عندما هجم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا قبل عامٍ من الآن، ظهرت العديد من النظريات لتفسير خطوته غير المنطقية. إذ قال البعض إنه مصاب بالسرطان العضال. بينما قال آخرون إنه فقد اتصاله بالواقع بعد قضاء عامين في العزلة الاختيارية، إبان جائحة كوفيد-19، وربما تسببت الأنفاق والطاولات البيضاء الطويلة في ذهاب عقله. في ما قال آخرون إنه قد يكون مجرد إنسانٍ سوفييتي يحاول الانتقام، بصفته رجلاً يعتقد أن انهيار الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الحالي.
لكن الغالبية لم يهتموا بقراءة الكتب التي ملأ بوتين عقله بها، أو حتى قراءة خطاباته. ولم يكترث أحد بالنظر إلى الفترة التي ظهر خلالها بوتين في روسيا، لأن ذلك الأمر كان سيوجه أصابع الاتهام في الاتجاه الخاطئ.
إذ كان قرار الهجوم على أوكرانيا أكثر من مجرد رد فعلٍ على توسع حلف الناتو شرقاً، أو رداً على فكرة كون روسيا محاطةً بالقوى المعادية.
حيث جاءت نهضة الحركة القومية والدينية الروسية؛ لتسترد المكانة التي تظن روسيا أنها تخصها، وذلك كنتيجةٍ مباشرة لفشل محاولة تغريب روسيا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
ويُمكن القول إن عقيدة "التدمير الإبداعي" الغربية للدول قد جرت تجربتها للمرة الأولى في روسيا، قبل تطبيقها في أفغانستان والعراق. ولهذا يُعَدُّ بوتين بمثابة رد فعلٍ على محاولة "التدمير الإبداعي" لروسيا.
شخصية معروفةٌ للجميع
لا شك أن الرجل الذي سبّب العام الماضي أكبر صدمةٍ في تاريخ الأمن الأوروبي -منذ زحف هتلر على راينلاند- هو شخصية يعرفها الجميع.
إذ لم يكُن بوتين حديث العهد بالساحة الدولية. بل يحق له التفاخر بكونه أطول زعيمٍ على قيد الحياة لدولةٍ نووية في الواقع. ويعرفه العديد من القادة الغربيين تمام المعرفة، ومنهم سيلفيو برلسكوني وغيرهارد شرودر وجورج بوش الابن وتوني بلير وأنغيلا ميركل، على سبيل المثال لا الحصر.
وسيخبرك أي شخص التقى بوتين بأنه امتلك أكثر من شخصيةٍ واحدة على مدار حياته. ومن المؤكد أن صعوده إلى السلطة اعتمد على تجربة التبديل بين تلك الشخصيات، تماماً كما يفعل المرء عند تجربة مجموعة جديدة من الملابس.
فأثناء فترة إعادة الهيكلة (البيريسترويكا)، كان بوتين من ضباط الرتبة الثانية المخلصين في الاستخبارات السوفييتية (الكي جي بي)، وتركزت جهوده على المجالات الاستخباراتية في منطقة معزولة من ألمانيا الشرقية. وخلال تلك الأيام، كانت منطقة آسيا الوسطى هي الجبهة الأمامية لجهود الاستخبارات السوفييتية.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، حوّل بوتين اتجاهه إلى العمل الخاص. إذ ربط حظوظه بأحد منظري العلاج بالصدمة، وهو عمدة سانت بطرسبرغ أناتولي سوبتشاك. وكان سوبتشاك ذكياً وخبيراً اقتصادياً يعيش حياةً خاصةً مخزية. لهذا كان بحاجةٍ إلى مُنظِّم. وقد وجد ضالته في بوتين الهادئ، والرصين، والمطيع، والذي يتحدث الألمانية. وسرعان ما أصبح بوتين نائباً للعمدة.
