"القصة كاملة" كان ذلك شعار "القناة الوثائقية المصرية" أجدد قنوات المتحدة للخدمات الإعلامية "الوثائقية"، والتي أطلقتها الشركة في إطار سعيها لإعادة تشكيل المشهد الإعلامي لـ"الجمهورية الجديدة".
ما افتقده نظام السيسي منذ لحظاته الأولى، وربما لم ينتبه له إلا مؤخراً، هو الفيلم التسجيلي المنهجي، أو الدعاية المؤسسة على حرفة وصنعة وعلم، ففي أحاديثه الأخيرة، يبدو أن السيسي سئم إعلامييه الذين دأبوا على تمجيده منذ لحظات صعوده الأول في عام 2013، فقد انتقدهم في أكثر مرة، وانتقد المشهد الإعلامي الذي سيطرت عليه برامج "الطبخ"، وتارة أخرى ينتقد المشهد الإعلامي لفشله في الترويج لمنجزات النظام، أو لولعه بإظهار المصريين كشعب "ملهوف على الأكل والشرب".
افتتحت القناة الوثائقية المصرية يوم 19 فبراير 2023م بصورة تغطي الشاشة للعلم المصري، وفي الخلفية موسيقى النشيد، وكتب رئيس القناة "أحمد الدريني" منشوراً على الفيسبوك بدا وكأنه دستور القناة التي ستلتزم به؛ حيث قال: "بينما نحاول إعادة ترميم المروية العسكرية المصرية التي تتعرض لتشويهات واختطافات كثيرة، وبينما نمضي في مشروع إعادة اكتشاف وتقديم "الإسلام السياسي" على ماهيته الحقيقية دون مساحيق تجميل تذكر.. تأكد لنا أن السلعة الجيدة تلفت نظر الجميع". بهذا المنشور، لم يترك الدريني فرصة للتكهن بشأن الموضوعية التي ستنتهجها القناة في تقصي الحقائق التي تدعي أنها ستكون مهمومة بها، فيبدو أنها عضو جديد ينضم للجوق، ولكن الفارق هو الاعتماد على لغة إعلامية رصينة وجادة بعيداً عن المهرجين الذين أضروا النظام أكثر مما أفادوه، وللفيلم الوثائقي التسجيلي في مصر قصة يجب أن تُروى، قبل أن نرى ما الذي نقص من القصة.
ثورة أطباق الدش
كان العقد الأول من القرن الحالي حاسماً في علاقة الشعب المصري ووسائل الإعلام، فتكنولوجيا الاتصالات الجديدة والسماح بخصخصة وسائل الإعلام في مصر، بما في ذلك القنوات التليفزيونية الفضائية والإنترنت، قد أدى لتنوع غزير في المشهد الإعلامي المصري، وقد أسفر ذلك بدوره عن تشكيل جماهير مصرية عابرة للحدود الوطنية تتحدى القيم السياسية التقليدية والدولة المصرية الرسمية، وأفلتت من السيطرة المباشرة للنظام. وحينما انطلقت قناة الجزيرة القطرية 1996م بالتزامن مع ذلك الزخم، واجتياح قنوات الأقمار الصناعية التليفزيونية البيوت المصرية، كانت بمثابة الطفرة في الاستماع إلى أصوات السرديات الأخرى غير تلك التي يرويها النظام يومياً في قنواته، أو ترويها أحزاب المعارضة في الصحف والتي تعمل برضا النظام المصري لحسني مبارك في ذلك الوقت.
أسهمت قناة الجزيرة في إلهام موجة من القنوات الفضائية المستقلة ستظهر واحدة عقب الأخرى وستصنع المشهد في الإعلام المصري، ولكن ستظل للجزيرة محور الاهتمام لدى المشاهد المصري حتى يومنا هذا. وأطلقت الجزيرة مستفيدة من المادة الأرشيفية الضخمة في مكتبتها، قناة "الجزيرة الوثائقية" عام 2007م وهي القناة التي ستكون لها الموقع الرائد والأهم في الإعلام العربي في الإنتاج الوثائقي/التسجيلي الضخم، حيث توفرت لها الموارد المالية والإعلامية الكافية لتبوؤ تلك المكانة.
