عندما تحدث الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل أو الحرائق والأعاصير، ينتج عنها تهدّم الأحياء السكنية وحدوث خسائر بشرية من قتلى وجرحى ومفقودين، وأيضاً نجاة البعض ممن قُدّر لهم البقاء. لا أحد ينكر الدور الذي يلعبه القدر في ظروف كهذه، ولكن بالمقابل فإن للسلوك البشري أهميته البالغة تحت تأثير تلك الكوارث، خاصة إذا كانت النجاة مرتبطة بسرعة بديهتهم وردة فعلهم الطبيعية الفطرية، ولكن اللافت في الأمر هو اختلاف ردود الفعل والسلوك البشري وقت وقوع الخطر، الأمر الذي يدفع البعض الى اتباع سلوكيات سلبية مغايرة للتوقّعات، بينما يتّبع البعض الآخر سلوكيات إيجابية تؤمن نجاته. والسؤال المطروح: لماذا تختلف ردّات فعل الناس تجاه المخاطر، وكيف تتجلّى هذه الاختلافات أثناء المحن، وهل يمكن للكوارث الطبيعية مثل الزلازل أن تحدث تغييراً مفاجئاً في السلوك البشري؟
وللإجابة عن تلك التساؤلات دعونا نلقي نظرة أولاً على السلوك البشري، ونفهم ما هو؟ ممَ يتكون؟ وما أنواعه؟ وما العوامل التي تؤثر فيه؟ وكيف يحدث تغيير السلوك؟
يُعرّف علماء النفس السلوك البشريّ بأنّه حالة من التفاعل بين الإنسان وبيئته والعالم الخارجي، حيث يظهر السلوك في شكل استجابات سلوكية مكتسبة ومتعلمة، ويتعلم الفرد بالملاحظة والتدريب والتعرض للخبرات الحياتية المختلفة، وتمثل البيئة جميع المؤثرات التي تدعم آلية ظهور السلوك.
ويتكون السلوك من 3 مكونات رئيسيّة مرتبط بعضها ببعض، تحدثُ جميعها في آن واحد تجاه موقف ما، وهي: أولاً: الأفعال التي هي الانتقال من حالة إلى أخرى، والتي يُمكن أن تحدث في أوقات زمنيّة مختلفة. ثانياً: الإدراك وهو عبارة عن الأفكار والتصورات التي يحملها المرء معه في ذهنه. ثالثاً: العواطف وهي عبارة عن الشعور البشريّ قصير المدة، الذي يرافقه نشاط عقليّ مكثف، ولا يُمكن وصفها على أنّها منطق أو معرفة.
السلوك في علم النَّفس نوعان رئيسيان، وهما:
١) السلوك الاستجابي: هو السّلوك المحكوم بالمثيرات السابقة له، فعند حدوث المثير يظهر السلوك الاستجابي بشكلٍ فوري، فمثلاً عند تقطيع البصل تدمع العينين، وقد يُعتبر هذا النّوع من السلوك أقرَب إلى السلوك اللاإرادي، كما أنه سلوكٌ لا يتأثّر بالمثيرات التي تتبعه، فهو ثابت لا يتغير، إنما الّذي يتغير هو المثيرات التي تضبط هذا السلوك.
٢) السلوك الإجرائي: هو السلوك الناتج عن الاستجابات التي يتمّ تشكيلها وتحديدها من قِبل العوامل البيئيّة، مثل العوامل الاجتماعية، والاقتصاديّة، والتربويّة، والدينية. وعموماً فإن السلوك الإجرائي محكومٌ بنتائجه، فطريقةُ وآلية المثيرات البعديّة قد تضعف هذا السلوك أو تَدعمه وتقوّيه، وقد لا يكون لها أيّ تأثير يُذكر على الاستجابة السلوكيّة؛ إذ لا يمكن إدراك جميع الظروف المحيطة بالإنسان في الحاضر أو الماضي.
الوراثة أم البيئة؟
يرى بعض العلماء أن الوراثة تؤثر في سلوك الفرد، وتنتقل له عن طريق الجينات التي يرثها عن أبويه، مثله مثل الذكاء ولون الشعر، بينما يرى البعض الآخر أن السلوك البشري مكتسب من البيئة التي يعيش فيها. ولكي يتشكل سلوك ما يأخذ وقتاً طويلاً ويحكم بعاملي الوراثة والبيئة، فالسلوك إذن ليس وليد اللحظة، فلا يمكن مثلاً لإنسان ذي سلوك قويم أن يقوم بسلوك مثل سرقة أموال الناس، أو قطع طريق المساعدات ونهبها كما شاهدنا سلوكيات البعض عند الزلازل، وإنما هذا السلوك يكون لدى الشخص سابقاً بفعل عوامل وراثية أو بيئية أو كليهما معاً، ولن تؤثر فاجعة مفاجئة في حدوث تغيير مفاجئ في سلوكه الموروث أو المكتسب هذا بين ليلة وضحاها!
إذن كيف يحدث تعديل السلوك البشري؟
١) يجب تحديد السلوك المراد تعديله، أو التخلص منه عن طريق معالجته.
٢) وضع مجموعة من الأفكار التي تهتم بدراسةِ طبيعة السّلوك بالاعتماد على متابعة الفرد، والإصغاء له أثناء فترة العلاج.