وتعامل بوتين بصورةٍ طبيعيةٍ تماماً مع فكرة بيع كل شيء يمكنه أن يضع يده عليه، لدرجة أنه كاد يسقط بسبب فضيحةٍ مألوفةٍ للغاية خلال تلك الفترة. ففي عام 1992، خضع بوتين للتحقيق بسبب صفقة طعام مقابل الوقود بقيمة 100 مليون دولار. حيث أُرسِلَت المواد الخام بالفعل، لكن مواطني بطرسبرغ لم يحصلوا على طعامهم مطلقاً.
وجرى تكليف مارينا سالي بإدارة تحقيق مجلس المدينة في تلك الصفقة. وقالت مارينا لوحدة تحقيقات الجزيرة عام 2012: "لقد شُحِنَت المواد الخام إلى خارج البلاد، لكن الطعام لم يصل في المقابل. وهناك ما يُثبت أن بوتين هو المسؤول بنسبة 100%. ونتيجةً لذلك، أصبحت المدينة لا تملك أي شيء، بعد أن نفد طعامها بالكامل في عام 1992. ولديّ أدلة قوية على ذلك. كما اكتشفنا أن بوتين -أو لجنته- أبرموا عقود مقايضةٍ من أجل الحصول على طعامٍ للمدينة. وأصدر تراخيص بذلك. وبهذا كانت السلع -مثل الخشب والمعادن والقطن وزيت التسخين والنفط- تطير إلى خارج البلاد".
وبعد أسابيع من المقابلة التي أجرتها، تُوفيت مارينا "لأسباب طبيعية"، كما حدث مع غيرها من المبلغين عن الانتهاكات في السابق.
وكان نجاح بوتين في سانت بطرسبرغ سبباً في لفت أنظار الكرملين إليه. إذ كان بوريس يلتسن، الرئيس الروسي الذي حلمت به أمريكا، قد بدأ يفشل. حيث كان مخموراً، ومكتئباً، وحاول الانتحار في إحدى المناسبات. بينما بدأ أفراد الأوليغارشية في تولّي الحكم، وبدأت المعارك تندلع في ما بينهم.
انتقال خامٌ للسلطة
هنا ظهر بوتين، الرجل الذي يستطيع إنجاز الأعمال.
لكن يجب أن ننتبه هنا إلى أن بوتين لم يصعد إلى السلطة على ظهر الاستخبارات السوفييتية المنحلة، أو نُخَب "المديرين الحمر" الشيوعيين السابقين الذين أداروا الصناعة، أو حتى عبر الحزب الشيوعي نفسه. بل صعد بوتين إلى السلطة من خلال العائلة، وهي الحاشية الفاسدة والمدعومة من الغرب للرئيس يلتسن، الذي دشّن دولة المافيا الروسية.
وتعلّم بوتين درساً واحداً من مواجهته مع الموت السياسي في سانت بطرسبرغ، وهو ألا يثق في أي وسيطٍ ثانيةً. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، بدأ يرتب كل صفقاته التجارية بنفسه. وجاء صعوده داخل الكرملين سريعاً. وبمجرد اختيار بوتين كرئيسٍ لوزراء يلتسن، كان عليه أن يتحرك بسرعة.
فأخذ بوتين حقيبة مليئةً بالأسرار التجارية لأفراد الأوليغارشية، وانطلق في مهمةٍ لابتزازهم. وأذعن الجميع لبوتين باستثناء ميخائيل خودوركوفسكي، الذي انتهى به المطاف في السجن ثم المنفى.
وأقل ما يُقال عن عملية انتقال السلطة هو أنها كانت غليظة. إذ صنع بوتين حينها جيله الخاص من نخب بويار الأرستقراطية. وسمح لأفراد الأوليغارشية التابعين له بجني المال، ما داموا يُظهرون الولاء له. ووصل الأمر بأحد أفراد الأوليغارشية إلى إهداء قيصره الجديد بيضة فابرجي.
واكتسب بوتين خبراته الأولية بشن الحرب الشيشانية الثانية، التي كانت أكثر وحشيةً وقسوة من أي شيء فعله يلتسن في الشيشان عام 1994، وبفارقٍ كبير. ووصل الأمر ببوتين إلى اختلاق ذريعته الخاصة للحرب. حيث انفجرت 4 مجمعات سكنية في بويناكسك، وموسكو، وفولغودونسك لتودي بحياة 300 شخص، وتجرح أكثر من 1,000 شخص. وأُلِقَيَ باللوم وقتها على الإرهابيين الشيشانيين.
