من أوائل القصص التي درسونا إياها بالمدرسة "العصفور: الذي فضل الحرية والانطلاق والتحليق بالفضاء، على القفص الذي يوفر له الأمان والطعام والشراب". قصة رمزية أرادوا منها أن "الحرية المضبوطة بالدين والقيم والخلق… والتي لا تضر بحرية الآخرين، ولا تتعدى على حقوقهم هي ضرورة، ومن حق كل نفس بشرية بالغة عاقلة راشدة أن تتمتع بها".
والمرأة اليوم تحتاج للزوج الذي يتفهم معنى "الشخصية المستقلة والإرادة الحرة"، ويتعامل معها على هذا الأساس، وبالطبع من دون أن يخل ذلك بالحقوق والعلاقة الزوجية، وهذا الرجل موجود ومتوفر، وليس كائناً فضائياً ولا هو معجزة.
ولكن هناك من ران على قلوبهم بسبب التخبيب المستمر للرجال على النساء، وبسبب بعض الفتاوى، وبسبب جهود بعض المؤثرين التي باتت تحرض الأزواج على الزوجات، وتلجأ للمقارنات المستفزة والمنفرة، فجعلت الحياة الزوجية رئيساً ومرؤساً، وحرماناً ومنعاً، وصراعاً وحرباً، وقوانين مستبدة، ودولة بوليسية، لها رئيس يصنع ما يشاء، ويأمر وينهى بما يريد، وعلى الزوجة الطاعة المطلقة، وإلا فمصيرها الضرب أو الطلاق… ثم يتهمون الحقوقيات والغربيات بإفساد الأسرة، وهم الذين نبهوا المرأة المسلمة للفروقات الهائلة بينها وبين أخيها الرجل (فهو له كل شيء وهي عليها إعانته للحصول على كل أمانيه)، ما جعلها تهمل بيتها، وتسعى هي الأخرى على حقوقها القليلة.
إن المتحيزين هم من صنعوا الكارثة، وهم الذين يهدمون الأسرة ويؤسسون للأنانية، فالمشكلة ليست من الأزواج، وإنما هي من الذكورية المتأسلمة، من أولئك الذين يخببون الرجل على امرأته. وإليكم التفاصيل:
وسأبدأ- كمقدمة- بقصة حقيقية (تتكرر كثيراً)، ثم بتشبيه يُتداول من قديم الزمان، ثم أنتقل للقضية.
وأما القصة:
فبعد أن أنهت سلوى الثانوية العامة بعلامات عالية، ألحّ عليها والدها الذي تقدم بالعمر، وتكاثرت عليه الأمراض، وعانى من أخطاء الأطباء أن تكون طبيبة لتعالجه، فيكون هو وأمها في يد أمينة.
على أن زوج سلوى يريدها محامية مثله، لكي يوفر أجر موظف، وليترك في مكتبه شخصاً مؤتمناً ومتعاوناً ومهتماً، فيساعده بإخلاص في دراسة القضايا.
فوقعت سلوى في حيرة شديدة: هل تستجيب لرغبة والدها، أم لرغبة زوجها؟
فأفتوها أن الأمر محسوم، وعليها بلا تفكير الانصياع لرغبة زوجها.
ولكن سلوى تكره الطب، وهي شخصية رقيقة القلب ترتجف يداها إذا رأت جرحاً، وتغمض عينيها وتخاف من الدماء وتبكي مع المتألمين، هذا من جهة رغبة والدها. وأما من جهة رغبة زوجها فسلوى لا تجذبها المحاماة، لأنها شخصية انطوائية وخجولة، ومن الصعب عليها مقابلة المراجعين، والمثول في المحاكم أمام القضاة.
فهل من الصواب أن تتجاهل شغفها وقدراتها، ويكون مصيرها بين رغبة والدها وبين رغبة زوجها؟!
وإن الأمر لو رجع لسلوى فإن حلمها أن تحفظ القرآن، وميولها للدراسات الشرعية، وعندها يقين أن هذا أصلح لآخرتها ولتربيتها لأولادها، ولعلها تعمل في الدعوة فتكتسب أجراً إضافياً. فهل تتجاهل رؤيتها؟
وقصة سلوى حقيقية، وما حدث معها يتكرر كثيراً من الأزواج الذين يحبون السيطرة، أو الذين يتتبعون مصالحهم. أفلا يعلم هؤلاء الذين ينتصرون لمثل هذا الزوج ويقوونه، أن إجبارها سيتسبب بكارثة، فيموت المريض لقلة إتقانها، أو يخسر البريء الدعوى لقلة اهتمامها!
