وداعاً أم البطل، رحلت عن عالمنا فنانة ومطربة من الزمن الجميل، إنها خنساء مصر التي قدمت للوطن ابنها الأول الطيار الشهيد "سيد السيد بدير" في حرب الاستنزاف أثناء عمليات التدريب الليلي، وابنها الثاني عام 1989م في عملية اغتيال غامضة، لتنشد بعد أيام من استشهاد ابنها الأول أغنيتها المشهورة "أنا أم البطل.. ابني حبيبي يانور عيني بيضربوا بيك المثل طبعاً أنا أم البطل".
رحل ابنها شهيداً فداءً لمصر والعروبة، استشهد فلذة كبدها شهيداً في سماء مصر، لتقف وتنشد بقوة وإبداع وصدق في أغنية ما زالت في كل آذان وقلوب العرب "أنا أم البطل" لينشد أهالينا في حقول جني القطن ونحن صغار أثناء حرب أكتوبر/تشرين 1973م أغنية السيدة الفاضلة والفنانة العربية شريفة فاضل وزوجة الفنان المخرج السيد بدير، ونعيش مع صوتها كل عام في المناسبات على الطرب الجميل في مناسبات الأفراح، والحب، وذكريات الحرب، وصوم شهر رمضان.
للفنانة شريفة فاضل العديد من الأعمال التي تعيش في الوجدان لتذكّرنا بالعديد من المناسبات، ومنها أغنية "تم البدر بدري"، في شهر الصوم و"أم البطل" في ذكرى حرب أكتوبر/تشرين الأول، و"مبروك عليك يا معجباني يا غالي"، في أغاني الأفراح، و"فلاح كان فايت بيغني"، و"حارة السقايين"، و"وآه من الصبر وآه"، و"آه بالمكتوب".
رحلت شريفة فاضل في صمت تام من الإعلام الرسمي ونقابة المهن التمثيلية التي كانت مشغولة بالانتخابات داخل النقابة، وفي غياب إعلام الردح والتفاهة دون أن يذكر خبر وفاة فنانة أهدت الوطن أغلى ما تملك ومنحته قطعة من قلبها، فهي أم البطل الشهيد سيد السيد بدير، الذي استشهد في الحرب؛ فغنت أمه لأمهات كل الأبطال بدمها ودموعها لتشد من عزائمهن، ومن عزائم الأبطال المحاربين بأغنيتها الشهيرة "أم البطل".
في زمن التطبيع وأنصاف الرجال والأبطال من ورق ستظل قصة الفنانة شريفة فاضل تروَى عبر الأجيال، بعد غياب الثوابت القومية والعروبية وتكون درساً لكل المهرولين باتجاه "تل أبيب".
العقيد دكتور مهندس "السعيد بدير"
تمضي الأيام والسنون وفي صيف عام 1989 تتلقى الفنانة شريفة فاضل النبأ المفجع والغادر باغتيال ابنها الثاني الدكتور والباحث والضابط المتقاعد العقيد "سعيد السيد بدير" في مدينة الإسكندرية، في عملية اغتيال لعالم مصري بعد عودته من أمريكا وألمانيا.
العقيد سعيد السيد بدير من مواليد يناير/كانون الثاني عام 1949، بدأ في سنواته الأولى تظهر عليه علامات الذكاء الفائق، وفي الثانوية العامة كان "سعيد بدير" الثاني على مستوى الجمهورية بمجموع 95%، حيث تخرج من "الكلية الفنية العسكرية"، وعين ضابطاً في القوات المسلحة المصرية، وأصبح معيداً في الكلية الفنية العسكرية عام 1972، ثم مدرساً مساعداً في الكلية نفسها، ثم مدرساً فيها عام 1981، حتى وصل إلى رتبة عقيد مهندس بالقوات الجوية وأحيل إلى التقاعد برتبة عقيد مهندس بالمعاش، بناءً على طلبه بعد أن حصل على درجة الدكتوراه من إنجلترا.
وفي أغسطس/آب 1987، انخرط في مشروع بحثي في قسم الهندسة الكهربائية في جامعة دويسبورغ إيسن بألمانيا، تحت إشراف البروفيسور إنغو وولف، وتعاقد مع الجامعة لإجراء أبحاثه طوال عامين، وهو المشروع الذي سمح له أن يحصل على خبرة في العديد من جوانب الهندسة الكهربائية والإلكترونية.