ظهرت إمكانية تأثير قناة الجزيرة الوثائقية على الرأي العام المصري في نفس عام انطلاقها، حيث أصدرت فيلم "وراء الشمس" وهو الفيلم الاستقصائي عن جرائم الشرطة المصرية في حق المواطنين المصريين، والذي صدر في جزأين بمدة تقارب الساعة ونصف الساعة عرضت فيهما القناة قضايا المواطنين الذين تعرضوا لاعتداء وانتهاك داخل أقسام البوليس المصرية دون أي تهمة، ودون رد اعتبار أو حفظ للحقوق، وقد كان الفيلم ذا نظرة مبعدية في التنبؤ بالثورة والانفجار الذي حدث في يناير 2011 وكان من أهم أسبابه جرائم حبيب العادلي وجهازه الأمني.
وفي أعقاب ثورة يناير، تحت سيل الحرية الجارف، كانت الجزيرة الوثائقية، وعلى غرارها الـ"بي بي سي" ومخرجو السينما التسجيلية المستقلة من أمثال جيهان نجيم، الذين تبنوا السرديات التسجيلية عن ثورة يناير، وقدمت العديد من الأفلام التسجيلية الهامة عن الثورة مثل: "آل مبارك، مبارك وسنينه، الطريق إلى يناير، الميدان، يوميات الثورة، ما لا يقال"، والكثير مما تم إخراجه وتسجيله مستفيداً من المناخ العام الحر المنتشي بالثورة حتى عام 2013م.
محاولات يائسة للكتمان
في يوليو 2013م، وحين أطيح بالرئيس محمد مرسي، كان من الطبيعي أن يكون موقف النظام المصري الجديد مناهضاً بشدة للإسلاميين، وبناء عليه أغلقت الكثير من وسائل الإعلام الإسلامية، وأودع الكثير من النشطاء من الإخوان المسلمين بالتحديد في السجون، ولكن تلك القيود سرعان ما فرضت على جميع وسائل الإعلام والأصوات المعارضة، التي طالت النشطاء الليبراليين والإسلاميين على حد سواء.
في 2013م، أغلق مكتب الجزيرة في مصر بناءً على "طلب شعبي" كما ادعت وزيرة الإعلام في مصر آنذاك درية شرف الدين، وأُغلق موقع الجزيرة الإلكتروني، في نظام ستتبناه الحكومة المصرية في حجب كل رأي مضاد. وبدأت أذرع النظام المصري تمتد شيئاً فشيئاً للسيطرة على كل المنافذ الإعلامية، ومنذ خطاباته الأولى، أكد السيسي على الدور الذي يجب أن يلعبه الفن والإعلام في دعم الدولة المصرية، مستحضراً تجربة جمال عبد الناصر والإعلام المصري، وفقدت مصر أي وجود لسرديات مستقلة تمارس دورها على الأرض دون التعرض لخطر الاعتقال، ولكن لم يستطِع السيسي السيطرة بشكل عام على المنافذ الإعلامية التي ظلت تعمل من مقرات أخرى خارج البلاد، فمن قناة "الشرق، مكملين" استمر الإخوان المسلمون في تقديم إعلامهم، وكانت تلك القنوات وما زالت شعبية في البيوت المصرية، فالسيسي لم يستطع أن يفرض سلطة حجب على قمر النايل سات، وظهرت قناة "التليفزيون العربي" أيضاً كأحد المنافذ للمعارضة المصرية، واستمرت الجزيرة الوثائقية في تغطية الوضع المصري من الخارج، وظلت الـ"بي بي سي" تعمل داخل مصر متحصنة بحمايتها من المملكة المتحدة.
بنى السيسي شرعية نظامه في مصر على أساس مكافحة الإرهاب الذي يحيق بمصر من كافة الجوانب، بالتوازي مع وعده بالمشاريع العملاقة والوطنية، فحفر "قناة السويس الجديدة" ووعد المصريين بعام 2016م كعام الحصاد الاقتصادي، ولكنه في الواقع لم يكن سوى عام الانتكاسة الاقتصادية؛ حيث بدأ التعويم الأول للجنيه في عهد السيسي وزادت معدلات التضخم، وقام نظام السيسي بالتخلي عن تيران وصنافير لصالح المملكة السعودية، وفي هذا الوقت، شهد نظام السيسي الكثير من الدعاوى للخروج عليه، مثل جمعة الأرض، ويوم 11\11\2016م وهي المحاولات التي باءت بالفشل جميعها، ولكنها كانت مؤشراً يعكس أن هناك أزمة في شرعية النظام.
