قرأت جملة لأمٍ، تقول فيها: "سبع سنوات، انتظرت فيها أن تُصبح الأمومة أسهل، ولكن بلا جدوى".
وهل تُصبح الأمومة أسهل بمرور الزمن؟
هذه كذبة، نقولها نحن الأمهات المُتمرسّات للأمهات الحديثات، كنوعٍ من الطمأنة و"تطييب الخاطر" لما هنّ مُقبلات عليه، مُشفقين عليهنّ من الحقيقة المؤلمة التي حتماً سيُدركنها في يومٍ ما، وهي أنّ الأمر لا يصير سهلاً أبداً، وإنّما هي مراحل مُتدرجة في الصعوبة؛ مثل ألعاب الفيديو جيم، كل مرحلة أصعب من تلك التي تسبقها، حتى نُواجه الوحش في النهاية، ونهزمه أو يهزمنا.
ذلك هو الأمر السيئ فيما يتعلق بالأمومة، أمّا الخبر الجيّد، فهو أنّه أمام تحديّات الأمومة التي تكبر مع أطفالنا شيئاً فشيئاً، نزداد نحن قوةً وثباتاً وحكمة.
لن يتناقص الألم والإرهاق والشعور المستمر بجلد الذات عبر الزمن، بل كل ما سوف يحدث، هو أن تتسع قدرتنا على تحمّل تلك الأشياء بشكلٍ أكبرٍ، ومن ثمّ التعامل معها بذكاءٍ أكبر.
كان ذلك أمراً عادلاً، بل وجميلاً حتى عهدٍ قريب، ولكن الأمر المُحزن حقاً، أنّه بينما تصير طبيعة الحياة من حولنا أسهل بفضل تطور التكنولوجيا في جميع المجالات تقريباً، إلا أنّ تحديات الأمومة ازدادت صعوبة عن أي وقت مضى، بشكلٍ لا نقدر نحن الأمهات على مجاراته بعد الآن.
كيف أصبحت الأمومة في عصرنا الحالي، أصعب من أي وقتٍ مضى، وما هي الأسباب؟ هذا هو ما سأتكلم عنه الآن..
أسباب جعلت الأمومة حالياً أصعب من أي وقتٍ مضى
أول ما سيتبادر إلى الذهن، هو أنّ التكنولوجيا قد وفّرت الكثير من الوقت والجهد على الأمهات تحديداً؛ لوجود الأجهزة الكهربائية المختلفة في أغلب المنازل، والتي أصبحت تقوم بجزءٍ كبيرٍ من دور الأم في السابق، فكيف إذن أصبحت الأمومة أصعب؟
نعم ذلك صحيح ولا يُمكن إنكاره، ولكن أولاً، في المقابل ازدادت كل الأشياء الأخرى صعوبة وهو ما سأشرحه بالتفصيل، وثانياً، أنا أتحدث هنا عن دور الأمّ الحقيقي، دور المُربيّ وليس دور الراعي، الذي يختلط على الكثيرين التفريق بينهما.
أرى أنّ الأمر يفلت من بين أيدينا نحن الأمهات، يوماً بعد يوم، والأسباب عديدة، استطعت في هذا المقال أن أحصرها في 6 أسباب رئيسية..
1- زيادة الوعي = زيادة في المسؤولية
قديماً، كانت الحياة بسيطة، كان دور الفتاة فيها أن تتزوج وأن تُنجب، هكذا فقط. كانت الأم ترعى شؤون المنزل من طبخٍ وغسيلٍ وغيره، وتعتني بالأولاد، أما التربية، فكانت تقتصر على مفهوم الطاعة، وكان العقاب المألوف هو التوبيخ أو الضرب.
الآن اختلف الأمر، بفضل انتشار التعليم وثورة المعلومات التي وصلت لكل البيوت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فلم تعد الأمومة هدفاً في حد ذاته، بل صارت مسؤولية ثقيلة.
ارتفع الوعي المجتمعي بأهمية التربية السليمة، وخطورة كل سلوكٍ نمارسه مع أطفالنا على شخصياتهم، وما سيُصبحون عليه في المستقبل.
صار خبراء التربية الإيجابية يصرخون في وجوهنا كل يومٍ تقريباً، بأنّ علينا ألا نصرخ في وجوه أطفالنا، ناهيك طبعاً عن ضربهم، وبالتالي وقعنا نحن في مأزقِ، فكيف نُربّي بطريقة غير التي تربيّنا عليها، والتي يُدرك أغلبنا الآن للأسف أنّها لم تكن جيدة بما يكفي؟
علمت الأمهات الآن، أنّ التربية شيء بعيد كل البعد، عن كل ما كنّا نظنّه عنها، وهو التحدّي الأول.
2- معلومات أكثر = حيرة أكبر
بالطبع كان اكتساب الوعي وزيادة المعرفة بطرق التربية الحديثة أمراً رائعاً حقاً، ولكن ما حدث هو أنّ ذلك الأمر زاد عن حدّه فعلاً، بدرجة جلبت معها من التشتّت والحيرة، بأكثر مما جلبت من النفع و المعرفة.