بينما كشف السكان في ريازان قنبلةً خامسة. واعتقلت الشرطة المحلية 3 من عملاء جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، الذين زرعوا تلك القنبلة، لكن تم الإفراج عنهم لاحقاً بعد أن قال مدير جهاز الأمن الفيدرالي نيكولاي باتروشيف إنهم كانوا يجرون تدريباً عملياً.
وكالعادة، سنجد أن أي شخصٍ حاول التحقيق في تفجيرات الشقق، قد انتهى به المطاف على سريرٍ في المشرحة.
الأيديولوجية البوتينية قبل ظهور بوتين
كان بوتين من الوافدين الجُدد على الساحة الروسية عام 1999، لكن البوتينية كانت حيةً تُرزق بالفعل آنذاك، وذلك بفضل التجربة الغربية التي كانت تتجه إلى الفشل الذريع.
وقد واجهتُ ذلك الأمر عندما كنت مراسلاً في موسكو، لأنني كنت معروفاً بانتقادي ليلتسن. ففي وقتٍ مبكر من عهد يلتسن، تلقيت اتصالاً من حارسه الشخصي السابق وجنرال الاستخبارات السوفييتية وذراعه اليمنى ألكساندر كورجاكوف. وطلب كورجاكوف مقابلتي.
فوجدت عند لقائي به أنني أجلس أمام الغضب الوطني القومي لأحد جنرالات الاستخبارات السوفييتية. إذ كان يشعر بأن الغرب يُقسّم روسيا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي، ويُؤلّب الحلفاء السابقين في جورجيا وأذربيجان وأوكرانيا ومولدوفا ضد موسكو، ليُفكك مخزونها من الأسلحة النووية تحت ستار التفتيش، ويجعل اقتصادها خاضعاً للمصالح الأمريكية، ويُحيّد جيشها الذي كان قوياً في يومٍ من الأيام.
وحدث ذلك قبل أن يسمع أي شخصٍ في روسيا اسم بوتين، لكنه كان يُعبِّر عن أفكار بئر الاستياء القومي نفسه الذي ينظر إلى يلتسن وغورباتشوف من قبله كخونة.
وخلال حديثه غير المخصص للنشر، وصف كورجاكوف بمرارةٍ عالماً يضر فيه حلف الناتو و"التعاون الأطلسي" بروسيا. وحمل حديثه انتقاداً ضمنياً لسيده الذي سلم أمريكا مخططات أسلاك الملحق الذي يُبنى داخل مجمع السفارة الأمريكية، كما سلمهم تصميم أحدث الدبابات الروسية.
وكان كورجاكوف وغيره من الأشخاص غاضبين بشدة حيال فكرة تقسيم أسطول البحر الأسود مع أوكرانيا، التي كانت قد حصلت على سيادتها للتو، ناهيك عن فقدان قاعدة غواصات في البحر الأسود.
التجربة الغربية الفاشلة
طبّقت الولايات المتحدة استراتيجية بناء الدول في أفغانستان والعراق، لكنها جربتها للمرة الأولى داخل روسيا خلال التسعينيات في الواقع.
إذ بدأت روسيا تتخلف عن سداد ديونها قبل سنوات من انهيار الروبل. وتساءلت صحيفة Washington Post الأمريكية آنذاك في سخرية: "من خسر روسيا؟"، حيث كان من الواضح أن تجربة التغريب السريعة قد فشلت. لكن لم يتضح وقتها ما سيحدث لاحقاً. بينما استغرق بوتين ثماني سنوات ليرتدي بدلة ملابسه الأخيرة.