وأما التشبيه: "الربان والقائد وتلك المرأة المتمردة"
فمن أوائل التشبيهات التي قرأتها في كتب المرأة، وما زلت أسمعها من المشايخ والمؤثرين أن الأسرة سيارة أو سفينة أو طائرة، وينبغي أن يكون لها قائد واحد، وإلا حدثت كارثة، وأن الزوجة التي تتدخل بمهام زوجها، وتَمُدُّ يدها لتحرك المقود معه فإنها ستُفقده التوازن، وستتسبب بحادثة أليمة.
وبالمناسبة، أقول وعن خبرة وتجربة: "أنا أعرف أكثر من زوجة أنقذت عائلتها من موت محقق، حين مدت يدها وعدلت المقود، فكم من زوج نام أو تشاغل بموبايله، أو فاجأته سيارة مسرعة فانحرفت المركبة"، فكلنا بشر، وكلنا نخطئ، وبحاجة لمراقبة وتصويب.
ونعود لمثال القائد والسفينة: فما داموا يكررونه، ويعتبرونه حجة، فدعونا نمشِ معه ونفنده:
*الربان هل يقود السفينة بمزاجه؟ أم بتعليمات وقوانين دولية، وهل يستطيع الخروج عن المسار المحدد لرحلته، أو الانطلاق دون إذن، أو تجاوز الإشارة الحمراء، أم سيتعرض لحرمان وعقوبات ومساءلة، وهل يقود السفينة وحده أم مع مساعد؟!
وهل يحق له تقييد الركاب (إلا بتعليمات السلامة)؟ إذن هناك مرجعية لكل قائد، ونحن المسلمين لدينا تشريع رباني وقواعد دينية، وحدود شخصية. وهناك أيضاً فضائل أخلاقية، يعرفها الرجل الكريم ويمشي عليها، فيعيش هو وأسرته في هناءة، كما عاشت كثير من الزوجات في زماننا.
ولكن كثيرين اليوم لا يعرفون حقوق الزوجات، أو "بات يُسوغ لهم إغفالها وتجاوزها"، لأن هناك من يتحدث ليل نهار عن الطاعة، ويبيح للزوج أن يفعل ما يشاء بالزوجة، ويفرض عليها الطاعة المطلقة، حتى لوصل ذلك لإجبارها على المعصية:
– فإذا منعها من زيارة أهلها (فقط لأنه شعر أنه ما في داعي) فعليها الامتثال؟!
وادخلوا لأي موقع معتمد وموثوق على الإنترنت تجدونهم يقولون: "إذا منعها تطيعه وتقطع أهلها، ويأثم هو!". فكيف ستصلح مجتمعاتنا إذا آزرنا الزوج، وأبقينا المخالفات الشرعية متجذرة: "بالإصرار على الزوجة لتعمل المعصية"؟!
وكيف ذلك وقد أقروا وبالإجماع "لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق"، فهل هناك معصية أكبر من قطيعة أم وأب؟! فإذن: أما كان ينبغي أن يقولوا للزوج بحسم وحزم: "قطع الرحم حرام، ولا يحق لك منع زوجتك من أهلها، ولها أن تخرج بلا إذنك"، وأن يقولوا للمرأة: "إن منعك زوجك من زيارة أهلك فاخرجي ولا شيء عليك، لأن قطعهم معصية؟".
– وإذا طلب منها أن تقاطع صديقتها القديمة الحميمة (فقط لأنه لم يرتح لها) فعليها أن تقاطع أختاً مسلمة لحدسه وهواه.
فهل تجوز قطيعة أخت مسلمة فقط على الظن، والظن السيئ؟!
– وله منعها من الصلاة بالجامع، رغم امتناع الصحابة والخلفاء عن منعهن لحديث: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"!
وإذا اعترضت على أي مما سبق ذكره، تكون قد تدخلت في قيادته للبيت؟!
فهل هذه قيادة للبيت، أم من الحقوق البشرية الإنسانية والشرعية؟
وبعضهم وبعد أن يمنعها من زيارة أهلها يزور هو أهله كل يوم، وقد يخرج للترويح عن نفسه مع رفاقه، وقد يسافر معهم لأيام، ويتركها وحدها بالبيت تعاني الملل والوحدة. وهذا غبن وظلم، ولذلك كثرت الخلافات الزوجية والطلاق.
