بداية لا بد منها..
حدث ذلك في أغسطس من عام 2021، بعد أيام من أول ابتسامة على وجهه بقميص الأرجنتين، حينما حقق ميسي كوبا أمريكا في أرض البرازيل وأمام البرازيل، وهذه المرة كان يتمنى أن يعود إلى برشلونة ممسكاً في يده أول شهادة ميلاد رسمية مُعترف بها، بخصوص كونه أرجنتينياً فعلاً!
كانت فكرة ميسي هي تلك، تلك التي زرعها خوان لابورتا في رأسه وفي رأس كل أنصار النادي منذ أول دقيقة في حملته الانتخابية؛ أن لابورتا سيُنفق كل ما يملك للحفاظ على أسطورة الفريق، الذي ينتهي عقده بالفعل في صيف 2021 وسيصبح لاعباً حراً حينها.
ولأول مرة في مسيرته، ظهر ميسي الخجول في انتخابات رئاسية لنادي برشلونة، وأصبح لصوته قيمة، وهذا الصوت بالتأكيد ذهب إلى خوان لابورتا، وهو نفس الرجل الذي منع رحيله في عام 2006 بالذات.
ففي عام 2006، كان نادي إنتر ميلان الإيطالي على استعداد لدفع قيمة كسر عقد الصبي الأرجنتيني ليونيل ميسي، والتي كانت تُقدر بحوالي 150 مليوناً، ثم ارتفعت لتصل إلى 250 مليوناً.
وقتها، كان خورخي ميسي، والده، يتشاور مع لابورتا ويطلب نصيحته كأب، وطمأنه لابورتا بأنه لن يجلس على طاولة التفاوض أبداً، وأنه لا يُفكر حتى في الاستماع إلى أي عرض مهما كانت قيمته، وأن ميسي هو مستقبل برشلونة.
بعد 15عاماً، الموهوب الذي تحدث عنه لابورتا مع خورخي كان في حالة شك، وحضر، ولأول مرة، المؤتمر الرسمي لإعلان خوان لابورتا رئيساً لبرشلونة، وفي المؤتمر نفسه أكد الرئيس له: "أنت تعرف أني أحبك، البارسا تحبك، لو كانت الملاعب ممتلئة لَما كنت ستقرر الرحيل، لكنني سأبذل قصارى جهدي لإقناعك" .
وابتسم ميسي من روعة ما قيل، لكنه ربما لم يتخيل أن الأمر أبعد من ذلك بكثير.
يتذكر كل مشجعي برشلونة حول العالم يوم الخامس من أغسطس عام 2021، لا، لم يفز برشلونة حينها ببطولة مهمة، بل خسر السبب الرئيسي الذي كان يقوده دائماً إليها.
إنها الصورة التي لا تُفارق أذهانهم، والإعلان المفاجئ بأن ليونيل ميسي لن يستمر في ناديه برشلونة بعد الآن، وأن رحلته الطويلة قد توقفت عند هذه المحطة.
شعر ميسي بأنه تعرَّض للخيانة من الشخص الذي صدَّقه ووثق به؛ خوان لابورتا.
وربما نفهم الآن لماذا تحدَّث شقيقه، ماتياس ميسي، بهذا السوء عن لابورتا وإداراته، وقال ما قال، لكنه أكد على أن ميسي لن يعود أبداً إلى برشلونة ما دام لابورتا فيها.
وعلى الأرجح لن يعود ميسي أبداً، ومن الواضح أيضاً أن فكرة تتويج برشلونة بلقب دوري أبطال أوروبا من جديد قد رافقت ميسي في حقيبته المتجهة خارج مدينة برشلونة.
خسر ميسي حب الجماهير، لكن برشلونة خسر ميسي
لم يعد الأمر سراً في برشلونة، على مدار تاريخه كان برشلونة عبارة عن نادٍ يحاول بشتى الطرق إدراج أشياء خارجية لكرة القدم، مثل السياسة مثلاً.
بالتبعية، تحول الفريق إلى عناصر يتم الدفاع عنها مهما فعلت، وعناصر يتم التفريط فيها بسهولة، وكان هناك ميسي، الرجل الذي لا هو إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
لأنه كان أكبر من صحافة ومديري النادي، ولأنه وضع اسم برشلونة على الخريطة الأوروبية.
الرجل الذي لم يهتم إطلاقاً بمن يلعب بجواره في برشلونة، لقد كان تشافي وإنييستا لبرشلونة حتى بعد رحيلهما، وكان كذلك هو نفس الرجل الذي يعالج سوء كل صفقة فاشلة تأتي للفريق، وهو نفسه من كان يحسم مباريات عادية؛ كان الناس يظنون أنها عادية!
في باريس، تشعر أن ميسي ليس على ما يُرام، وقد يكون الأمر طبيعياً؛ لأنه تربى وعاش أكثر من نصف عمره في برشلونة، وأحبته جماهير الكامب نو، وهتفت باسمه في أفضل فتراته وأسوأها.
لكن برشلونة هو مَن تضرر أكثر، رحل ميسي في 2021، ولم يفز الفريق ببطولات أبداً سوى في عام 2023، خسر لقب الليغا والكأس والسوبر، وربما كانت تلك الألقاب مقبولة نوعاً ما.