حيث لعب بوتين في تلك الفترة دور الحليف المخلص. وأقنع الثنائي الساذج بوش وبلير بأن يضما المذبحة في الشيشان تحت عباءة حربهما على الإرهاب. ومن كان سيكترث مادام الضحايا من المسلمين، وبعضهم أعضاء في تنظيم القاعدة؟
وجاءت لحظة انفصاله عن الغرب في خطابٍ ناري ألقاه أمام مؤتمر الأمن في ميونيخ عام 2007. لكنه استغرق 4 سنوات أخرى بعدها حتى يتخذ القرار بفعل شيء حيال الأمر. ولم ينفجر غضب بوتين إلا بعد إقناع رئيس وزرائه آنذاك دميتري ميدفيديف بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مما مهّد الطريق أمام التدخل في ليبيا.
ويُمكن القول إن ازدواجية الولايات المتحدة المفترضة في ما يتعلق بسقوط معمر القذافي داخل ليبيا، هي التي أقنعت بوتين بالتدخل في سوريا بعدها بأربع سنوات. ومن وجهة نظر بوتين، كانت ثورات الربيع العربي أشبه بثورات ملونة من تنظيم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ومن النوع نفسه الذي سحب صربيا وأوكرانيا وجورجيا من فلك موسكو.
الفكرة الروسية
لكنَّ التدخلات الروسية في جورجيا وسوريا والقرم عام 2014 لم تكن الإشارات الوحيدة على الحركة القومية التي ستبلور غزو بوتين لأوكرانيا.
فكانت هناك أيضاً مصادر أهلانية وروحانية ودينية.
لم يكن أحد التأثيرات المبكرة على بوتين إلا البطل الغربي للمعارضين السوفييت ألكسندر سولجنيتسين. وكانت تعتبره مجلة The New York Times وشبكة BBC في ذروته أعظم كاتب روسي على قيد الحياة.
كانت عودة سولجنيتسين إلى الوطن الأم بعد سنوات من المنفى بولاية فيرمونت الأمريكية مسألة مثيرة. فصالة المطار البسيطة كانت ساحة متواضعة للغاية بالنسبة لأعظم ناجٍ من معسكرات الغولاغ، الرجل الحائز على جائزة نوبل والذي أُشيدَ به بسبب حياته وعمله، باعتباره "قوة أخلاقية".
وبعد 20 عاماً في المنفى، سافر سولجنيتسين إلى مدينة فلاديفوستوك. ثم استغرق 3 أشهر في رحلة بطيئة من أقصى البلاد إلى أقصاها، قبل أن يصل إلى محطة ياروسلافسكي في موسكو رفقة فريق تابع لشبكة BBC البريطانية. لم يستطع التعرُّف على روسيا التي عاد إليها، ولم يستغرق وقتاً في توضيح السبب.
فقال سولجينتسين للجمع الذي جاء لاستقباله في المحطة: "لم يتوقَّع أحد أن يكون توديع الشيوعية بلا ألم. تعيش روسيا في حالة انغماس في الفحش والانحلال الأخلاقي. … ونحن نُسلِّم أطفالنا العُزَّل لقوى الفحش الوقحة".
لم يقلها سولجنيتسين حينها. لكن ما كان يقصده هو الفحش الغربي الإلحادي. وقد مُنِحَ ألكسندر برنامج دردشة تلفزيوني، لكنَّه أُوقِفَ بعدما انحدر البرنامج، وتحول إلى أحاديث تنمُّرية طويلة.
لم يكن أحد في روسيا الجديدة يستمع. وكان جمهوره أكثر اكتراثاً بالعلامات التجارية الغربية التي تُفتَتَح في روسيا. فكانت Ikea وAuchan هما ما يستحوذ على انتباه الجمهور وليست "الأم روسيا". لكن كان لسولجنيتسين معجب واحد على الأقل في موسكو: فلاديمير بوتين. وكان اشمئزاز سولجنيتسين من الانحطاط الغربي الذي انحدرت إليه روسيا الجديدة يستهوي بوتين تماماً.
قال سولجنيتسين أيضاً في أكثر من مناسبة إنَّ أوكرانيا ليست موجودة. وقد ضمن بوتين أن يكون منزل سولجنيتسين الأخير هو بيت ريفي في غابة خاصة في موسكو كان يتوق إليه.