ثم عمل في مجال أبحاث الأقمار الصناعية في جامعة دويسبورغ إيسن في ألمانيا، وكان مجال عمله، وفقاً لكتاب دماء على أبواب الموساد: اغتيالات علماء عرب، للدكتور يوسف حسن يوسف، يتلخص في أمرين:
1- التحكم في المدة الزمنية من بدء إطلاق القمر الصناعي إلى الفضاء ومدى المدة المستغرقة لانفصال الصاروخ عن القمر الصناعي.
2- التحكم في المعلومات المرسلة من القمر الصناعي إلى مركز المعلومات في الأرض سواء كان قمر تجسس أو قمراً استكشافياً.
استطاع وهو في سن صغيرة، من خلال أبحاثه، الوصول إلى نتائج متقدمة جعلته يحتل المرتبة الثالثة من بين 13 على مستوى العالم، في حقل تخصصه النادر في الهندسة التكنولوجية الخاصة بالصواريخ.
تهديد بالاغتيال
في أكتوبر/تشرين الأول عام 1988م اتفق معه باحثان أمريكيان لإجراء أبحاث معهما مقابل الحصول على الجنسية الأميركية، وأجر مالي ممتاز عقب انتهاء تعاقده مع الجامعة الألمانية، وهنا اغتاظ باحثو الجامعة الألمانية، وبدأوا بالتحرش به ومضايقته حتى يلغي فكرة التعاقد مع الأمريكيين.
حيث ذكرت زوجته أنها وزوجها وأبناءهما كانوا يكتشفون أثناء وجودهم في ألمانيا، عبثاً في أثاث مسكنهم وسرقة كتب زوجها، فشعر بأن حياته وحياة أسرته باتت في خطر، فكتب رسالة إلى الحكومة المصرية يطلب فيها حمايته، فتلقى اتصالاً من السلطات المصرية تطلب منه عودته فوراً إلى أرض الوطن.
بدأت مخاوف الأجهزة المخابراتية خاصة الغربية منه تزداد مع أبحاثه الخاصة، بالاتصالات والأقمار الصناعية، خاصة بعد كشفه عن أبحاث تتحدث عن كيفية السيطرة على قمر صناعي معاد لصالح مصر، وعندما ظهرت هذه التهديدات علم بذلك الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك فعينه مستشاراً له في مجاله.
نتيجة لشعورهم بالقلق قررت الأسرة العودة إلى مصر في يونيو/حزيران عام 1988، العودة إلى مصر كانت للحماية من محاولات متوقعة لاغتياله، فقرَّر السفر إلى أحد أشقائه في الإسكندرية لاستكمال أبحاثه فيها.
ووفقاً لكتاب "الموساد واغتيال زعماء وعلماء"، أزعجت أبحاثه كل أجهزة الاستخبارات في العالم، خاصة الموساد الإسرائيلي؛ لذا صدر قرار تصفيته لأنه نجح في فكِّ شفرة الاتصال بين أقمار التجسس الإسرائيلية والمخططات الأرضية.
بعد عودته لمصر قرر استكمال أبحاثه هناك، واستمر سعيد في تجاربه وبدأت أجهزة استخباراتية تهدده بطريقة غير مباشرة، وكي يبعد الأنظار عنه قرر أن يفتتح مصنعاً للإلكترونيات لصرف النظر عنه.
بعد ذلك الإعلان بأسبوع، وتحديداً في الإسكندرية في 13 يوليو/تموز عام 1989م تلقى قسم شرطة شرق في الإسكندرية بلاغاً عن سقوط شخص من عمارة في شارع طيبة "بكامب شيزار" فيما ما يبدو أن الحادثة انتحار، لكن نتائج التحقيق كانت بها العديد من مظاهر الريبة؛ حيث وجدوا الغاز مفتوحاً في شقته وكأنه أراد الانتحار بالغاز، وعندما فشل ألقى بنفسه من العمارة، كما وجدوا وريد يده مقطوعاً أيضاً، فكأنه أراد الانتحار بجميع الطرق.
لم يتم الإعلان حتى الآن عن من وراء قتله، وهناك مصادر أشارت إلى احتمالية قيام أجهزة مخابرات باغتياله، خاصة جهاز الموساد الإسرائيلي.
لترحل عنا أم البطلين الفنانة شريفة فاضل، تاركة وراءها ذكرها بأغانيها الملهمة وبذكرى ابنيها البطل الشهيد طيار "سيد السيد بدير"، والعالم الشهيد "سعيد السيد بدير" عن عمر ناهز الـ85 عاماً يوم الأحد الماضي الموافق 5 مارس/آذار 2023.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.