلك العائلة. تلخص بطريقتها تلك المرحلة قائلة "تعلمت القيثارة من قريبي محمد، الذي كنت أدفع له ثمن كراء آلته من نقود أسرقها من جعبة والدي، غنيت في الأعراس بهدف جمع المال لمعالجة أمي، كنت أقسم مداخيلي على اثنين، أخصص نصفها للفقراء والمرضى والمسنين وأنفق الجزء المتبقي على عائلتي وأمي المريضة، أما عزفي على آلة القيثارة الكهربائية فكان حدثاً بارزاً".
لم تكن تعرف بعد، في منتصف السبعينيات ومطلع الثمانينيات، أنها كانت أول امرأة إفريقية تعزف على هذه الآلة التي أحدثت ثورة في الموسيقى العالمية.
في واقع الحال لم تتحرر حسنا من الشرنقة سوى عندما تزوج والدها من امرأة أخرى، مما أتاح لها البروز على الساحة الفنية بداية من العام 1976 خلال حفل نظمه الاتحاد العام للنساء الجزائريات بمدينة تاغيت، وفي تلك السنوات وما تلاها كانت تتخمر فنياً عبر الاستماع لفنانين كبار على غرار اليهودي الفرنسي ذي الأصول الجزائرية أنريكو ماسياس، والمغربي عبد الوهاب الدوكالي، وبوب مارلي وديفيد بوي، والشاب حسني، وألفا بلوندي. كما تعلمت العزف على آلات العود العربي والبانغو والهارمونيكا، ما سيسهم لاحقاً في منحها حساً فنياً في المزج بين الأنواع، رغم أنها لا تعرف القراءة والكتابة باللغة العربية عدا تعليمها الأول باللغة الفرنسية. ولسنوات طويلة ستواظب، بخاصة بعد وفاة والدها، على إحياء الحفلات المحلية والأعراس غير أن موجة الديسك جوكي التي اجتاحت الساحة الجزائرية خلال التسعينيات بديلاً للفرق الموسيقية، هددت مصدرها الأول في العيش بشكل كبير، حتى أنها دعت الله أن ينجدها من شح المال وتقلب الحال.
3/ كاباري سوفاج والجزائر جوهرة: الانتقال إلى العالمية
في العام 1999 وفي أشد الأوقات عسراً ستجيء لها مكالمة عجيبة من صحفي جزائري يسمى محمد علالو الذي سبق له أن شاهدها في عدد من الحفلات واستمع لأغانيها بالإذاعة الجزائرية، لقد كان يدعوها للغناء في المسرح الباريسي الشهير "الكاباري سوفاج" فلم تصدق الأمر، إلا وهي تسافر مع كوكبة من الفنانين الجزائريين والجزائريات، أبرزهم سعاد ماسي، لإحياء تظاهرة نساء الجزائر، المقامة في فرنسا بمناسبة الثامن من مارس واليوم العالمي للمرأة.
قدمت حفلتها "حافية القدمين" احتراماً لقداسة الڤناوي، وعزفت على آلة الڤومبري أمام المغتربين وجنسيات أوروبية، فأحدثت تفاعلاً كبيراً جلب لها أضواء الإعلام الفرنسي والغربي والعالمي. ومن تراتيب القدر العجيبة، أنها رأت في منامها ليلة قبل رحلتها إلى باريس، والدها الذي طالما حرّم عليها الاقتراب من تلك الآلة يبارك لها أخيراً ذلك الخيار الذي منعه عنها طيلة حياته، ذلك أنه في مقابل ذلك تقول "لم يكن والدي يعلم طوال حياته بأني كنت أعزف على آلة الڤومبري خفية عنه".
وتلك الحفلة التي سبقتها رؤيا تنبؤية عجيبة، سرعان ما ستثبت خلال أيام، حين ظهرت حسنا البشارية على واجهات الجرائد الفنية الكبرى وفي القنوات التلفزيونية، إذ لم يسبق للأوروبيين أن رأوا امرأة تعزف تلك الآلة وتغني مقطوعات صوفية دينية وأخرى عن الحب والحياة والعائلة، مرتدية لباسها الصحراوي التقليدي، كسرت بها تلك الكليشيهات السائدة عن المرأة الشرقية الجامدة، ودفع ذلك دار نشر موسيقية كبيرة للتعاقد معها لإصدار ألبومات خاصة بغنائها عبر وكيلة أعمالها ماغالي بارجيس، فأنشأت فرقة موسيقية محترفة متعددة الجنسيات متكونة من الأخوين غويغ وأنياس من البرازيل، وفيكتور من فرنسا، والجزائريين محمد مني من سعيدة، وسعاد عسلة من بشار. أصدرت العام 2002. العام ألبومها الأول "الجزائر جوهرة" الذي سمته على أغنية تغنت فيها بحبها لبلدها الذي خرج منتصرا من محنة الإرهاب، وحققت تلك الأغنية نجاحاً باهراً من حيث اللحن والإيقاع الصحراوي، في الجزائر وعديد البلدان المغاربية والأوروبية، ونقلتها في جولات فنية في فرنسا وإسبانيا وألمانيا والدانمارك وأمستردام والمغرب وتونس والقاهرة وكندا، كما قدمت حفلات في إيطاليا رفقة الفنان الإيطالي إيجونيو بيناتو، قبل أن يفتح لها باب معهد العالم العربي، ثم أتبعته بألبوم آخر هو "اسمع"، الذي أنجزته وفاءً لذكرى شقيقها الراحل، بشير، الذي لقنها تلك الأغنية. انخرطت بعدها وعلى مدار سنوات ضمن فرقة "لمّة بشّار" التي أسستها الفنانة سعاد عسلة، وهي فرقة نسائية تتكون من 12 امرأة، قبل أن تقرر العام 2020 العودة إلى الغناء المنفرد عبر ألبوم جديد "ألوان الصحراء".
4/ حسنة البشارية مغنية روك الصحراء: فيلمها الخاص يتوّج بجائزة عالمية في كندا
في عامها الثالث والسبعين لا تزال هذه المرأة مواصلة مسيرتها الفنية حاملة معها ڤومبريا جديداً، صنعه لها حرفي مغربي من خشب اللوز والجوز، كأنما يحثها على الاستمرار في نشر هذا الفن المألوف في الجزائر المغرب.
ولكونها سفيرة فنية فوق العادة لبلدها توجت بوسام استحقاق وطني منحه لها الرئيس بوتفليقة قبل عدة أعوام، كما شكلت مسيرتها الحياتية ملحمة فردية جسدتها المخرجة الجزائرية سارة ناصر في فيلم وثائقي حمل عنوان "مغنية روك الصحراء"، وقد فاز الفيلم، في أفريل 2022 بالجائزة الأولى للطبعة الثامنة والثلاثين للمهرجان الدولي، الموسوم نظرة على إفريقيا بمونريال الكندية، مكرساً إياها لا كفنانة برزت في نمط موسيقي رجالي فحسب، بل كامرأة ساهمت في تغيير الذهنيات الاجتماعية، وشكلت مسيرتها تحدياً للعوائق المحيطة، مقدمة للعالم صورة متألقة عن المرأة الشرقية المتمسكة بتراث بلدها وبأصالة مجتمعها الثقافي المساهم في الحياة الإنسانية.
ولأن الأمر لا يتوقف هنا، فإن آخر أحلامها يبقى: إنشاء مدرسة لتعليم العزف على آلتها المقدسة للبنات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.