ما زلت أذكر مختلف المنشورات التي امتلأت بها وسائل الإعلام لنساء عديدات يشاركن قصصهن مع العنف بكل أشكاله وصنيع المجتمع الذكوري، ضمن ما سمي بحركة "أنا أيضاً".
كان المنتظر منا أن نصدق ونقدم الدعم الكامل واللامشروط لضحايا العنف والنظام الأبوي، وقد وجدت الكثير من الناجيات لحسن الحظ في مختلف المنظمات المدافعة عن حقوق النساء وفي مؤسسات المجتمع المدني المأوى الآمن والملجأ الحصين من التعنيف الذي كنّ يخضعن له.
لكن بالمقابل وجدت العديد من النساء أنفسهن في مواجهة وابل من الشتائم والاتهامات وحملات التكذيب والتشهير، حتى إن عدداً من ضحايا الاغتصاب أصبحن مصدراً للسخرية والتهكم الإعلامي اللاذع، ما يذكرنا أننا لا نزال نعيش في مجتمعات متمسكة برجعيتها ومتصالحة مع تعصبها الأعمى وجهلها المظلم.
تلقت الناجيات خبر تخفيف أحكام جرائم الاغتصاب في المغرب بكثير من الأسى واليأس، كان ذلك أسوأ أشكال الخذلان التي قد تعيشها ناجية وضحية اعتداء جنسي.
أثارت قضية الطفلة مريم موجة من الغضب الجماهيري التي تجلت على شاكلة تعليقات غاضبة منددة بالواقعة، واحتجاجات تستنكر التجريم القاطع للإجهاض في القانون المغربي، بغض النظر عن ظروف الضحية. كانت عملية إجهاض سرية قد أودت بحياة القاصر، وهي تبلغ من العمر 14 عاماً، وقد أبانت لنا هذه الفاجعة عن كون ثقافة الاغتصاب ولوم الضحية سائدة في مجتمعاتنا العربية عامة والمغربية خاصة.
ينص "الفصل 486" من القانون الجنائي المغربي، على أن كل مواقعة رجل لامرأة دون رضاها تعد اغتصاباً، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي بالسجن من خمس إلى عشر سنوات.
وقد أشار عديد من الحقوقيين إلى أن الغموض الذي يلف صيغة هذا القانون، إضافة إلى عدم الإشارة إلى الذكور من ضحايا الاغتصاب في هذا النص، يعد قصوراً جلياً في القانون الجنائي المغربي، الذي يفترض به أن يكون عنصراً رئيسياً في عملية ردع الجريمة. زد على ذلك أن الأعمال التحضيرية أو المسهلة للاعتداء الجنسي نادراً ما تؤخذ بعين الاعتبار أو ما يعاقب مرتكبها الذي يعد شريكاً في الجريمة. كما أنه ما من نص قانوني يحرم الاغتصاب الزوجي، بل يجتمع الفهم والتأويل الخاطئ للنصوص الشرعية مع الجهل والأعراف الاجتماعية، ليخلق لنا اعتداءات جنسية تحت مظلة الزواج، وزوجات يفضلن غض الطرف عن "أخطاء" أزواجهن التي هي في أصلها ممارسات شنيعة ينبغي تجريمها.
ولا يزال المغرب، منذ قرابة العقد من الزمن، يدرس إمكانية إلغاء زواج القاصرات وتجريمه بصفة قاطعة، الأمر الذي أتاح لآلاف الآباء- خاصة في القرى والمناطق النائية التي تفشى فيها الفقر وانخفضت نسبة الدارسين- تزويج بناتهم القاصرات، وبالتالي تعريضهن للعنف الجنسي منذ سن صغيرة.
وقد كان "الفصل 475" من القانون الجنائي المغربي الذي يعفي المغتصب من العقوبة الحبسية في حال تزوج بالضحية قد أثار غضباً عارماً في المجتمع المدني، قبل أن يتم إلغاؤه بعد فاجعة انتحار القاصر أمينة الفيلالي التي تم تزويجها بمغتصبها.
إن مناقشة قضايا الاعتداء الجنسي لا تكتمل إلا بالتطرق للجانب الإعلامي والاجتماعي منها، فالإعلام يُسهم أيضاً في تعزيز مغالطات راسخة حول هذا الصنف من الجنايات، إذ إن الرواية الإعلامية السائدة في العالم العربي حول الاغتصاب تتبنى ظاهرة "الضحية المثالية"، وهو اعتقاد ضار حول ما يجب أن تبدو عليه الضحية من أجل اعتبارها مصدراً موثوقاً به والإنصات لها. يمكن أن تختلف فكرة "الكمال" اختلافاً جذرياً، من كيفية تقديم الضحية لنفسها في المحكمة إلى كيفية اختيار الإبلاغ عن الحادث، وقد تُغير هذه الحيثيات والظروف مجرى القضية والرأي العام حولها.
