المصادفة وحدها ربما هي من تركت لي مقطع الفيديو الوحيد الخاص بي من أرشيف ثورة يناير في المنصورة بعدما انتُهك عبر السنوات، ولم يتبق لي سوى هذا المقطع ليوم 29 يناير 2011، وأنا أقف وأتحرك في حماسة مع رفقاء الميدان على صوت الشيخ إمام وكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم "اصحي يا مصر".
هذا هو الإرث الوحيد الباقي لي من الأيام الطاهرة، مقطع فيديو رديء الجودة لكن في خلفيته صوت وكلمات تحمل وطناً بأكمله.
لم يكن لدي ثِقة كاملة أنني سأكمل كتاب "وأنت السبب يابا" للكاتبة نوارة نجم، الذي تسرد فيه تجربتها مع "الفاجومي" الشاعر أحمد فؤاد نجم، لعل ذلك يرجع لسبب مجهول، ربما مزاجية القراءة.
قرأت نِصف الكتاب كاملاً في جلسة واحدة، ما مِن صفحة إلا وتركتني مُحملاً بمشاعر وتساؤلات مفتوحة، من الصفحات الأولى وأنا أشعر أن الكاتبة نوارة نِجم لا تتحدث عن نفسها وعلاقتها بوالدها في مجرد حكايات.
مع كل حكاية كانت من بين السطور تدفعك دفعاً لكي تصارح نفسك كقارئ بالمواجهة بينك وبين مخاوفك القديمة، من طفولتك مروراً بمراهقتكِ المتخبطة وصولاً لشبابك البائس ربما أو أينما كان موقعك من المراحل العمرية والنفسية.
تقول لك بشكل غير مباشر: افتح نار قلبك للمواجهة مع أبيك، كان مشهوراً أم على الهامش، وكل أب مشهور في حكاية أبنائه سلباً أو إيجاباً.
دعوة الكاتبة نوارة نِجم كانت حثيثة مع كل صفحة من صفحات الكتاب، رسالتها لي عبر السطور: "داوِ نفسك بالمواجهة المؤجلة من بعيد"، و"اطمئن، لا خسائر بعد الآن" أكثر مما خسرت، الخلاصة طَهِّر نفسك بالمصارحة النفسية والخبايا المكتومة لأجل غير مسمى.
تسامح حتى ترضى
لستُ في معرض مَدح عن حَجم الحنين الذي يسربه الشاعر أحمد فؤاد نجم فيّ من قصائده وكلماته المنطلقة كطمأنينة خام خالصة المصرية، فما أنا إلا واحد من مُريديه، وأنا عن مِدحه غير كفء.
لكن مشاهد بعينها رغم التجربة الثرية التي خلفتها الكاتبة نوارة نجم في وجداني من استرسالها المتدفق بلا نهاية، وكأنها أوقفت نفسها عُنوة في نهاية الكتاب لأنها كانت ستكتب بلا نهاية ربما وبلا توقف.
هذه المشاهد تَركت فيّ أثراً علني أصل لشيء منها دون حياد، مفاد التأثير الأكبر هو "خلي البساط أحمدي بزيادة"، تسامح حتى يرضى الوجود من حَولك، وقفت كثيراً عند ثورة الأستاذة صافيناز كاظم، وهي أم نوارة نجم، في كيفية استقبال الطاعنين والخائنين للشاعر أحمد فؤاد نجم وترحيبه بهم وإكرامه لهم مرات ومرات.
توقفت عند كوب الشاي الذي طالما طلبه لأفراد الشرطة حين القبض عليه، توقفت ملياً عِند إصراره أنه سيكرر تجربة تضامنه مضرباً عن الطعام مرة أخرى ضد الاعتداء على المعتقلين الإسلاميين في الستينيات، وأن الزمن لو عاد سيكرر ما فعله، فهل تسامح أحمد فؤاد نِجم لعِلمه بتفاهة الحياة برمتها؟!
الاكتئاب أحياناً ما يقودنا لفكرة الاستسلام والبلاهة، لكن الشاعر أحمد فؤاد نجم أعطاني دَرساً من وجهة نظر أخرى في التسامح المُطلق لا اكتئاباً ولا بلاهة، ألا وهو: تسامح حتى ترضى، هذه الحالة صَدَّرتها الكاتبة نوارة نِجم في الصفحات والحكايات المختلفه كإرث غير مختلف عليه، وهو رسالة تسامح وفقط.
المناجاة الأخيرة
مشهد وداع الشاعر أحمد نِجم للحياة ومناجاته الأخيرة أصابتني بغيرة حقيقة وغِبطة "ادتني كل حاجه، ما خليتش نفسي في حاجه أبداً، راضتيني وطبطبتي عليّ، أنا بحبك قوي، وعارف أنك بتحبني".
هذه كانت مناجاته الأخيرة بكل هذه البساطة والأريحية التي تحمل ثِقل عُمر بأكمله لشخص ملأ الوطن نَغماً من أشعار وكلمات لامست قلوب الجميع وأرضت مشاعر الكُل بلا استثناء، وكان رِواءً فنياً وأدبياً رسخ في الوجدان الجمعي الشعبي للناس وسيظل.
هذه واحدة من أكثر المناجات الربانية روحانية التي قرأت في حياتي، ولعلها الأقرب لقلبي من بعد أن قرأتها وستدوم. سَمعت لقاء الشاعر أحمد فؤاد نجم قبل رحيله بشهور يتمنى فيه أن يحمله الثوار على أعناقهم لمثواه الأخيره، وقد كان من خلاصة المناجاة والوداع الأخير لـ"أحمد فؤاد نجم" في أحب بقاع الأرض لقلبه؛ من سيدنا الحسين.
حَلمتُ أن تَكون الطبطبة الأخيرة وآخر ما أتمنى وقِمة الرِضا أن أُدفن في المنصورة، حبيبتي الأثيرة لقلبي ورُوحي على وَقع المشاعر الجياشة التي تركها الكتاب فيّ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.