زيارتي الأولى لمدينة أنطاكية كانت قبل 10 سنوات تقريباً، تحديداً في الريحانية، وقعت أسيراً في حب هذه الولاية الهادئة على طرف الحدود التركية الجنوبية مع سوريا، حملت جوال أرز مع مزارع مُسن لمساعدته لوضعه في سيارته الشاهين التقليدية في الريحانية فأقلني معه بلا أجرة إلى أنطاكية وشكرني كثيراً.
من وقتها تعلق قلبي بأنطاكية وقراها الواسعة المليئة بشجر الكافور العالي الذي يشبه كثيراً قريتي الصغيرة في مدينة المنصورة بمصر، ولعل هذا من أسباب حبي لها.
الأسبوع الماضي توجهت لأنطاكية بعد كارثة الزلزال، وكنت أظن أن زيارتي لمدينة "كهرمان مرعش" المنكوبة لن يضاهيها ألم أي زيارة أخرى، حتى حملتنى أنطاكية وطرحتني سابع أرض من هَول ما رأيت في المدينة.
دخلت المدينة نهاراً فهالني حجم الدمار الواسع الذي لحق بالشوارع، فمرة أخرى أحياء كاملة تحولت إلى ركام، قصص مؤلمة بالآلاف بين حديد البنايات المتداخل مع الخرسانة المُفتته، لم أتعرف على المدينة التي أحفظ كثيراً من شوارعها عن ظهر قلب؛ حيث كانت آخر زيارة قمت بها لمدينة أنطاكية في عام 2020م، فكانت زيارة متفحصة للأماكن القديمة والأثرية وكذلك الجزء الراكض خلف الحداثة المعمارية من المدينة.
كل هذا أصبح أثراً من ركام ورماد، انهارت تقريباً المدينة بالكامل ولم يتبقّ منها إلا 20% من منازل على وشك السقوط.
هذه صَدمة تصيب الشخص على الأغلب مرة واحدة في العمر لمدينة صامدة من عصور ما قبل التاريخ.. كيف لها أن تنهار بهذا الشكل المأساوي؟
جولتي في المدينة هذه المرة كانت صامتة حد الدهشة من أثر الدمار الواسع، استمعت أكثر لحكايات وحكايات عن الآلام التي لحقت بالمدينة جراء الزلزال المدمر الذي ضربها.
اليوم الأول في أنطاكية
بدأت اليوم الأول بزيارة لإحدى القرى المنكوبة قرب الريحانية، تعداد القرية 400 شخص فقدوا قرابة 90 في هذا الزلزال، تحول مسجد القرية إلى مطبخ كبير لصنع الطعام والشوربة الدافئة لتوزيعها على الضحايا في القرية ومدينة أنطاكية بدعم من منظمات خيرية من جنوب إفريقيا.
الحكايات بها العديد من التفاصيل المؤلمة أغلبها يسرد الموت والرهبة من الزلزال وآثاره التي سببت صدمة لجميع سكان وخصوصاً الأطفال بالقرية، أستثني من ذلك رجلاً مُسناً وهو والد إمام مسجد القرية الذي زرته وقبلت يده، عمره تجاوز التسعين لم يشعر بالزلزال ولم يَقم من على أريكته التي يجلس عليها بذكر الله وبمسبحته الخضراء.
فسألته ألم تشعر بالزلزال يا جدي؟! فأجاب: "كنت عند الله لحظتها". إجابة مختصرة ليس من بعدها تفصيل.
قرى "ألتينوز".. ألم وخوف
قضاء منطقة "ألتينوز" التابعة لولاية "هطاي" التركية تشتمل على قرابة 48 قرية على الحدود السورية مباشرة، شهدت المنطقة واحدة من أكبر آثار الزلزال المدمر؛ حيث انشقت الأرض تماماً في إحدى مزارع الزيتون وأصبحت الشجرات التي كانت تتقاسم مياه الري قبل لحظات من الزلزال يفصل بينها الآن شَق جبلي بعرض يتجاوز 35 متراً وعمق يقارب الـ30 متراً.. حدث ذلك بعد دقائق معدودة من الزلزال.
هذه المنطقة غريبة ديموغرافياً منذ مئات السنوات، أغلب سكانها من القرى السهلية يتحدثون العربية بطلاقة وكذلك التركية وسكان القرى الجبلية العليا يتحدثون التركية فقط، اجتمع الجميع هناك على وقع الأزمة وأتوا من كل حدب وصوب لمشاهدة التغيير الجغرافي الكبير الذي حدث في مركز منطقتهم.
شهادات الجميع تدلي بضوء ناري مائل للزرقة أو الاصفرار في بعض اللحظات خرج للسماء مباشرة مع لحظات الهزة الأرضية العنيفة التي ضربت المنطقة، فقدت هذه القرى الـ48 العشرات من أبنائها وأغلبهم يقطنون الخيام الآن بعد شروخ أصابت منازلهم.