وقد شهدنا حروباً إعلامية عديدة خاضتها نساء ناجيات من علاقات سامة، تعرضن خلالها للاعتداء الجسدي والنفسي، وكثيرات هن اللاتي تمت شيطنتهن من قبل الإعلام، بسبب فكرة "الضحية المثالية"، التي تشترط من خلالها مجتمعات أزهرت فيها ثقافة الاغتصاب على الناجيات براءة وكمالاً، مقابل مساندة وتضامن شفهي لا يكاد يعني شيئاً في ظل مواجهة الضحايا لمساطر قانونية مستهترة بمآسي النساء وأحزانهن.
نحن إذن مجتمع يصدق الناجيات، ما دمن ضحايا مثاليات عاجزات عن الدفاع عن أنفسهن أمام عنف النظام البطريركي.
وإذا كانت وسائل الإعلام قادرة على قلب الموازين، وإلقاء اللوم على الضحية وتحميلها مسؤولية العمل الإجرامي الذي تعرضت له، فذلك لأن لمجتمعاتنا استعداداً شبه فطري لتقبّل روايات تكون فيها النساء كاذبات ومفتريات، ويكون فيها الرجال أبرياء، بل وضحايا لحملة تشهير شرسة. لا تتعاطف مجتمعاتنا البطريركية إلا مع جثث النساء، حتى وهي ترمي بهن إلى أحضان المغتصبين والمجرمين بصمتها المتواطئ، ويكون من الواضح أن هذا التعاطف ليس سوى مظهر من مظاهر البر الذاتي، والتعالي الشكلي عن أعراف اجتماعية دنيئة، دون أن ينشأ عن هذا التعاطف عمل حقوقي ملموس على أرض الواقع، يُبتغى منه مساندة الضحية، لا لأغراض سياسية أو شخصية، ثم إن الصحافة الصفراء في المغرب لم تدخر جهداً خلال السنوات الأخيرة في تناول موضوع حساس كهذا بشكل مهين للضحايا، فنرى عدداً من المنصات الإعلامية المأجورة تنتهك خصوصية الناجيات بتغطيتها لقضايا لا تزال عالقة في المحاكم الجنائية، دون الأخذ الاعتبار للأطراف المتضررة وبأسلوب دنيء وغير مهني، لا يرقى لمستوى الصحافة، فهذه المنصات المحتالة تضع إثارة الرأي العام وإشاعة الفضائح نصب أعينها، بدل التحلي بأخلاقيات المهنة واحترام الناجيات وضحايا النظام الأبوي ولو بالصمت.
وما زاد الطين بلة في السنوات الأخيرة هو استخدام النظام المغربي لتهم جنسية بغرض تكميم أفواه الصحفيين والنشطاء الحقوقيين، وهو الأمر الذي أثار ضجة في الساحة السياسية الدولية، إذ نشرت صحيفة "واشنطن بوست" منذ أكثر من سنتين مقال رأي بعنوان "يجب على المغرب الكف عن استخدام مزاعم الاعتداء الجنسي لإسكات أصوات المعارضة"، حيث استنكرت من خلاله الصحفية عفاف برناني تهم الاعتداء الجنسي التي تم إسقاطها على كل من الصحفيين سليمان الريسوني وعمر الراضي، كعقاب لهما على نشاطهما السياسي، باعتبارهما من أبرز أصوات المعارضة في الصحافة المغربية المستقلة. تخدم هذه الاتهامات مصالح سياسية محضة، وبالتالي يتمخض عن تضارب الأقوال والمصالح ضياع الحقيقة، وبالتالي ضياع العدالة هي الأخرى.
أرى شخصياً أن الحل الذي ينبغي تكريسه في سياق هذه المعضلة الاجتماعية يتعدى مجرد إلغاء قوانين أو تعديلها، إلى إلغاء عقليات وممارسات، فإن ثقافة الاغتصاب تبدأ من الشارع العام، حيث تتعرض النساء والفتيات للتحرش اللفظي الذي قد يتحول إلى اعتداء جنسي، ومن الأسر التي تلقن فتياتها أن مفهوم الشرف يختزل في غشاء البكارة، ومن القانون الجنائي الذي يكتفي بعقاب المغتصب دون أن يتكلف بحماية الضحية، ومن مقاعد الدراسة التي يتعلم فيها الأطفال الذكور ثقافة اللامساواة والعنف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.