منذ أن نال السودان استقلاله من دولتي الحكم الثناٸي "إنجلترا، مصر" في الأول من يناير عام ١٩٥٦م، جَرَّب "ثلاثة" أنواع من الحكومات، فَصَلت بينها "ثلاث" ثورات شعبية، وتخللتها "ثلاث" فترات انتقالية: "حكومة حزبية منتخبة، حكومة يأتي بها انقلاب عسكري، حكومة انتقالية".
ويمكن الحديث شيٸاً ما ولو شكلياً، عن نظام "حكم ملكي" فُرِضَ على السودان التي كانت تستعمره إنجلترا الملكية، بالٕاشتراك مع مصر الملكية أيضاً، يديره حاكم عام إنجليزی تختاره ملكة إنجلترا، ويُصدر الخديوي في مصر فرماناً بتعيينه، وفي خِضَم التنازُع بين دولتي الحكم الثناٸي، نُودي بالملك فاروق ملكاً علی مصر والسودان مع كون مصر نفسها كانت مستعمرة بريطانية حينذاك.
الحكومات المتعاقبة
أول حكومة تسلمت مقاليد الحكم من الاستعمار كانت حكومة حزبية منتخبة برٸاسة السيد الأستاذ "إسماعيل الأزهري"، بعدما ذاب "مٶتمر الخريجين" طليعة الوطنيين المنادين باستقلال السودان في الحزبين الكبيرين، أو في الطاٸفتين الكبيرتين علی وجه الدِّقة.
فمٶتمر الخريجين الذي أنشئ علی غرار حزب المٶتمر الهندي القاٸم إلی يوم الناس هذا وجد نفسه أمام انتخابات عامَّة تتطلب ميزانيات ضخمة، ومعينات كثيرة، وتجربة جديدة كليّاً، لا قِبَل له بها، خاصة بعد المعركة الانتخابية عام ١٩٤٣م لاختيار الهيٸة الستينية للمٶتمر والثناٸية التي أدت لانقسام حاد، بين مجموعتين: الأولی بزعامة الأزهري يساندهم الأبروفيين "جماعة أب روف"، والثانية مجموعة الشوقيين بزعامة "محمد علي شوقي"، ومجموعة من "أبناء الأنصار" يساندهم بطبيعة الحال السيد "عبد الرحمن المهدي".
يأتي ذلك وسط جماهير تدين بالولاء للسيدين الكبيرين، السيد السير "علي الميرغني" زعيم طاٸفة الختمية، وسليل العترة النبوية، والسيد "عبد الرحمن المهدي" زعيم طاٸفة الأنصار، ونجل السيد الإمام "محمد أحمد المهدي" مُفجر الثورة المهدية، الذي خاض غمار حرب ضروس ضد المستعمر وحرر البلاد من ربقة الاستعمار بحد السيف حرفياً بمساندة واسعة من جماهير الشعب السوداني الذي بذل الغالي والنفيس في سبيل نيله حريته.
مٶتمر الخريجين لا يستمد سلطته من الدين الحنيف، ولا يدين بالولاء للسيدين، لذا فمن السهل هزيمته في الانتخابات، بل ورميه بالزندقة، وباتباع نهج الكفرة، لذا كان من المحتم علی أعضاء مٶتمر الخريجين أن ينضووا تحت عباءة أحد السيدين ربما تقيةً، لكنه ليس عن قناعة حتماً، وعندها تفرق مٶتمر الخريجين، وحُرم السودان من تجربة حديثة لبناء دولة ديمقراطية حديثة.
نالت السودان استقلاله، بعد سودنة جميع الوظاٸف في الدولة، وكانت السودنة هي الشرارة التي أطلقت التمرد في جنوب السودان من عقاله، في أغسطس ١٩٥٥م، قُبيل إعلان الاستقلال احتجاجاً علی إبدال الإنجليز الرحماء بالعرب القساة تجار الرقيق!! كما قالت بذلك الدعاية الاستعمارية؛ "رمتنی بداٸها وانْسَلَّتِ"، والذي أفضی في نهاية الأمر بعد حرب أهلية هي الأطول في القارة الإفريقية إلی انفصال جنوب السودان بعد الاستفتاء الذي أقرته اتفاقية السلام الشامل "نيفاشا" الموقع في نيروبی يناير ٢٠٠٥م، وأدت لـ"ثناٸية جديدة".
