لطالما شُغلت بتقصِّي سِير الأسر الحاكمة عقب انتزاعها من العرش، تلك اللحظة التي يختلف بعدها كل شيء للأبد، ليس في حياة فرد أو اثنين، لكن في حياة عائلة بأسرها.
فبعد أن تنعّمتْ بالحُكم، ونامت في القصر، واعتلت العروش، وأرهبت الناس بالصوالج باتت فقيرة بلا حولٍ ولا قوة، مُطارَدة من قِبَل الجميع، يخاف الناس من مجرد لقائهم خوفاً من إغضاب الحُكّام الجدد.
لم يكن العباسيون بمعزلٍ عن ذلك المصير المؤسف؛ فبعدما اعتلوا سُدة خلافة المسلمين لقرونٍ طويلة أطاح بهم المغول من على العرش، ليُطاردوا في كل مكان باعتبارهم فئة مغضوباً عليها ينبغي وأدها.
تبعثر هؤلاء الفارون في أنحاء العالم الإسلامي؛ بعضهم سافر إلى مصر، وآخرون لجأوا إلى الجزيرة العربية أو بعض بلاد الخليج، وقِلة منهم نجحت في تأسيس إمارات حاكمة طمعوا أن تتسع رقعتها يوماً، لتشمل المزيد من الأراضي، وتستعيد المجد العباسي القديم.
أبرز تلك المحاولات هي "إمارة بستك" العباسية التي ظهرت على ما نعتبره اليوم أراضي إيرانية، ومثّلت أنجح تجارب العباسيين في الحُكم خلال مرحلة ما بعد السقوط، بعدما استمرّت صامدة ضد تقلبات الدهر قرابة 3 قرون.
فما قصة تلك الإمارة العباسية؟ كيف نشأت وكيف انهارت؟
الهروب من بغداد
بدأ أول فصول الحكاية في لحظة اقتحام المغول لبغداد؛ يحكي حسني العباسي في كتابه "الأساس في أنساب بني العباس"، أنه عندما هاجم التتار بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، وقتلوا المستعصم بالله، آخر الخلفاء العباسيين فرَّ كثيرٌ من العباسيين من العراق للنجاة بحياتهم، اتجه أغلبهم نحو الجزيرة العربية وجنوب فارس، حيث بقيت تلك المناطق آمنة وبعيدة عن خطر المغول.
أحد هؤلاء كان إسماعيل بن هارون، الذي ينحدر نسبه من أبي جعفر المنصور، الخليفة المؤسِّس للدولة العباسية، ورجلها القوي على مدار تاريخها. استقرَّ إسماعيل مع أهله العباسيين في قرية "خنج"، التي تقع جنوب فارس، ومنها انتقلوا إلى قرية "ديدبان"، حتى استقرَّ بهم الحال في قرية "بستك"، وهي منطقة تحيط بها الجبال الشاهقة من كافة النواحي.
إجلال وتكريم في كل مكان
بطبيعة الحال حظي العباسيون بالتكريم والإجلال من الناس أينما ذهبوا، فخلال بقائهم في "خنج" توافد عليهم الناس لنيل الفتاوى منهم والفصل في المنازعات بينهم، كما أسّس العباسيون مدارس صغيرة لتعليم الناس الفقه، أشهرها مدرسة الشيخ عبد السلام بن العباس، وهو الجد الأكبر لسلالة العباسيين التي أسّست إمارة "بستك".
عقب وفاة الشيخ عبد السلام خلفه ابنه محمد، الشهير بـ"أبي نجم"، والذي سار على ذات الدرب فأدار مدرسة أبيه وأعطى للناس دروساً فقهية عِدة حتى نال شهر كبيرة بين الناس، وأُطلق على ذريته "آل نجم"، كما سُمّيت القرية الصغيرة التي عاش فيها بـ"أبي نجمي".
تأسيس الإمارة العباسية
عام 1670م، أسّس الأمير عبد القادر بن الحسن إمارة بستك، بعدما بايعه شيوخ القبائل العربية المنتشرة في تلك البقاع على السمع والطاعة. اعتبر الشيوخ العرب أن تلك الإمارة العباسية السُّنية ستحميهم من أطماع العملاق الفارسي المجاور، الذي فرض حكّامه الصفويون مذهب التشيُّع عنوة على أهل إيران السُّنة.
سريعاً امتدَّ نفوذ إمارة بستك في منطقة الأحواز والضفة الإيرانية للخليج العربي. تولّى حُكمها 11 أميراً، واستمرّت حتى عام 1967م، حين قضى عليها شاه إيران محمد رضا بهلوي.