ومما يعتبرونه تمرداً وتدخلاً بالقيادة: رغبتها بأن تسمي واحداً من أبنائها باسم تحبه، أو توقها للذهاب لحج الفريضة، أو النزول للتنزه بالحديقة…
*وإنه حين يقود الربان السفينة، ألا يرافقه مهندس ومساعد ومضيفة… ويكون لكلٍّ دوره فيشتغل به، ويدع للآخرين مهامهم؟ أقصد: هل رأيتم كابتن طائرة يتجول بين الركاب ليتأكد من ربط الأحزمة؟ ومن توزيع وجبات الطعام؟
إنه لا يفعل لأنه واثق أن المضيفة سوف تقوم به كما ينبغي، على أننا نجد بعضهم يتدخل بتخصصات المرأة ومهامها، ويشرف على الطبخ ويتدخل بنوم الصغار، ويحدد لها علاقاتها مع قريباتها (وهي أعلم بها). فلا يترك لها مساحة الحرية ولا يعتدّ بالخبرة الأنثوية لتنجزها على هواها، ولا نجد من ينهاه ويذكّره بالتخصصات، ما يتسبب بمشكلات كبيرة.
كما أن مساعد الطيار قد ينفرد بقيادة الطائرة، ولكن الزوجة ممنوعة من الحرية حتى حال غياب زوجها لسنوات، فعليها أن تتلقى الأوامر وتنفذها ولو كان بالسجن، ومغيباً عن المستجدات.
ومن الغرائب أن الأم المُطلَّقة يحق لها أن تنفرد بصغارها فترة الحضانة، وتوجههم كيف تشاء، ولكن الزوجة الموجودة بالبيت تتعرض للضغوط وللتدخل بأمومتها وأهم مهامها التربوية!
* ورغم ضيق الطائرة والسيارة وانتفاء الخصوصية، فإن لكل راكب مقعداً ومساحة حرية، فلا يمنعون المسافر من الكلام، ولا من النظر من النافذة، ولا من قراءة الجريدة… في حين نجد بعضهم يكبل الزوجة في البيت، فلا يريدها أن تتسامر معه، ولا أن يسمع منها عن برنامج الأولاد، ولا إعانتها بحل مشكلاتهم، ومنهم من يرهقها بطلبات جانبية وثانوية فتقصر بالواجبات والمسوؤليات، ومنهم من يستضيف أهله لأشهر فيحرمها متعة الاستقلال والانفراد بزوجها والاستمتاع بخصوصيتها.
باختصار.. ما الذي تريده المرأة حقاً؟
يقولون إن المرأة تتطاول وتتمرد وتريد التسلط والسيطرة، وهم بالحقيقة يقلبون الواقع، فكثيرون هم الذي يتدخلون بمهامها، ويحرمونها من حقوقها، ولذلك ينبغي التفريق بين (1) زوجة مقهورة مظلومة، (2) وبين زوجة تتطلب وتتبرم وتتسلط، وتريد التعدي على مهمات الزوج والرجل وعلى تخصصاته.
وأعيد وأكرر أنه لن يستفيد من هذه التشبيهات، ومن تشريع تلك القيود هذه سوى الزوج السيئ، فالزوج الكريم هين لين، ولم ولن يخطر بباله أنه ربان ولا قائد، ولن يحتاج أصلاً لفتاوى لأنه يتعامل وزوجته بالمودة والمرحمة والتضحية المتبادلة.
وإننا لو رجعنا لعصر الرسالة، ولِما أقره المصطفى، ولما جاء بالقرآن لوجدنا ما يلي حول حرية المرأة:
1- المرأة شخصية حقوقية كاملة باتفاق الفقهاء، ولها حق التعلم، وحق العمل، والبيع والشراء والتصرف بأملاكها، فبأي حق يأتي من ينقضه، فيقيدها ويمنعها من المباحات؟!
وأقر القرآن والحديث والفقهاء بالحرية للمرأة، والتي هي ضد العبودية، وتقتضي "حرية الإرادة وحرية التصرفات" بالمعروف، فتخرج الزوجة لزيارة أهلها أو قرابتها أو جارتها، وتخرج لشراء أغراضها، وتخرج للتعلم وللعمل، وللترويح عن النفس، وهذه أهم حقوقها الآدمية، وكثير من الثورات قامت لأجل الحرية، فكيف يمكن لأي أحد أن يمنعها منها، وهي متجذرة بالطبيعة البشرية، وإذا لم تحصل عليها مرضت بالأمراض النفسية، وعجزت عن القيام بمهامها.
