"ماذا ستفعل لو قابلت نفسك الآن وأنت طفل"؟
سؤالٌ يُصادفني كثيراً، ويٌثير شجوني في كل مرةٍ منها، وإن كانت إجابتي له، تُهدّئ نوعاً ما مشاعري، التي بعثرها السؤال كغبارٍ، تطاير في أجواء روحي.
حتى جاءت حلقة "عيال كبار" لأحمد الغندور، المعروف بالدحّيح؛ لتضعني وجهاً لوجهٍ أمام الشيء الذي لم أكن أعرف له اسماً، والذي طالما كنت أهرب منه قبلاً.
فجأة وجدتُ نفسي أتسمّر أمام أقدم جرح في تاريخي، هكذا أسماه هو، واصفاً جرح الطفولة.
الجرحٌ الذي يصعب شفاؤه إذا أصاب أياً منّا، لأنّه قادمٌ من المصدر الذي يُفترض به أن يُعطينا الأمان والحب، ولأنّنا مررنا به ونحن في أوهن حالاتنا على الإطلاق، أطفال، لا حيلة لنا في شيءٍ.
آمنت منذ زمنٍ، بأنّ كل ما قد عشناه في طفولتنا، نحمله على ظهرنا إلى أن نموت، ما لم نُشفَ. حمولة صعبة، مؤلمة، وقاصمة للظهر فعلاً.
يقولون: أن تصل متأخراً أفضل من ألا تصل أبداً، لذا ها أنا ذا، أُقرر أخيراً بعد كل هذه الأعوام الطويلة، أن أنفض عن ظهري بعضاً من أثقاله المُلتصقة بلحمي.
أعلم أنّه لم يعد للماضي وجود، إلا ما بقي من أثره على أرواحنا، وذلك الأثر مدموغٌ في روحي.
يبدو أنّه لا مفرّ من أن أُواجه أشباح الماضي، وأتوقف عن الهرب منها مذعورة، بالضبط كما في فيلم الحاسة السادسة Six Sense، فأنا أخيراً فهمتُ أنّ الأشباح لم تكن تظهر لي كي تُخيفني، وإنما لأنها كانت تُريد أن تُخبرني شيئاً ما.
أكثر ما يُخيفني من بين أشباحي الكثيرة، شبح طفلة صغيرة، تُشبهني تماماً حين كنت في عمرها. أراها الآن في هذه اللحظة.
أرتعد وأنا أقترب منها لأهمس في أذنها:
"أنا هنا يا صغيرة، فتحدثّي إليّ".
طفلتي التي لم أكن أعرف عنها شيئاً
طفلتي الداخلية هي نسختي الصغيرة من ذلك الماضي، والتي تحمل ذكراي عن شكل الطفولة التي عشتها. نسخة طبق الأصل منّي، تسكن في عقلي اللاواعي، وتختبئ بداخلي منذ ذلك الوقت، وستظل هنالك للأبد.
كم أحسد هؤلاء المحظوظين القلائل ممن عاشوا طفولة سعيدة مع آباءٍ أسوياء، فهم لا يُمكنهم أن يدركوا مأساة من عاش طفولة صعبة وقاسية، لأنّ الأذى النفسي في تلك المرحلة، لا يقتصر أثره على سنوات الطفولة القصيرة فحسب، بل هو أذى ممتد بطول عمر الواحد منّا، لكونه صار جزءاً من ذواتنا التي تشكّلت في تلك الفترة الحاسمة من حياتنا.
ذلك الأذى حُفر في روحنا، وصار كجرحٍ مفتوحٍ، يأنّ من وقتٍ لآخرٍ، ونحن لا نعرف عنه شيئاً.
"يعيش الكثير جداً من الأطفال المجروحين بداخل أجساد بالغين، يتقمصون حياة الكبار".
كثيراً ما أسمع صوت طفلتي الرفيع الحاد وهو يدور في رأسي، مُحملاً بكتلة ضخمة من المشاعر السلبية، حينها أعلم أنها تتألم.
طفلة صغيرة، تُسقط غضبها على العالم كله.
طفلتي الداخلية..كم من جرحٍ أصابك!
أعرف أنّ طفلتي الصغيرة تطل برأسها على عالمي، حينما أجد نفسي أتصرف كطفلة، في مواقف لا تتناسب مع امرأة ناضجة، في أوائل الأربعينيات من عمرها.
يحصر علماء النفس جروح الطفل الداخلي في 4 جروح أساسية، جرح الهجر، جرح الثقة، جرح الشعور بالذنب، وجرح الإهمال.
طفلتي العزيزة.. كم جرحاً منهم أصابك؟
يقولون إنّنا حينما نتأذّى من والدينا ونحن صغار، لا نستطيع أن نكرههم، ولكنّا في المقابل نكره أنفسنا. نتأذّى منهم، بدون أن نحاول حماية أنفسنا حتى، فوقتها لم نكن نعرف أن ذلك مُمكناً بعد.
