وعلى عكس المتوقع مع بدايات المخرجين الشباب، كان فيلم Searching ظاهرة حقيقية في شباك التذاكر بعد صدوره، فالفيلم الذي لم تتجاوز ميزانيته الـ900 ألف دولار استطاع تحقيق 75 مليون دولار في شباك التذاكر، ليكون نقطة بداية لثورة في مجال الإخراج السينمائي والسرد القصصي.
والآن يُقرر المخرج الشاب والعبقري تقديم قصته الجديدة، والصادرة في فيلم Missing الجديد هذا العام والذي من الواضح أنه يتبنّى نمط فيلمه Searching، فهل سيكون فيلم Missing الجديد ظاهرةً كسابقه؟
عن فيلم Searching
يسرد فيلم Searching قصة أبٍ يستخدم التكنولوجيا اليومية، كالهواتف النقالة والحاسوب، للعثور على ابنته التي اختفت في ظروف غامضة، وبمساعدة محققةٍ من الشرطة يكتشف الأب أنه لا يعرف شيئاً حقاً عن ابنته المفقودة.
يمتاز فيلم Searching بأنه يقدم نمطاً استثنائيا لسرد قصته، فأحداثه بأكملها تحدُث على شاشات الحواسيب والهاتف، وعبر كاميرات الأجهزة، ومع قدرة استثنائية على دفع جرعات رعب وإثارة غير مسبوقة، ضمن الفيلم تجربة لا يمكن وصفها للمشاهد العادي، فبالنسبة للمشاهد استطاع الفيلم بنمط عرضه أن يأسِره ويضعه في مكان بطل الفيلم، بل ويدفعه معه في كل لحظة تُكشف فيها حقيقة جديدة، ليجد المشاهدُ نفسَه في النهاية أسيرَ شاشة بمساحتها الحقيقية، ويكافح كي يتخلص منها مع بطل الفيلم.
استطاع فيلم Searching كذلك أن يقدم مناقشة حقيقية وملموسة لأجل التكنولوجيا في الحياة اليومية والاجتماعية للبشر، فبطل الفيلم أو الأب يكتشف حينما يبحث عن ابنته أنه لا يعرف عنها شيئاً، وأن حياة الإنسان الافتراضية عبر الإنترنت تحمل الكثير من الأسرار، التي تقوده للغربة عن الحياة الواقعية والفيزيائية الملموسة.
تمكَّن فيلم Searching من حصد قائمة معتبرة من الجوائز، فقد حصد جائزة مهرجان Sundance للأفلام، وكذلك جائزة مهرجان الأفلام الأمريكية لأفضل ممثل، ورُشح لجائزة أفضل فيلم رعب من IGN.
ما يجعلنا نتساءل عن الحقيقة التي ربما تختبئ خلف تفاصيل الفيلم.
الحقيقة خلف فيلم Searching
للأسف لم تُقتبس قصة فيلم Searching من قصة حقيقية بعينها، ولكنها اقتُبست من الواقع المأساوي للجرائم الإلكترونية، التي تحدث في كل مكان على الكوكب، وكل يوم.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدَها، في العام الماضي، كان هناك حوالي 53 مليون ضحية للجرائم الإلكترونية، منها ما هي مجرد عمليات نصب واحتيال، ومنها كذلك عمليات خطف وقتل، ووسط هذا الرقم المرعب يمكنك أن تتبيّن تأثير التكنولوجيا في حياتنا اليومية.
والآن دعنا نأخذ نظرةً فاحصةً على وسائل التواصل الاجتماعي، لنكتشف أنه خلال 65% من الجرائم الجنسية على الإنترنت يتم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمراقبة الضحايا، وتتبُّع كل معلوماتهم وعناوينهم.
ولهذا يُقرر صناع فيلم Searching إعطاء نبذة عبر قصته حول هذه الحقائق، وهذا الواقع المأساوي والغائب عن كثير منا، ولا تتوقف القصة مع فيلم Searching فقط، بل تستمر معنا للفيلم الجديد والقادم إلى السينما، لذا دعنا نتحدث عنه قليلاً.
عن فيلم Missing الجديد
متخذاً نمط السرد ذاته عبر شاشات التكنولوجيا، نتبع هذه المرة جون، هذه المراهقة التي تجلس وحيدة في غرفتها في لوس أنجلوس، والتي قررت والدتها الذهاب إلى كولومبويا مع صديقها الجديد لقضاء إجازة لطيفة.