والحرية المطلوبة كانت موجودة في عصر النبوة، فكانت المرأة تخرج لتجز نخلها، وكانت السيدة أسماء تخرج لتعلف فرس الزبير… وفي حديث صحيح رواه البخاري: "قدْ أذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أنْ تَخْرُجْنَ لِحَوائِجِكُنَّ"، وهو ما أفتى به الددو أن المرأة "تخرج بالنهار بلا إذن، والاستئذان برأيه للخروج بالليل لأنه مظنة التهمة"، على أني أجريت دراسة على الإذن، وتبين لي أنه يكون فقط لأمرين: (1) للسفر (2) للنوم خارج البيت.
ويؤكد ذلك ما جاء في كتاب الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص779: "تخرج لبيت أبيها لزيارة أو عيادة فيعد خروجها عذراً وليس نشوزاً… وأيضاً لزيارة أقاربها أو جيرانها أو عيادتهم أو تعزيتهم"، وفي ج7 ص792 أقر الحنابلة بأنه "لا يجوز للزوج أن يمنع امرأته من العمل".
2- ومعلوم من الدين بالضرورة أن الحقوق أربعة:
أولها حق الله، ثم حق النفس، ثم حقوق العباد بعضهم على بعض…
فحق المرأة على نفسها أولى من أي حق آخر، حتى حق الأم والأب وحق الزوج، وهذه ليست أنانية ولا عقوقاً، وإنما هو تشريع رباني، وذكاء اجتماعي، وقد أثبته علم النفس، فلا يمكن لأي إنسان مهما كان خلوقاً وطيباً أن يعيش حياته متجاهلاً نفسه، ومحققاً لرغبات الآخرين.
وإن لنفسك عليك حقاً؛ المطلوب: التوازن وإعطاء كل ذي حق حقه، وفي حديث حسن: "قالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، عِندي دينارٌ، فقالَ: تصدَّق بِهِ على نفسِكَ، قالَ: عِندي آخرُ، قالَ: تصدَّق بِهِ على ولدِكَ، قالَ: عندي آخرُ، قالَ: تصدَّق بِهِ على زوجتِكَ…". فالبدء الصحيح يكون بالنفس لكي تصبح قوية ومستقرة ومتوازنة، فتستطيع الاستمرار بالعطاء والتضحية والقيام بدوها كأحسن ما يكون.
وإن طاعة الله التي هي أعظم طاعة وأهم الطاعات على الإطلاق فيها مرونة وفيها سعة، وفيها رحمة، وفيها تقدير للخائف والمسافر والمريض.
وحتى العقوبات فيها خيارات، فنرى الكفارة بين الإطعام والكسوة… ولكنهم اليوم يضغطون كثيراً على المرأة بفكرة "الطاعة المطلقة"، ويهملون تماماً تركيبتها وقدراتها وشغفها، ويجعلونها فورية، ولا يراعون الحالة النفسية، ولا يبالون ولو كان زوجها مقصراً في أداء حقوقها.
ولو كان للزوج الأفضلية لما أوصاه الله بالمرأة، ولو كان للزوج الاستبداد لما راجعت أمهات المؤمنين الرسول، بل الخير في الاعتراض وفي النقاش، ولا يمكن أن تقبل الزوجة بكل ما يمليه زوجها عليها: "كنا معشرَ قريشٍ نغلبُ النساءَ فلما قدمنا المدينةَ وجدنا قوماً تغلبُهم نساؤُهم، فطفق نساؤُنا يتعلمْن من نسائِهم، فتغضَّبت يوماً على امرأتي فإذا هي تُراجعُني فأنكرت أن تراجعَني، فقالت ما تنكرُ من ذلك؟ فواللهِ إن أزواجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ليُراجعْنه، وتهجُرُه إحداهُنَّ اليومَ إلى الليلِ"، وأهم ما في الحديث أنه لم يستنكر أن تغلب الزوجة زوجها، ولم ينه النساء عن مثله مستقبلاً.
ولذلك قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق: "المرأة لا يجب عليها طاعة الزوج في كل ما يأمر به، إنما ذلك فيما يرجع إلى النكاح وتوابعه، خصوصاً إذا كان في أمره إضرار بها". فكلامه ينسجم مع الشخصية الحقوقية للمرأة، ومع مقاصد الزواج، ومثله قال العلامة والمفكر الغزالي، وفصل في كتابه "قضايا المرأة".
والخلاصة:
المرأة لا تريد التسلط ولا القيادة، ولا التعدي، ولا التدخل بمهام الرجال، وإنما تريد مساحة حرية، باتخاذ بعض القرارات، وتحقيق بعض الرغبات (بالحدود المقبولة شرعاً وخلقاً).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.