التنوع اللغوي في المنطقة حاضر في أحاديث الجميع تداخلاً بين التركية والكردية والعربية.. التقيت فريقاً بحثياً رسمياً لدراسة التربة في المنطقة، تحدثت مع أحدهم وقصصت عليه رواية السكان المحليين عن فكرة الضوء الساطع، فأخبرني أن المنطقة كان بها شبه احتباس غازي في التكتلات الأرضية العميقة، ومع الزلزال وانشقاق الجبل بهذه الطريقة خرج هذا الاحتباس الغازي على هيئة ضوء ساطع.
لولا هذا الزلزال وهذا الانشقاق الذي حدث فإن كافة القرى في الأفق كانت من الممكن أن تذهب فجأة ضحية كارثة أخرى وهي انهيار التربة بهذه الاحتباسات بطريقة أكثر صعوبة كان من دورها أن تزيل هذه القرى جميعاً مع حركة الأرض، لكن هذا التغيير الجغرافي منع هذا التغيير الذي كان متوقعاً مستقبلاً.
رغم إصرار كثير ممن حضروا من السكان المحليين على أن هذا الشق هو تعبير واضح عن غضب الله على القرى الممتدة، إلا أن الباحثين والهندسيين دخلوا في حوار ثري شديد التهذيب والاحتواء مع السكان حول أنه ليس للغضب الإلهي علاقة بما حدث، وأن هذا أمر علمي بحت يعتمد على دراسات التربة ومكونات الأرض وذلك أيضاً بقدرة الله.
أنطاكية والخيام
لم أزُر مكاناً في الأطراف بالمدينة أو القرى إلا وكان المطلب الأول لعشرات العائلات من السوريين المتضررين من انهيار منازلهم ألا وهو لا نريد إلا خياماً.
عائلات بالعشرات تقطن الشوارع تحت أغطية من البلاستيك، في محاولة لصنع غطاء سماوي حامٍ من البرد مع عوارض خشبية مهترئة مبتلة في أغلب الأحيان، لا تسند نفسها كي تسند خيمة بدائية من المفترض أن تحمل تحتها 9 من عائلة واحدة.
عائلات سورية بالعشرات فقدت كثيرين تحت الأنقاض
شاب سوري من حمص فقد 44 فرداً دفعة واحدة من عائلته تحت الأنقاض، وهو الآن وحيد تحت سماء أنطاكية غير قادر على الاستيعاب أو البحث عن بديل، أي بديل يعوض كل هذا العدد فجأة؟، رغم كل هذا إلا أنه أيضاً كان يبحث عن خيمة حتى حين.
الحكايات الأصعب في المدينة هي للأطفال السوريين الذين أضحوا بلا عائلات، بعد أن فقدوا أمهاتهم وآباءهم تحت الأنقاض، فريق كبير من الأطفال بين باكين وآخرين غير مدركين لصغر سنهم حجم الكارثة التي حلت على رؤوسهم، وحجم هذا الفقد الواسع الذي سيعيشون فيما هو قادم من سنوات عمرهم.
فهم فقدوا أمومة الوطن أولاً، وُلدوا في الغربة، ومن ثَم فقدوا الرعاية الأسرية المباشرة أماً وأباً في حادثة الزلزال.. فإلي أي طريق هم يتجهون الآن؟
هل يعبرون الجبل على الحدود لسوريا مرة أخرى أم سيفتحون باباً من المعارك الجديدة مع الحياة مفتوح التفاصيل والتوقعات؟
من لم يرَ أنطاكية قبل زلزال الـ6 من فبراير/شباط 2023 لن يتعرف مطلقاً على أنطاكية من جديد حتى بعد إعادة الأعمار.
انعكاس المدينة القديمة وإرثها التراثي المُبهر من آلاف السنين مع نهر العاصي الذي يشق المدينة بَهت وخَفت وأصبح الرماد وحده هو ما يضفي ظلاله على النهر.
رائحة الموت والخوف من تحت الركام أصبحت حاضرة وبقوة في الأجواء، وأضحت أنطاكية أجمل مدن الشرق على موعد مع الصورة السينمائية الشبحية لمدن نهاية العالم، حتى لجزء واسع من المجمعات الحضرية الجديدة المجمل المدينة القديمة والحديثة.
على المهتمين دراسة هذه الكارثة جغرافياً ومدى تأثيرها ديموغرافياً على مدينة غنية بالتنوع الديموغرافي منذ القدم، كانت تصنع حالة من الانسيابية السكانية والجغرافية، تحتوي الجميع وتجعل الكل يقع في حب أنطاكية للأبد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.