لكن تختفي والدة جون بلا أثر، وفي ظروف غامضة كلياً، ومع عجز السلطات تبدأ جون رحلة بحث مرعبة ومشوقة، مستخدمةً التكنولوجيا اليومية المتاحة في غرفتها، لتصل إلى والدتها وتحل لغز اختفائها قبل فوات الأوان، لكن عملية البحث تجعلها تتوصل إلى أسئلة أكثر من الإجابات.
صدر فيلم Missing في العشرين من يناير الماضي، وقد حصد بالفعل استحسان معظم النقاد، بسبب تجربة Searching، التي أعاد بعثها من جديد للمشاهدين.
والآن ما الذي يريد صناع الفيلمين إخبارنا به حقاً؟
عن واقعنا المعاصر بين فيلم Missing وفيلم Searching
في كلا الفيلمين يكتشف كلا البطلين غربتهما التامة عن أقربائهما، فالأب في فيلم Searching يكتشف أنه لا يعلم شيئاً عن ابنته، وكذلك الابنة في فيلم Missing تكتشف جهلها التام بوالدتها، وهنا يأتي السؤال الحقيقي: كيف نغترب عن أقرب الناس إلينا بهذه الطريقة؟
والإجابة تكمن في عالمنا المعاصر، في واقعنا الذي نعيشه كل لحظة وكل يوم، ففي زمننا يتنامى الشعور بالفردية، ليغلب على مشاعر الجماعة، فيغترب الابن عن والديه، وتغترب الأم عن أبنائها، وتفصلهم الحياة اليومية، التي وقعت ضحية بالفعل لسباق الرأسمالية، عن بعضهم البعض، وتأسرهم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، فيكون لكل منهم عالمه المنعزل تماماً عن عوالم أفراد عائلته.
إن رحلة البحث التي يخوضها الأب في Searching، وكذلك الابنة في Missing ليست رحلة بحث عادية عن شخص مختطف أو مفقود، بل رحلة اكتشاف لحقيقة هذا الواقع، الذي جعل الأبَ غريباً عن ابنته، والابنةَ غريبةً عن أُمها، وكيف يمكن لهذا العالم الخاضع للطمع الرأسمالي، وموت الضمير الإنساني، وسِحر الشاشات، أن يأخذ منا أحبّاءنا بلا رجعة، في لحظة لا ينفع فيها الندم، ولا يُجدي فيها البكاء.
نعم هذه الأفلام في النهاية هي قصص وتجارب مسلية، ولكنها كذلك تسلط الضوء على حقائق غائبة عنا، وقد لا ندركها إلا بعد فوات الأوان، فكل لحظة تقضيها أمام الشاشة هي لحظة تنتزع من عمرك المحدود، وهي لحظة تختطف من وقتك مع عائلتك وأبنائك وأهلك؛ لذا ربما حان الوقت لنمنح أنفسنا قسطاً من الراحة، سواء من هذا السباق المحموم نحو القليل الذي يضمن لنا الحياة، أو من هذا العالم الافتراضي الزائف.
فعزلة الإنسان كابوس يلتهم قلبه، ويغتصب روحه، ويتركه معلقاً في غياهب المجهول، وهذا بالضبط ما شعر به أبطال الفيلمين، وهذا ما يجب على المشاهد إدراكه، فدفء الجمع ودفء العائلة لا يمكن تعويضه بأي شيء، ولهذا كان على أبطال الفيلمين فعل المستحيل لإعادة اكتشاف أقربائهم من جديد، وإنقاذهم من براثن المجهول.
كلا الفيلمين تجربة مذهلة على الصعيد السينمائي والصعيد الإنساني كذلك، وهما تجربتان تستحقان المشاهدة بكل تأكيد، فهما إعادة اكتشاف للذات، وسط واقع تخيم عليه تكنولوجيا الشاشات، وتخضع فيه الأعين للأسطح الملونة.
وبالتأكيد استطاع Aneesh Chaganty كمخرج وكاتب ومنتج شاب، في بدايات مسيرته الفنية كصانع أفلام، أن يُثبت نفسه ويصنع لأقدامه مكانها وسط صناعة تصارع لعدم الخضوع لأيديولوجيات مشبوهة.
ففي النهاية هي تجربته ورحلته، ونحن مجرد ركاب مع سفينته السينمائية، والتي أتوقع أن تكون حافلة بالتجارب الرائعة، والتي ربما ستتضمن تعليقات أكثر عمقاً لواقعنا الإنساني، فكلا الفيلمين تجربة لا يمكن نسيانها، وكلاهما وَضَعا أُسساً سردية جديدة، أطمع أن تستمر معنا في المستقبل عبر أفلام الإثارة والرعب.
والآن أتمنى أن ينال كلا الفيلمين إعجابكم كما فعلا معي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.