كان لنمط الاستبداد الأرثوذوكسي الروسي الذي تبنَّاه سولجنيتسين جذور عميقة في فترة ما قبل الحقبة السوفتيتية. كانت إحدى هذه الجذور كتابات إيفان إيليين، وهو روسي أبيض فرَّ خلال الثورة البلشفية ومات في المنفي بسويسرا عام 1954.
ومثلما كتب سانتياغو زابالا وكلاوديو غالو: "عارض إيليين البلشفيين وأيَّد نمطاً من السلطوية المسيحية شبيه بنمط نظام فرانسيسكو فرانكو في إسبانيا. وتكراراً لرأي الروائي الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي، كان إيليين مؤمناً بأنَّ لدى روسيا واجب للحفاظ على استبدادها التقليدي ومقاومة الليبرالية الغربية".
وكان هنالك مفكرون روس آخرون مثل فلاديمير سولوفيوف ونيكولاس بيرديائيف. وكان هنالك أيضاً مستشار بوتين فلاديسلاف سوركوف، الذي اخترع العقيدة السياسية لـ"الديمقراطية السيادية" لروسيا، والتي يسترشد بها الكرملين منذ عام 2006.
وحين خفت نجم سوركوف، جرى استبداله بألكسندر دوغين. ويُعَد دوغين فيلسوفاً ومحللاً سياسياً وأحد المشاعل الرائدة خلف "الجبهة البلشفية الوطنية" و"حزب أوراسيا" القوميين المتشددين، وسرعان ما أدركت أوكرانيا مسؤوليته في الغزو، فجرى تفجير السيارة التي كان من المفترض أن يستقلها، ما أسفر عن مقتل ابنته داريا.
رأى دوغين أنَّ الطريقة الوحيدة كي تستعيد روسيا نفوذها العالمي هي دحر الغرب. ولكي تفعل روسيا ذلك، يتعين عليها زعزعة السياسة في الولايات المتحدة وتشجيع البريكست. وإن كان هنالك من أب روحي لعلاقات روسيا مع اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا، فإنَّه دوغين.
القاسم المشترك بين كل هؤلاء هو "الفكرة الروسية"، التي يصفها زابالا وغالو بأنها "مجموعة من المفاهيم التي تُعبِّر عن التفرُّد التاريخي، والرسالة الخاصة، والمقصد العالمي للشعب الروسي، وبالتبعية، للدولة الروسية".
والفكرة العرقية القومية الروسية ليست بحال من الأحوال فريدة. إذ توجد عرقيات قومية أخرى تحت الحماية الغربية. فللصهيونية الدينية القومية مفهوم مشابه في إصرارها على أنَّ اليهود "يعودون" فحسب إلى الأرض التي طُرِدَ منها أجدادهم.
ومهمة ناريندرا مودي العرقية القومية هي تغليف الهند بالطابع الهندوسي من خلال تفكيك الضمانات الدستورية للمسلمين والمسيحيين.
اعتقدت أمريكا طوال 3 عقود بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أنَّ لديها الحقوق الحصرية لاستخدام القوة الدولية. ولا تزال تعتقد أنَّ لديها الحقوق الحصرية لتحديد كيف تبدو الديمقراطية، ومَن ينبغي أن يكونوا حلفاء تلك الديمقراطية.
أوكرانيا.. حرب أمريكا
السؤال الحقيقي إذاً الذي ينبغي على سكان كل مدينة كبرى في أوروبا والولايات المتحدة –وبالأخص هنا في المملكة المتحدة- طرحه على أنفسهم بعد مرور عام من هذه الحرب الأوروبية هو ماذا قد يفعل بوتين الذي يسترشد بـ"الفكرة الروسية" إذا ما نجحت أوكرانيا في طرد غزاتها.
ماذا قد يحدث إذا ما دحرت القوات الأوكرانية، مُسلَّحةً بالدبابات والمدفعية والصواريخ الغربية القوات البرية الروسية فعلاً إلى خارج المناطق الأربع التي تحتلها؟
لأنَّ روسيا لم تعد دولة متخلفة يقودها روحانيون كثيفو الشعر. وهي تملك أكبر قوة نووية في العالم. ولأنَّ أوكرانيا لم تعد حرباً "صغيرة" في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تنشب بعد 30 عاماً من اندلاع كل الحرائق الإقليمية الأخرى. إنَّها تتحول إلى صراع عالمي.