لكنه أبداً لم يُغادر دوري أبطال أوروبا من دور المجموعات منذ موسم 2004، وهو الموسم نفسه الذي ظهر ميسي فيه مع الفريق الأول، وبعد أن رحل صوب باريس خرج برشلونة من دوري أبطال أوروبا مرتين متتاليتين، ومن دور المجموعات تحديداً.
نعم، على الجهة المقابلة خرج ميسي من دوري الأبطال من ثُمن النهائي مرة على يد ريال مدريد، بعد ريمونتادا تاريخية للإسبان، وها هو على أعتاب خروج جديد من الدور نفسه، وهذه المرة على يد بايرن ميونيخ الألماني.
لكن يبدو أن برشلونة يفتقد ميسي أكثر مما يفتقد ميسي برشلونة، أنفق برشلونة في الصيف الماضي وابتكر فكرة الرافعات الاقتصادية، ولم يهتدِ بعد إلى الطريق الذي أنفق من أجله ما أنفق.
يعتبر مشجعوه أن نكسة الموسم الحالي أكثر مراراةً من الموسم الماضي؛ لأن الفريق خذلهم وأنهى أهم بطولة في الموسم من بدايته، تحديداً في أكتوبر، وهو أمر كان يستحق الوقوف عنده كثيراً.
وما زاد الطين بلة أن الفريق في الموسمين، حينما هبط إلى بطولة اليوروباليغ لم يفز بها أيضاً، وهي البطولة الأقل شأناً، والتي كان يعتبرها فريق مثل إشبيلية في المتناول، ولسنوات متتالية كان يُحققها مهما بلغت قوة خصومه.
وبقيادة تشافي، خسر برشلونة من فرانكفورت على ملعب الكامب نو، فودع المسابقة من ربع النهائي، وخسر من مانشستر يونايتد في ملعب الأولدترافورد، فودع المسابقة من ثمن النهائي!
وربما يُعارض البعض هذه الفكرة، بحجة أن برشلونة مع ميسي تلقى ثمانية البايرن، وخرج مرتين بريمونتادا من روما وليفربول على الترتيب.
لكن أحداً لا يُقدر، أن في فترة من الفترات كانت أهداف ميسي الأوروبية تتصدر قائمة الأهداف المُسجلة لصالح برشلونة، والكارثة كانت في المركز الثاني. الذي كان الأهداف العكسية للفرق في مرماها، ثم يأتي لويس سواريز ثالثاً، وهو أيضاً الذي عانى وحقق رقماً كارثياً بعدم تسجيله خارج الأرض مع برشلونة لأكثر من أربع سنوات كاملة في بطولة دوري أبطال أوروبا!
أي أن كل ما فعله ميسي أنه حاول بقدر الإمكان مزاحمة كبار القارة ووضع برشلونة بينهم، ثم إذا حدثت مواجهة وسعى ما استطاع لإحداث المعجزة، أتته الحقيقة بأن البطولات الأوروبية لا تُكسب بالفرديات أبداً.
لا يمكن أن تنتهي القصة هكذا!
"لم أكن أتخيل أن يتم الوداع بهذه الطريقة، كنت أتمنى أن أكون معهم، هناك، أن أسمع آخر تصفيق، أشعر بهذا التأثير، نحتفل بهدف معاً، لقد افتقدتهم لمدة سنة ونصف، وسأرحل دون أن أراهم، تخيلت أنني سأرحل بملعب ممتلئ وأقول وداعاً بأفضل صورة ممكنة للكامب نو".
– ميسي في مؤتمر وداعه
رغم أنه قد حقق ما أراد في نهاية مسيرته، وأصبح أرجنتينياً باعتراف رسمي أمام العالم كله؛ فإن قصة ميسي مع برشلونة لا تليق بها هذه النهاية أبداً، لا يليق برجل أسهم في ثلث ألقاب برشلونة تاريخياً أن يخرج عبر مؤتمر وداعي باهت كالذي حدث معه.
الإرث الحقيقي الذي تركه ميسي في برشلونة ليس الأهداف، بل ما يجعل الناس يدركون قيمته ولو بعد سنوات، وهو ما يبدو على جماهير الكامب نو ومشجعي الفريق في كل مكان في العالم.
تجدهم يبحثون عنه، عبر كل كرة ليُنقذهم، ويُحاول تحسين الحالة المزاجية لهم، وأيضاً أن يُمسك عصاه السحرية ويُغير ما حدث خلال السنتين الأخيرتين بعد رحيله كما عهدناه!
هبط الفريق مرتين للدوري الأوروبي بعد رحيله، وخرج في المرتين أيضاً، وهو الشيء الذي يُوضح كيف خدع هذا الرجل جمهوره، بإقناعه بسهولة منافسة كبار القارة في دوري أبطال أوروبا.
وكان يدفع الفريق لمراحل متقدمة، ثم يصطدما معاً بحقيقة منطقية؛ حقيقة أن الكرة لعبة جماعية، والفرق المتطورة تنتصر لا محالة!
أي شيء سيئ حدث أو سيحدث لبرشلونة كان وجود ميسي يؤخر حدوثه بالفعل، وهي الضريبة التي لا بد من أن يدفعها لابورتا، حتى قبل جمهور برشلونة.
وليس لأنه ميسي بالتحديد، بل لأن برشلونة لم يستطع أبداً أن يستغل وجوده بأفضل صورة ممكنة، وقرار رحيله كان من الضروري أن تكون له ضريبة، والضريبة ستكون باهظة، وسيعرف الناس فيما بعد أي رجل كان هذا الرجل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.