وبرغم حصانة موقع إقليم بستك فإنه كان بؤرة توتر ملتهبة بشكلٍ دوري، فالتحدي الأبرز لتلك الإمارة الصغيرة الذي زاملها طيلة فترة إقامتها- وقضى عليها لاحقاً- هو وقوعها على خط التماس مع إمبراطورية شيعية كبرى هي الدولة الصفوية. بطبيعة الحال لم يشعر الصفويون بارتياح تجاه إمارة سُنية يؤسسها أحفاد آل البيت على حدودهم، فلعل نفس أحدهم تنازعه يوماً لاستعادة مُلك أجداده، ويخطط لإخضاع إقليم فارس لسُلطته.
لذا لم يكفّ الصفويون عن مناوشة الإمارة البسكتية عبر فرض الضرائب عليها ومحاولة إخضاع حكامها، وهو ما دفع أحد أمرائها- الشيخ محمد بن سعيد- (1724-1739) إلى إعلان الثورة على عامل الفرس في الإقليم، فاستنفر رجاله وتقاتل الجمعان في معركة انهزم فيها العامل الصفوي، ما منحه المزيد من النفوذ والقوة.
كان الأمير العباسي محمد بن سعيد فطناً للتغيرات السياسة التي تجري من حوله، وعقب نجاح ثورته استغلَّ نجاح عائلة "هوتاكي" الأفغانية في التمرُّد على الصفويين. لم يكتف الأفغان بطرد الصفويين من بلادهم، بل غزوا جزءاً من مناطق الفرس، وأخضعوا أصفهان لسيطرتهم عام 1922.
على الفور، راسل الأمير محمد الأفغان، وأعلن ولاءه لهم، مستغلاً الصراع بين القوى في منطقته للحفاظ على إمارته. للأسف انهارت الدولة الأفغانية سريعاً على وقع حملات القائد الصفوي نادر شاه، الذي جدّد شباب الإمبراطورية الفارسية وبسط سيطرتها على كافة المناطق المجاورة، بفضل عبقريته الحربية التي باتت مضرباً للأمثال.
على إثر هذا النجاح المتنامي، اضطرت الإمارة العباسية لمهادنة الدولة الصوفية، فسارع أميرها محمد خان بزيارة نادر شاه، وقدّم له التهنئة على انتصاراته الأخيرة.
عقب وفاة نادر شاه عاشت المنطقة اضطراباً كبيراً، أثّر بطبيعة الحال على الإمارة الصغيرة، التي حاول حكامها استغلال تلك الأوضاع لتوسيع رقعة نفوذهم، وإعلان استقلالهم، والتحرّر من التبعية لأي قوة في المنطقة.
النهاية
انقلبت الأوضاع رأساً على عقب عام 1925م، بعدما انقلب رئيس الوزراء رضا شاه البهلوي على أحمد ميرزا القاجاري، آخر ملوك إيران من الأسرة القاجارية.
سعى الشاه الجديد للسير عكس خُطى سلفه، الذي اتبع سياسات تصالحية في علاقات دولته الخارجية مع العالم، أعاد بهلوي الاتفاق على المعاهدات الدولية التي سبق توقيعها مع الاتحاد السوفييتي وبريطانيا، كما سعى لفرض سيطرته على كل ما اعتبره أراضي فارسية يجب أن تخضع لسُلطة طهران؛ في عام 1925م ضمّ إمارة بني كعب العربية في الأحواز إلى دولته، وبعدها أتى الدور على إمارة العباسيين.
لم يشأ الشاه أن يدخل في صدام مع البستكيين، فاتفقا على حلٍّ وسط، تُصبح بموجبه الإمارة ضمن حدود الدولة الإيرانية، تُعرف بِاسم "مقاطعة بندر عباس"، على أن يبقى العباسيون حكاماً إداريين لها، بشرط أن يُعيّنوا عليها بأمرٍ من طهران.
ضمن هذا الاتفاق سيطرة الإيرانيين على "بستك" على المدى الطويل، فحرصت طهران على زيادة صلاحياتها المركزية على حساب ولاتها في الإقليم، ما أدى إلى تقليص دورهم ونفوذهم تدريجياً حتى تلاشى من تلقاء ذاته، وكان آخر مُحافظ بستكي تولّى قيادة البلاد هو محمد أعظم خان العباسي.
تُوفي محمد أعظم خان عام 1967م، وبعدها لم يُعيّن عباسياً على قيادة الإقليم، لذا يعتبر الكثيرون أنه عام انتهاء الإمارة العباسية، لكنّي أخالفهم الرأي في ذلك، إذ أعتبر أنها انتهت فعلياً منذ خضوعها لسيطرة الشاه، وقبول قادتها بأن يكونوا مندوبين عنه، وهو ما أدّى للقضاء على دولتهم في نهاية المطاف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.