شهد العام الأول من هذه الحرب تصعيداً مطرداً للتدخل العسكري الغربي في أوكرانيا. في البداية كانت الطائرات دون طيار. ثُمَّ جاءت المدفعية. ثُمَّ جاءت راجمات الصواريخ هيمارس. ثم جاءت ناقلات الجند المدرعة، وقريباً الدبابات، وإذا ما فعلت بريطانيا ما تريد، ربما ستصل حاملات الطائرات.
ليس ذلك وحسب، إذ عزَّز القادة الغربيون دعمهم العسكري لأوكرانيا من خلال وجودهم السياسي على خط الجبهة لـ"حربهم على الاستبداد".
ويرسل وجود الرئيس الأمريكي جو بايدن على جبهة ساحة المعركة هذه في كييف رسالة سياسية قوية لروسيا بأنَّ هذه الحرب باتت الآن حرب أمريكا، وليست حرب أوكرانيا فقط. وكذلك تفعل كل الرسائل الأخرى القادمة من أوروبا بأنَّ الدفاع عن أوكرانيا أصبح قضية أوروبية.
لم تعد أوكرانيا حرب وكالة. إنَّها حرب تنخرط فيها روسيا والغرب بصورة كاملة. فالطرفان الآن يتحدثان عنها بتعبيرات وجودية. فيدَّعي بوتين أنَّ الغزو كان ضربة استباقية فرضها الناتو. ويدَّعي الناتو أنَّ البلدان الأخرى في أوروبا الشرقية ستكون الهدف التالي، إذا ما انتصر بوتين.
لا يوجد مخرج جانبي لأيٍّ من الطرفين، وليس هنالك سوى قِلَّة من البلدان للوساطة بينهما.
دخول الصين
القوة الوحيدة القادرة على كبح جماح بوتين في حال تعرُّض قواته التقليدية لهزيمة مذلة في أوكرانيا هي الصين.
ولهذا السبب، يبدو الأمر الآن أشبه بذروة الحماقة الاستراتيجية بعد سقوط كابول في أفغانستان، بعدما بدأ بايدن التحول شرقاً بجدية من خلال إعلان الصين وروسيا منافسين جيواستراتيجيين.
وهذا يُذكِّرنا بالأيام التي كانت فيها وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، كوندوليزا رايس، متشجعة للغاية بشأن مدى نجاح الغزو الأمريكي للعراق، لدرجة أنَّها اعتقدت أنَّ الولايات المتحدة يمكنها غزو إيران في نفس الوقت.
بالنسبة للصين التي أُصيبَت بالشلل نتيجة جائحة كوفيد 19، جاء تحدي بوتين المباشر للغرب سابقاً لأوانه. فمن وجهة نظر بكين، كان الأمر غير مدروس. ولا يعني ذلك بالضرورة أنَّه خاطئ أو غير مبرَّر، لكنَّه متسرع.
فلا تزال الصين تبني قواتها البرية والبحرية والنووية، وتدفع ببطء نطاق سيطرتها إلى ما وراء سلسلة الجزر الأولى في المحيط الهادي، وبناء قواعد عسكرية على جزر صناعية. وترى الصين أنَّ صعودها كقوة إقليمية ما يزال طور التقدم، ناهيكم عن صعودها كقوة عالمية.
وبقدر ما قد تشعر بكين بالاستياء مما ترى أنَّه عمل غير مكتمل بخصوص تايوان، فإنَّ الحرب ليست في صالح الصين، على الأقل ليس بعد. لكنَّ الاستنزاف التدريجي للنفوذ الاقتصادي والعسكري الغربي حول العالم وصعود المزيد من الفاعلين الإقليميين الأقوياء هو بالتأكيد في صالحها.
