في ليلة ظلامها بهيم، لمع وميض شاشة هاتفي، حملني ضجر عجول إلى كشف كنه الرسالة في وجوم، تراءى إلى بصري طفلة تنقل جسدها بتفكك وخلاعة على أنغام موسيقى، كلماتها ماجنة، وأمها تجلس بجانبها في زهو وتبجح.
جحدت عيناي ما أبصرت! لكني أخيراً أيقنت أنها تلميذتي في إذعان وخنوع.
كانت خيبة كبيرة لي كأستاذة ومستشارة تربوية، فقد سمح لي فكري بأن أعتقد أني استطعت وضع صرح منيع بين تفاهة مواقع التواصل الاجتماعي وبين طلابي الصغار.
للأسف اكتسحت التفاهة كل شيء، بل أصبحت منهج حياة، فالأسرة تزرع بذورها، والمدرسة ترويها وتؤجّجها بمناهجها وأنشطتها الرديئة.
حسب المعاجم اللغوية، فالتفاهة تعني نقصاً في الأصالة والإبداع، أو نقص قيمة، كما تعني انعدام الأهمية، ودناءة الشيء، تتعدد المعاني لكن يبقى المغزى واحداً.
فعلاً فقد صار العالم يصنع التفاهة ويغرق فيها، فأينما ولّيت وجهك تجد منابع دافقة للتفاهة، كيف لا وأكثر الكتب مبيعاً هي روايات وسير ذاتية لمشاهير، يتحدثون عن سبل الغنى السريع والنجاح المنيع.
جوع نهِم للانحطاط والذوق الرديء، بعد أن هُمشت القيم، وتدهورت الجودة، وبرزت الأذواق المتدنية.
ومن بين أسباب استشراء هذه الظاهرة، كما جاء في كتاب "نظام التفاهة"، هو سيطرة طبقة التافهين في جميع الميادين. فالانضمام إلى ركابهم لا يحتاج إلا إلى أن يكون طموحك دنيئاً، لا تهمهم شهاداتك ولا مؤهلاتك، يكفي أن تكون لديك القدرة على صنع التفاهة، وبعدها ستكون نجم الدهر.
ليست التفاهة وليدة اليوم، لكن وسائل الإعلام الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي وفّرا منابر للمعتوهين والحمقى، ليتولوا مدارج السلطة والشهرة، ليغيروا بدورهم معاني التميز والنجاح والفلاح. فإن سألت طفلاً عن حلمه سيجيبك بأنه يطمح أن يكون "بلوغر" مشهوراً ذا حساب يتابعه ملايين المعجبين.
طبعاً فالهدف الكامن وراء كل هذا هو كسر القيم والأخلاق، وهدم المبادئ، والثقافة، وجعل الحياة بلا ضوابط ولا حواجز ولا قيود.
إن وسائل التواصل الاجتماعي تُرغمنا على تعاطي التفاهة، حتى وإن أبيْنا وامتنعنا عنها في الواقع؛ حيث يظن البعض أنها مجرد ترويح عن النفس، وقد نجد من يشتكي من كثرة ظهور هذه المنشورات التافهة أمامه رغماً عنه، غير مدرك أن التفاعل السلبي أيضاً يُسهم في انتشار المحتوى التافه.
لكم أن تتخيلوا أن بعض المشاهير يعتبرون التفاهة مدعاة للفخر، بل سوّلت لهم أنفسهم أن يعتلوا المنابر بالساعات، تحت مسمى "لايف للضحك".
ما يزيد الطين بلة أن نجد شخصاً كان مهرجاً بالأمس على إحدى وسائل التواصل، يقدم برنامجاً فكرياً على التلفاز، فيغدو قدوةً لأطفالنا.
أشياء نصادفها يومياً تستهلكنا مثلما تأكل النار الخشب، نصبح عمياناً لا نفرق بين الحق والباطل، جسداً يأخذ من كل سفيه ومهرج أبخسَ السلوكيات، وجعل "التريندات" منهجاً للعيش.
لا يمكننا معالجة هذا الوباء الفتاك في بضعة أسطر؛ بل علينا أن نعيد النظر في معتقداتنا وأفكارنا، وأن نقف معاً لتأسيس وعي جمعي وحدوي لإيقاف هذه التفاهة المبتذلة، ومقاطعة منابرها، فمسؤولية مقاطعتها تقع على الإنسانية جمعاء لإنقاذ ما تبقى لنا من أخلاق.
مراجع:
– كتاب "نظام التفاهة"، آلان دون، ترجمة مشاعل عبد العزيز، نشر وترجمة: دار سؤال للنشر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.