لم يكن نظام السيسي يستخدم أدواته الإعلامية الضخمة في ترسيخ شرعيته من خلال السينما والدراما بعد، وكانت قنوات الجزيرة والبي بي سي والعربي مستمرة في إنتاج أفلامها التسجيلية عن الثورة في مصر وعن نظام السيسي، في ذلك الوقت، أصدرت الجزيرة الوثائقية سلسلة أفلام تستعيد مجزرة فض رابعة، وأنتجت البي بي سي السلسلة الشهيرة: "فراعنة مصر المعاصرون"، التي اهتمت بالتناول التاريخي لنظام حكم العسكر في مصر من جمال عبد الناصر إلى مبارك، وأشارت إلى عودة ذلك النظام مرة أخرى في عهد السيسي. لم تكن تلك الأفلام رغم ما كانت تحققه من نسبة مشاهدات عالية على اليوتيوب، وجرأة القضية التي تتعرض لها مثل قضية مجزرة رابعة، وقضايا الألتراس، والفتنة الطائفية في الشارع المصري، لتثير الكثير من القلق لدى نظام السيسي، وكان نظام السيسي المدعوم من دول الخليج العربي وعلى رأسها السعودية، قد تولت قناة "العربية"؛ لأن تكون منبره الإعلامي الموجه خارج مصر، وقدمت قناة العربية أفلاماً وثائقية تعظم في شخصه كفيلم "المشير" وأفلاماً تشوه في خصومه كفيلم "حمدين يمين.. حمدين شمال" وأفلاماً تدين الإسلام السياسي مثل "سلفيو مصر" الذي قدم لجماعة السلفيين التي هادنت نظام السيسي من خلال إظهارهم كالشق المضاد للإخوان المسلمين وحراكهم الإرهابي، وأفلاماً عن علاقة الإخوان بإيران.
افتتاح القناة الوثائقية المصرية.. لأن الناس سئموا المارشات العسكرية!
جاءت اللحظة الحاسمة التي لفتت أنظار نظام السيسي لما يمكن أن تحدثه سرديات تلك القنوات المستقلة من خطورة على نظامه، تستوجب رداً أكبر من سياسة الحجب وغلق المكاتب، حين أنتجت الجزيرة فيلم "العساكر: حكايات عن التجنيد الإجباري في مصر"، وأنتجت الـ"بي بي سي" فيلم "موت في الخدمة"، وهما الفيلمان اللذان نَفذا إلى داخل المؤسسة العسكرية، والتي هي بمثابة خط أحمر للسيسي.
كانت خطورة الفيلمين نابعة من التعرض للمؤسسة المقدسة للنظام المصري، الذي أسس شرعيته على كونها تحارب الإرهاب، وكانت جرأة الفيلمين في معالجة ما يتعرض له الجندي المصري من معاملة غير آدمية ووحشية، تُنافي الصورة التي تُقدم عنه من السلطة في أغاني "تسلم الأيادي" و"ابن الشهيد" و"قالوا إيه علينا"، وقد أحدثت تلك الأفلام صداها الذي استوجب ردوداً من المؤسسة العسكرية ذاتها، والتي أنتجت أفلاماً كردود عليها، ولكنها لم تلقَ تفاعلاً نظراً لطبيعتها الجافة والدعاية العسكرية في آن واحد، مثل "يوم في حياة مقاتل" وفيلم "حراس الوطن" الذي ظهر فيه الممثل محمد رمضان.
في ذلك الوقت كانت المتحدة للخدمات الإعلامية آخذة في السيطرة على قطاع الإنتاج التلفزيوني والسينمائي في مصر، وأسست لقطاع هجين الشكل، عبارة عن قنوات وشركات إنتاج مملوكة لرجال أعمال من القطاع الخاص، ولكنها مملوكة للمخابرات المصرية في الباطن، وقد استفاد النظام في مصر من ذلك القطاع بموارده الضخمة الهائلة، وقدرته على النفاذ، في تقديم سردية جديدة ترسخ لشرعية النظام التي بدأ يفقدها بعدما فتر المصريون من محاربة الإرهاب، الذي لا يقابله أي ازدهار اقتصادي، وأوضاع اجتماعية وسياسية متردية.
في العام 2017 كانت بداية إعادة غسل صورة النظام، من خلال بطولات مؤسساته الأمنية، وكانت البداية مع فيلم "الخلية" لأحمد عز، ومسلسل "كلبش" لأمير كرارة، اللذين قدما صورة لضابط الشرطة المهموم بحماية الوطن ومطاردة الإرهاب في كل شبر في مصر.