محاولاتٌ كثيرة بائسة للاقتراب من النّار، علّها لن تحرق هذه المرة، أملٌ خائب، يتكرر مرة بعد مرة، إلى أن نستسلم، وننسحب لداخل ذواتنا أكثر فأكثر، حتى نكاد أن نتلاشى.
"مُهانٌ، مُهمل، شاعرٌ بالخزي، مُلامٌ طوال الوقت، هكذا كنت طفلاً".
كان ذلك هو أحد التعليقات المؤلمة التي قرأتها، تعقيباً على فيديو لطبيبة نفسية تتحدث عن جروح الطفل الداخلي.
يبدو لي الأمر كذلك المشهد من الفيلم الذي لا أعرف اسمه، والذي رأيت فيه رجلاً يتخلى عن كلبه، وهو يصعد على سلالم الطائرة مُغادراً البلاد. لم يفهم الكلب أنّ صاحبه قد هجره للأبد، لذلك بدأ في الركض طويلاً وعبثاً، وراء الطائرة التي تجري بسرعة مهولة استعداداً للطيران.
هكذا كنّا نحن، نستميت في محاولة إرضاء أقرب النّاس، حتى نحصل على حبهم، ولم نفهم إلا متأخراً جداً، أنّهم قد تخلّوا عنّا منذ زمنٍ.
طفلتي الساذجة ومسؤولية السعادة
ضربت طفلتي الداخلية بقدميها الأرض في غضبٍ، شاعرة بظلمٍ حقيقي، وهي تسمع الغندور يقول في نهاية حلقة "عيال كبار"، بأنّ مسؤولية إصلاح الأذى الذي وقع علينا قديماً، تعود لنا وحدنا.
في البداية اعتقدت أنّ لطفلتي كل الحقّ في رأيها المُحترم هذا، فمن أفسد شيئاً فعليه إصلاحه، فلم يتوجّب عليّ أنا إذاً، أن أُصلح ما أفسده الآخرون بي.
ولكن بعد فترة تفكيرٍ قصيرة، استحضرت فيها روح امرأة أربعينية، لم تعد ترى الحياة أبيض وأسود كما كانت قديماً، واختبرت مراراً حقيقة أنّ الدنيا ليست دار عدلٍ، ابتسمت لطفلتي الصغيرة، قائلة لها: يا عزيزتي أنا أفهمك جيداً، ولكِ كل الحق فيما تشعرين به. ولكنّنا نتحدث عن حياتي أنا، عن حياتنا معاً، ونحن نستحق أن نشعر أخيراً بالسعادة.
بدا على وجهها الرضا، ثم ابتسمت، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أراها فيها تبتسم.
طفلتي الداخلية.. هل تسمحين لي بأن أكون أمك؟
يقولون إنّه بإمكان طفلتي أن تشفى من جروحها، على يدي أنا. وبأنه ما زال بإمكاني أن أصنع لها الحياة التي لم تعشها من قبل، وأن أُعطيها المشاعر التي حُرمت منها، الأمان والحب والقبول غير المشروط.
يقولون إنّه علىّ أن أكون أُماً لطفلتي التي بالداخل.
ولكن قبل ذلك، علىّ أن أتركها تحزن بشكلٍ كاملٍ أولاً، أن أجعلها تجترّ أسوأ ما قد حدث في الماضي، وأن تتحسّر على ذلك بالشكل والقدر الذي تحتاجه.
كنت قديماً عاجزة عجز طفل، مجروحة بلا حراكٍ، ، الآن قررت أن أتحمّل مسؤوليتي تجاه نفسي، وأن أكون أُماً حقيقية لطفلتي التي تسكنني.
وقياساً على المقولة الشهيرة التي تقول "لقد أصبحنا نحن النساء، الرجال الذين نتمنى أن نتزوجهم"، الآن أُدرك أنّه لا بأس أيضاً، بأن أكون أنا أُمّاً مثالية وأبّاً حنوناً لطفلتي الداخلية، كما كنت أتمنى لنفسي أن تنال قديماً.
رسالتي لكل الأطفال الجرحى المختبئين داخل أجسادٍ وهنت عظامها، اخرجوا للنّور، واشعروا بحب نسختكم الأكبر. توقفوا عن البكاء والأنين، واسمعوا صوتكم الناضج وهو يخبركم بأنّكم لستم وحدكم، وأنّ عليكم من الآن، أن تشعروا بالسعادة والأمان، فلا ينبغي أن يعيش على هذه الأرض طفل خائف أو حزين، حتى لو كان طفلاً داخلياً يعيش داخل جسد إنسانٍ في الأربعين من عمره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.