المشكلة هنا أنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ مثل علم التربية لا يُمكن قياسها بقوانين ومعادلاتٍ ثابتة؛ لذلك هناك اختلافات كثيرة في مناهج التربية تختلف باختلاف المصدر ذاته.
كم طبيباً وإخصائياً الآن يتحدث عن التربية؟ كم كاتباً الآن يكتب عن نظريات جديدة تتعلق بمسألة التربية، وتهدم ما قبلها؟ وماذا عن مدربي التربية الإيجابية الذين زاد عددهم في السنوات الأخيرة، وصارت لكل واحدٍ منهم مدرسة مختلفة؟
كيف نختار؟ وأي طريق نسلك، وسط كل ذلك الكم الهائل من المعلومات؟
لاحظ أنني أتحدث عن الدارسين فعلاً من ذوي العلم، وليس عن كلام غير المتخصصين وتجارب الأمهات المنتشرة على جروبات الماميز مثلاً.
ما أثار حيرتي أنا شخصياً مثلاً، النظرية الجديدة التي تقول بأنّ عقاب الطفل على أخطائه، شيءٌ مرفوض من الأساس، حتى ولو كان عقاباً بسيطاً، وقد كنّا أنا وجيلي من الأمهات، نتبع حتى وقتٍ قريب، عقاباً لطيفاً اسمه الـ "نوتي كورنر"، الذي أصبح الآن فجأة، سلوكاً قاسياً، ويؤثر سلباً على سلوك الطفل!
أمرٌ محيرٌ فعلاً.
أين الصواب وأين الخطأ؟
هذا هو السؤال الذي تسأله كل أمٍ لنفسها الآن كل يومٍ تقريباً.
3- إنترنت مفتوح = صغار لم يعودوا كذلك
هناك مقولة ذكية حقاً تقول: "يمنحنا الإنترنت حق الوصول لكل شيء، ولكنه يُعطي ذلك الحق في نفس الوقت، لأي شيءٍ تجاهنا".
تُلام الأمهات الآن بشكلٍ كبيرٍ على ترك أطفالها يتعرضون لقدرٍ كبير من الساعات أمام شاشات التلفاز الذكي، والموبايل الذكي، واللاب توب الذي لا يحتاج لذكاءٍ حتى يتصل بالإنترنت، وهو الأمر الذي تدفع بسببه، وستظل تدفع فيه الأسرة بأكملها، ثمناً فادحاً، وأوّلهم الأم ذاتها.
لا لم يجعل وصول الأطفال لعالم الإنترنت، دور الأمومة أسهل عما قبل، بل بالعكس، صار الأمر مُرهقاً أكثر من اللازم على الأم، التي عليها أن تمحو الأثر السيئ والأفكار الغريبة التي يُشاهدها الصغار، وأن تُقاوم الإغراءات المختلفة التي تجعلها تستجيب لترك أطفالها أمام ذلك العالم المُخيف، وأولها إلحاح الصغار أنفسهم.
الأمهات نفسها أضرّها الإنترنت كثيراً وأثّر على علاقتها بأطفالها، خاصة مواقع السوشيال ميديا بما يغلب عليها من اهتمام مُبالغ فيه بالمظاهر، والدخول في مسابقاتٍ وهمية للحصول على لقبٍ الأفضل من بينهنّ، والتي تستحق جائزة الأم المثالية.
الإنترنت الآن بألعابه التفاعلية المُثيرة للشك، وبما يحتوي من تطبيقات للأطفال وفيديوهات لا تُناسب البالغين حتى، صار أزمة كبيرة جداً تُواجه الأمهات في الوقت الحالي، وعيادات أطباء الأطفال النفسيين واختصاصيي تعديل السلوك، تشهد على ذلك الأمر للأسف.
4– لهوٌ بريء = مشقةٌ أكبر
تُعاني الأمهات الواعيات أكثر وأكثر حتى، فهي حينما تفرض نظاماً صارماً على تقنين أو منع استخدام الهواتف الذكية أو الإنترنت بشكلٍ عام على أطفالها، تعرف أنّ عليها الآن أن تجد لهم بديلاً، يُعطيهم نفس تلك المتعة السهلة والسريعة، ولكن بشكلٍ آمنٍ.
قديماً لم تكن هناك لعبةٌ تُساوي متعة اللعب في الشارع مع أولاد الجيران. كانت الشوارع واسعة، والنّاس قلائل، وكان الأمان هو السائد، والمحبة هي الغالبة.
تغيّر الأمر، فلم يعد الشارع مكاناً آمناً للعب، ولم يعد يعرف الجيران بعضهم البعض. صارت الأخبار تتناقل حوادث خطف الأطفال أو اختفائهم.
الأم في هذا الزمن، تخاف على أطفالها، بأكثر مما كانت تفعل في أي زمنٍ آخر.