واستمر ذلك الخط الدرامي الجديد في السينما والتلفزيون في تقديم نفسه بقوة للمشاهد، من خلال الميزانيات القوية المرصودة للعمل. وبدون النظر إلى موضوعية القصة، كانت شرعية النظام المقدمة في السينما والدراما الروائية تعتمد بشكل أساسي على إثارة العواطف تجاه البطولة والفداء وحب الوطن، واستعادة أمجاد الأجهزة الوطنية حتى في الماضي، وهو ما ظهر في فيلمي: "الممر/حرب كرموز" بالتوازي مع عرض بطولات الحاضر في: "كلبش 2/ الاختيار 1،2،3″، واستطاع النظام أن يعيد تقديم سرديته ورؤيته للحدث في مصر من خلال تلك الأعمال الدرامية بنجاح، ولكنها قد وصلت لمرحلة التشبع الذي ظهر في فتور الجمهور وسخريته الشديدة من الاختيار 3، رغم أن ذلك العمل كان الأكثر حضوراً للمشهد التسجيلي والوثائقي في إطار الدراما، ولكنه فشل في الإقناع، خصوصاً لظهوره في فترة الأزمة الاقتصادية في مصر، التي أعقبت الكورونا والحرب الروسية الأوكرانية.
القناة الوثائقية المصرية: التمجيد مدسوس في التنوع
ليست القناة "الوثائقية" وليدة أمر دُبر بليل، فاتجاه النظام إلى السردية التسجيلية المؤسسة بأساسيات الفيلم التسجيلي أقدم قليلاً من تاريخ بث القناة لأول مرة.
عن طريق المتحدة للخدمات الإعلامية أيضاً، كان قد بدأ النشاط الإنتاجي التسجيلي في مصر من خلال إنتاج بعض الأعمال التي سُخرت قنوات الشركة كلها لبثها، فرأينا تلك الأعمال تُبث عبر CBC و DMC، ولكنها تحظى بمكان قوي ملحوظ في جدول العرض المتنوع لتلك القنوات.
وفي الفترة من 2019، وبقيادة الصحفي أحمد الدريني، قدمت الشركة مجموعة من الأفلام الوثائقية مثل: "العدوان الثلاثي" وفيلمي "حريق القاهرة، سيد قطب" وهما الفيلمان اللذان عبرا عن الاتجاه الذي تسعى له السردية التسجيلية في عهد السيسي، إدانات لحركة الإخوان في ثوب موضوعي.
المتابع للأفلام التي قدمها الدريني يرى الجهد مبذولاً، وعدم الاستسهال كذلك، فالدريني يمتلك إمكانيات وشغف صانع أفلام حقيقي تمت مصادرته، أو تخلى عنه طوعاً لسياسات المتحدة، ولذلك تعوّل المتحدة كثيراً على شخص يمتلك تلك الإمكانيات والخبرة، والقناة الوثائقية المصرية بحد ذاتها، هي مبتغى لقطاع من الجماهير المصرية، فكيف لدولة مثل مصر بطبقاتها التاريخية الكبيرة، ومساحاتها الثقافية الواسعة، ألا تمتلك مثل هذا المنبر؟! وبالفعل يمتلئ جدول برامج القناة بالعديد من الأفلام الثقافية المتنوعة البعيدة عن السياسة، وهذا ما سيجعل سردية النظام أن تتسرب للنخبة الثقافية المهتمة من خلال القوة الناعمة لتلك القناة.
فبينما تعرض القناة أفلاماً عن "أدهم الشرقاوي، المسرح القومي المصري، معركة الإسماعيلية، طابا، صوت العرب، سينما الجواسيس"، وخلافها من أفلام اشترت حقوقها ودبلجتها، تعرض أيضاً المشاريع الهزيلة المضخمة للنظام، فهل كان تنظيم كأس الأمم الإفريقية بمشاكله الكثيرة عام 2019م بحاجة إلى فيلم "164"، وبدأت القناة جدول عرضها بفيلمي: "حياة كريمة، العاصمة الإدارية الجديدة"، وهي الآن تعرض "مَن أحياها".
ولكن يبدو أن القناة لم تستطع أن تُخفي الطابع الأمني وراءها، والذي بدا في حوار الدريني نفسه مع "أمير حدود داعش"، حيث يستضيف الدريني هيثم "رشيد المصري"، الذي يحكي قصة نشاطه في الثورة السورية بأسئلة يلقيها عليه الدريني وكأنه ضابط أمن دولة، وتكتمل فصول المسرحية حين تُفتتح بسؤال هيثم على أنه ليس مجبراً على إجراء الحوار.
ولكنها مجرد البداية للقناة التي يبدو أنها ستُنقص كثيراً من القصص، ولن تعرض "القصة كاملة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.