فقد تسلمت حكومة الأزهري أنقاض دولة لم يترك فيها المستعمر سوی "ثناٸية" تمثلها خدمة مدنية، تتجلی فيها آثار وأساليب الخواجات "المستعمرين" شكلاً علی الأقل، وإدارة أهلية، موغلة في المناطقية والقبلية، خزانة خاوية علی عروشها، تعتمد علی تصدير المنتجات الزراعية كمواد خام، والثروة الحيوانية الحية بلغت جملتها عام ١٩٥٦م أقلَّ من خمسين ألف طن، وقيمتها أكثر بقليل من خمسة ملايين جنيه للصمغ العربي، ومتوسط صادر الماشية حوالي ١٤ مليون جنيه، ومثلها للقطن، مقابل واردات المواد الاستهلاكية التي تمتص كل قيمة الصادرات، وكان للشركات البريطانية نصيب الأسد، بجانب شركات أجنبية أخری، مثل شركة "ميكنتايل" التي كانت الوكيل الحصري لخمس وسبعين شركة أجنبية.
بدايات متعثرة
ليس عدلاً إلقاء اللوم علی أول حكومة منتخبة، في العثرات التي اعترضت طريقها، فقد كان التنافس بينها وبين معارضيها يجری في جوٍ غير صحي علی الإطلاق، ولم تكمل الحكومة الحزبية الأولی عامها الثالث، حتی استلم الجيش بقيادة الفريق إبراهيم عبود، السلطة في انقلابٍ أبيض، بتاريخ ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م، ومازال الجدل جارياً عمَّا إذا كان الذی وقع انقلاباً عسكرياً تقليدياً، أم عملية تسليم وتَسلُم جرت بين رٸيس الوزراء حينٸذٍ الأميرالاي "عبد الله بك خليل"، وبين قاٸد الجيش الفريق "إبراهيم باشا عبود"، ولكن الثابت أن السيدين قد باركا استلام الجيش للسلطة في ثناٸية تتجلی مرة أخری.
بعد ست سنوات قضاها حكم الفريق عبود في بناء مشاريع تنموية تمثلت في تشييد الطرق والجسور والسدود ومصانع السكر والمواد الغذاٸية وتوفير الطاقة الكهرباٸية، ثارت جموع الشعب السوداني في ٢١ أكتوبر ١٩٦٤م، وتنحی الفريق عبود عن السلطة مفسحاً المجال للحكم المدني، تحت مسمى جبهة الهيٸات، وبرزت ثناٸية جديدة لأول مرة مثلها الحزب الشيوعي واليسار عموماً من جهة، والإخوان المسلمون والحركة الإسلامية عموماً من جهة أخری.
لم ينقض من عمر الحكومة الانتقالية التي شكلتها جبهة الهيٸات برٸاسة الأستاذ "سر الختم الخليفة"، قبل أن يُعاد تشكيلها ثلاث مرات بعدما تبيَّن أن الحزب الشيوعی قد استأثر فيها بنصيب الأسد بسبع وزارات، وهو حزب صغير لا يشغل في البرلمان باسمه غير مقعدٍ واحد.
جرت الانتخابات البرلمانية بعد الفترة الانتقالية، وشكّل الحزبان الكبيران حكومة اٸتلافية في ثناٸية مطعمة ببعض الأحزاب الصغيرة، وكانت الخلافات قد عصفت بالحزبين الكبيرين، فانقسم الحزب الاتحادي إلی حزبين، الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الشعب الديمقراطي، وهي ثناٸیة أيضاً، وانقسم حزب الأمة إلی جناحين: جناح الهادي، وجناح الصادق، وها هي الثناٸية تطل من جديد.
كان الحزبان العقاٸديان، الحزب الشيوعی، وجبهة الميثاق الإسلامي، يشكلان ثناٸية أخری كقطبين متنافرين، أو كخطين متوازيين لا يلتقيان، قادت فيه جبهة الميثاق الإسلامي حملة شرسة أدت إلی طرد نواب الحزب الشيوعی من البرلمان، وهو الشيء الذي لم يبتلعه الشيوعيون، فارتكنوا إلی خلاياهم في الجيش، حيث قادوا، ومعهم مجموعة من القوميين العرب والبعثيين، انقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩م بقيادة العقيد "جعفر محمد نميري"، الذي ما لبث أن عصف بأعضاء مجلس قيادة ثورة مايو من الشيوعيين الذين دبروا انقلاباً بقيادة الراٸد "هاشم العطا"، حيث كان عُمْر الانقلاب ثلاتة أيام فقط، وقضی بعدها النميري علی الشيوعيين قضاءً مبرماً.