لكن ليس من مصلحة الصين نشر الثقل الكامل للقوة العسكرية الغربية، أو إعادة تفعيل الناتو بعدما كان يعاني. فكل قوة غربية كبرى الآن تنفق أكثر على دفاعها، وتتخلى ألمانيا عن نزعتها السلمية التي ظهرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وآخر ما تريده الصين هو أن تشعل أوكرانيا حرباً عالمية ثالثة مثلما أشعلت بولندا الحرب العالمية الثانية.
وقد أبلغ وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، فرنسا وألمانيا أنَّ بكين ترغب في "الاستئناف الكامل للتبادلات التجارية" وزيادة التعاون في قضايا مثل التغيُّر المناخي والتجارة الحرة. وقال أيضاً للأوكرانيين إنَّ "الصين لا ترغب في رؤية الأزمة تطول وتتصاعد". وحقيقة أنَّه اصطدم بطريق مسدود، على حد وصف صحيفة The New York Times، في مؤتمر ميونخ للأمن ليس خطأ الصين.
بل هو إشارة على مدى محدودية تفكير الحلف الغربي الذي يدعم أوكرانيا بشأن نهاية هذه الحرب.
أقام شي جين بينغ بالفعل مسافة فاصلة بينه وبين بوتين في ما يتعلَّق بأوكرانيا، خلال مناسبة ظهور علني واحدة على الأقل. فخلال أول لقاء مباشر بينهما منذ بداية الغزو في قمة منظمة شنغهاي للأمن في سمرقند، اضطر بوتين للاعتراف بمخاوف الصين حيال الغزو. ولم تساعد بكين بوتين بإصدارها بياناً تجاهل أوكرانيا.
وعقدا بعد ذلك مباحثات، الأربعاء الماضي، 22 فبراير/شباط، وأعلن بوتين أنَّ شي سيزور موسكو، وهي خطوة من شأنها أن تتجاوز حدوداً جديدة.
تكمن المشكلة في أنَّ الولايات المتحدة لم تبذل قصارى جهدها لإيجاد حافز للصين من أجل النأي بنفسها عن بوتين. ويمكن أن تُغيِّر الصين توازن القوى على الأرض من خلال تسليح روسيا بأسلحة أكثر قوة من الطائرات دون طيار والرقاقات.
وبالفعل، قد تقنع الصين نفسها بأنَّ الطريقة الوحيدة لمنع روسيا من استخدام السلاح النووي هي تعزيز قواتها التقليدية في أوكرانيا. وهذه محاججة استخدمها الجيش الروسي بصورة عكسية مرات عديدة. ولإدراكها بمدى ضعف قواتها التقليدية مقارنةً بالناتو، ومدى وهنها كقوة ردع، أصبحت القوة النووية الاستراتيجية أكثر أهمية بالنسبة لروسيا. وهذا المنطق ينطبق أكثر في وقت الحرب.
لا نهاية في الأفق
تشير كل الدلائل إلى أنَّ أبعاد الحرب في أوكرانيا ستتنامى. وهذا يعني أنَّ الخطاب الرئيسي هذا الأسبوع لن يُلقى في موسكو، في خطاب حالة الأمة الذي ألقاه بوتين، أو في وارسو من خلال خطاب بايدن على النحو نفسه.
بل قد يكون الخطاب الذي من المقرر أن يلقيه شي يوم الجمعة، 24 فبراير/شباط. والأهم من ذلك هو ما الذي سيقرر عمله مع بوتين.
هنالك عدد من السيناريوهات للعام المقبل: انهيار آخر للصفوف الروسية في هجوم الربيع ثُمَّ المفاوضات، أو حالة جمود في ظل عدم قدرة القوات الأوكرانية على تغيير المواقع الدفاعية الروسية، أو انهيار كامل للمناطق التي تسيطر عليها روسيا.
وستكون الصين عاملاً رئيسياً في كل سيناريو. لكن إن لم تكن كذلك، فلن أود أن أكون الرئيس الأمريكي أو رئيس الوزراء البريطاني في الحكم، في ظل وجود إصبع روسيا القومية الجريحة المهزومة في وضع الاستعداد على الزر النووي على نحو يُنذِر بنهاية العالم.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.