الآن النوادي هي البديل للعب في الشارع، ولكن لا يُمكن تحمل تكلفتها إلا قلة من الأسر، وفي الأغلب تتحمل الأم أيضاً مسؤولية توصيل أولادها من وإلى النادي. وتصعب الأمور أكثر وأكثر على الأم التي لا تتمكن من ذلك. فالطفل المحبوس في البيت، بطاقة جبارة ومكبوتة، هو ظلم للطفل، وحمل ثقيل جداً على أي أمٍ.
صارت الأمهات الآن تبحث عن أفكار مختلفة للعب، في زمننا هذا الذي يملّ فيه الأطفال سريعاً من ألعابٍ، أخذت من عمرنا سنواتٍ طويلة.
5- ظروف اقتصادية طاحنة = أُم مرهقة على الدوام
كما ذكرت، كانت المرأة قديماً مُنشغلة ببيتها، ولم تكن تُعير مسألة التربية اهتماماً كبيراً، ولكنها كانت متواجدة دائماً. الآن خرجت المرأة للعمل، وجعلتها الظروف الاقتصادية تحت ضغطٍ، لم يعد لها فيه اختيار. الآن هي امرأة تعمل، وأم تربّي، وزوجة تهتم بشؤون الزوج والبيت، فكيف سترى الأمومة نعمةً لا عبئاً؟
الشيء الذي لم يتغير ما بين الماضي والحاضر هو عدم مشاركة الزوج في التربية، إلا قليلاً منهم. ذلك الدور الرئيسي، تنازل الرجل قديماً عنه للمرأة، ولكن من ناحية أخرى كانت هناك الخالات والعمّات، الجدود والأقارب والجيران، كانت العلاقات من الحميمية التي تجعل حق التوجيه، بل والتأديب أحياناً للأقربين. صحيح أنّ لهذا الأمر مساوئه، لكنّه في ذلك الوقت، كانت له مزايا أيضاً.
الآن، صار الجيران غرباء، وصارت العائلات تتلاقى في المناسبات فقط، والأب يعمل فقط وقد اقتصر دوره على المساهمة المادية فقط في ذلك الكيان العظيم المُسمى بالأسرة، ولم يتبق سوى الأم، التي حملت دور التربية الثقيل مُرغمة، بجانب مسؤولياتها الأخرى، والتي هي في الحقيقة، ليست مسؤولياتها مع الأسف.
6- طلاق = أُم تُربي بمفردها
نعم، ذكرت أنّه في العادة لا يُشارك الأب في التربية إلا بدورٍ يُشبه دور ضيف الشرف في الأفلام، يلفت الأنظار إليه في مشهد أو مشهدين، ثم يُسارع بالاختفاء، الآن صار الأمر أسوأ، حينما يحدث الطلاق.
قديماً كانت حالات الطلاق قليلة جداً؛ لذلك كان الأب متواجداً رُغماً عنه، وحينما كثر الطلاق، وبدأنا نسمع عن الأسر التي تعيش طلاقاً صامتاً، أو انفصالاً في السكن، وهنا يختفي الكثير من الآباء تماماً، وكأنّهم ماتوا، غابوا روحاً وجسداً مع الأسف.
صارت الأمهات أماً وأباً، بل وربما لا يقتصر الأمر على التربية بمفردها، بل على النفقة أيضاً، فالمقولة الشائعة التي تقول بأنّ الرجال يطلقون أبناءهم أيضاً مع زوجاتهم، بها نسبة لا بأس بها من الصحة لبعض الحالات.
زاد الطلاق بشكل مرعبٍ نتيجة لأسباب كثيرة، ووقع عبء التربية الرهيب من جديد على رأس الأم وحدها، التي صارت تُعيل وتُربّي، لتُحيل تلك الملائكة الصغيرة إلى أشخاصٍ صالحين، كاملين غير منقوصين، قادرين على الصمود أمام ضعفهم البشري، واختبارات القدر.
نعم صارت الأمومة أصعب من أي وقتٍ مضى؛ لأن الأمهات وعت أخيراً بأنّ التربية ليس معناها أن تحول ابنك إلى ببغاءٍ ناطق يُردد ما تقول، أو حيوان داجن لا يمكنه أن يثور. وعت الأمهات أنّ التربية هي خلق جديد لروحِ بريئة، ائتمننا الله عليها، لكي نجعل منها روحاً صالحة للحياة على هذه الأرض، وعلى حمل الأمانة التي كلفنا بها الله سبحانه وتعالى.
وأخيراً، كلمة منّي للأمهات في عيدهنّ الطيّب الذي يُشبه قلوبهنّ؛ التربية هي رحلة، نُسافرها بدون خريطة، أو علامات على الطريق، فقط نتبع فيها صوت قلبنا، ونتعلّم ممّا نلاقيه خلالها.
وحينما يكبر أولادنا وننضج نحن، يُمكننا حينها أن ننظر إلى الوراء لنرى كيف كانت تلك الرحلة. سنرى أخطاءنا التي ارتكبناها عن جهلٍ، ولكنّا سنُسامح أنفسنا، حينما نرى حصاد الصبر والألم الذي سنجنيه أخيراً، خيراً يبقى فيهم إلى يوم الدين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.