بعد ستة عشر عاماً قضاها النميري في الحكم اندلعت ثورة أبريل الشعبية الثانية التي أطاحت بحقبة مايو، جاءت بعدها الفترة الانتقالية الثانية برٸاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب الذي قضی في الحكم عاماً واحداً بالتمام والكمال، ليسلم مقاليد الحكم للحكومة الحزبية الثانية التي تولی رٸاستها السيد الصادق المهدي بالاٸتلاف مع الحزب الاتحادي الديمقراطي، لنعود للثناٸية مرة أخری.
تولت زعامة المعارضة الثناٸية الجبهة الإسلامية القومية من جهة باعتبارها الكتلة الأكبر بعد الحزبين الكبيرين، والحزب الشيوعي الذی فاز ببضعة مقاعد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، لكنها لعنة "الثناٸيات".
بعد مناكفات وتقاطعات واستقطابات حادة، وتردٍّ في الأحوال المعيشية، وتساقط لحاميات الجيش بيد متمردي جنوب السودان حينها، وإصدار قادة الجيش لمذكرتهم الشهيرة فبراير ١٩٨٩م.
لقد حذت الجبهة الإسلامية حذو غريمها الحزب الشيوعي السوداني، ونفذت بكوادرها داخل الجيش انقلاباً عسكرياً أبيض بقيادة العميد "عمر حسن أحمد البشير"، اتخذ من ثورة الإنقاذ الوطني اسماً له، وحكمت ثورة الإنقاذ بكوادرها من الإسلاميين مدة عشر سنوات، قبل أن تقع المفاصلة بين الإسلاميين، حيث برز فريقا القصر والمنشية، أو البشير والترابي، أو المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، في ثناٸية أعادت للأذهان الأزمة السياسية السودانية.
أكمل فريق القصر الحكم لبقية حقبة الإنقاذ لعشرين عاماً، مستعيناً ببعض الأحزاب الصغيرة منها والكبيرة، حتى هبّت عليها رياح الثورة الشعبية الثالثة فأطاحت بالحكومة العسكرية الثالثة التي كانت قد أسقطت بدورها الحكومة الحزبية الثالثة، وتشكلت علی إثرها الحكومة الانتقالية الثالثة برٸاسة "عبد الله حمدوك"، بعد اتفاق المكون العسكري مع المكون المدني، وهي ثناٸية جديدة أيضاً لم يكتب لها النجاح في ظل تنافر الأجسام التي يتكون منها المكون المدتي.
ثم أجری قاٸد الجيش عبد الفتاح البرهان بمساندة قاٸد الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي"، هذا الثناٸي الذی ظلَّ متماسكاً علی مدی الثلاث سنوات الماضية بالحكم، قبل أن يبرز إلی العلن الخلاف بينهما، ولم تجدِ محاولات الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة – الاتحاد الإفريقی – الإيجاد) نفعاً في رتق الفتق المتسع يوماً بعد يوم، ومدی الفترة الانتقالية الذي يتطاول عاماً إثر عام.
ختاماً.. عاصمة السودان المثلثة الواقعة بين الثناٸي النيل الأبيض، والنيل الأزرق، تتوزع بين الثناٸي المكون العسكري والمكون المدني، والمكون المدني الثناٸي، يتشظی بين قوی الحرية والتغيير، واتحاد المهنيين، والمكون العسكري ينقسم بين الجيش والدعم السريع، أو بين الثناٸي البرهان وحميدتي، والساحة مليٸة بالمتناقضات، وقد دخلت الحركات المسلحة علی الخط.
فالليالي من الزمان حُبلی يلدن كل غريب، والتشاكس سمة المرحلة، وقد بدا السودان كرجل فيه شركاء متشاكسون، وليس رجلاً سلماً لرجل، وما أسهل القول بأن الحل يكمن في الإبقاء علی القوتين الجيش والدعم السريع في منظومة أمنية وعسكرية واحدة، بعد دمج قوات الدعم السريع في الجيش، منعاً للازدواج.
وأن يخرج الثناٸي "البرهان وحميدتي" من المشهد طوعاً، حتی لا يقع ما لا يُحمد عقباه، لا سمح الله، وأن تضطلع حكومة انتقالية مدنية بمهام إجراء انتخابات عامة تضع حداً لجدلية من يحكم السودان أم كيف يُحكم السودان، لتخرج البلاد نهاٸياً من الحلقة الشيطانية الثلاثية "حكومة حزبية، انقلاب عسكري، حكومة انتقالية"، وبينها ثورة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.