٣) طلب المساعدة والتعاون من أفراد عائلة الفرد من خلال سؤالهم مجموعةً من الأسئلة حول السلوك الذي يجب تعديله.
٤) كتابة خطةٍ تنظيميةٍ لتحديدِ طبيعةِ العلاج المُتبع في تعديل السلوك، والطرق والوسائل التي سيتم استخدامها من أجل تقويمه بأسلوبٍ صحيح.
٥) تقييم النتائج التي تم التوصل لها عن طريق متابعة طبيعة تغير سلوك الفرد من خلال سؤاله شخصياً، وسؤال الأفراد المحيطين بهِ، والاعتماد على دراسة مدى استمرارية تأثير مُحفّزات السلوك السابق على شخصيتهِ.
والآن بعد أن استعرضنا وجهة النظر العلمية لتعديل السلوك، برأيكم.. هل تغير السلوك البشري يحدث فجأة!
كيف اختلفت ردات فعل الناس عند وقوع الزلزال؟
أكّدت نتائج التحقيقات التي أجريت مع ناجين من الكوارث، أن بعضاً من الذين لاقوا حتفهم، كان بإمكانهم الخروج أحياء لو أنهم تحلّوا بالوعي والسرعة المطلوبين للتكيّف مع تأثير الفاجعة والهروب من براثنها- مع التسليم بأن البعض الآخر كان محكوماً بالموت المحتّم بسبب موقعه لحظة حدوث الكارثة- وهذا ما حدث في أثناء زلزال تركيا، فبعض الناس الذين وجدوا داخل مثلث النجاة كما سماه العلماء استطاعوا النجاة من الزلزال المدمر، فالأشخاص الذين احتموا بالأريكة واختبأوا تحت المنضدة أو جلسوا بجوار الثلاجة وغيرها، عندما سقط البيت مثّل شكلاً ثلاثياً منع سقوط البناء عليهم مباشرة واستطاعوا الصمود فترة طويلة والنجاة حتى أتت إليهم المساعدة، بينما وجد العدد الأكبر من ضحايا الزلزال على السلالم ومداخل البنايات؛ حيث تصرفوا بهلع وانطلقوا مسرعين للهروب من الزلزال باتجاه السلم ومدخل البناء، مما تسبب في التدافع مع الاهتزاز، فلم يستطيعوا الاحتماء بشيء، مما سمح بسقوط مباشر للمبنى عليهم وأفقدهم حياتهم.
لماذا يصاب البعض بالجمود عند وقوع الكوارث؟
حسب الدراسات التي أُجريت في مختبر التدريب النفسي في جامعة ويسكونسين الأمريكية، فإن الإشارات التي يصدرها الدماغ البشري لحظة الخطر، تعمل بعدة أشكال ووفق سرعات متفاوتة. وحسب التقارير العلمية، يحتاج دماغ الإنسان إلى ما بين 8 و10 ثوانٍ في الأحوال العادية ليتعرف على معلومة معقدة ويرسل إشارات للتعامل معها. والمعروف أن هذه العملية تتباطأ لدى فئة كبيرة من الناس في أوقات الشدة والضغط النفسي، ما يعني أن أدمغتهم تتمهل في إصدار إشارات الدفاع عن النفس عند الشعور بالخوف، بسبب البطء الحاصل في تسلّم المعلومة والتكيف معها. الدماغ إذن يعمل أحياناً بعكس المتوقع منه في لحظة الخطر، أي إنه لا يتمكن من إصدار القرار بالتحرك بالسرعة المطلوبة، وضمن المهلة المحددة للنجاة، وهذا يفسر الشلل الذي يميز تصرفات الكثيرين في أثناء الكوارث.
قسم الباحثون الناس إلى 3 مجموعات، كالتالي: المجموعة الأولى تضم من 10 إلى 15% من الأشخاص الذين يحافظون على هدوئهم وتعقلهم أثناء تعرضهم للصدمات الكارثية، ويتخذون بالتالي قرارات سريعة لصالح إنقاذ حياتهم وحياة الآخرين. المجموعة الثانية تتألف من حوالي 15% من الذين يستسلمون لهستيريا البكاء والصراخ، ويعرقلون خطط الخروج السليمة. أما المجموعة الثالثة، والتي تشكل الأكثرية الساحقة، فتصاب بشلل وجمود وذهول، وتتسمر في أمكنة وجودها، عاجزة عن اتخاذ أي قرار، وقد يعمد بعض أفرادها إلى الاستعانة بالغير واستشارتهم.
في هذا السياق يشير الباحث النفسي البريطاني، جون ليتش، في أحد مقالاته العلمية، إلى أن تصرفات الناس قد تختلف أيضاً بحسب اختلاف الكوارث، ما يعني أن السلوكيات التي يفرضها غرق سفينة أو تحطم طائرة، تختلف عن تلك الناجمة عن التعرض لزلزال أو إعصار أو غارة جوية. مع ذلك فهو يعترف، ككثير من الباحثين غيره، بأن الأكثرية الساحقة تصاب بشلل التفكير والحركة تحت وطأة الصدمات الكارثية. وهنا تُطرح الأسئلة المحيرة الآتية:
أليس من المفترض أن يتحول دافع الإنسان المحفوف بالمخاطر إلى شخص هارب مدفوع بسرعة تدفق هرمون الأدرينالين الذي يحفزه شعور الخوف الطبيعي؟ ولماذا تصاب الأكثرية الساحقة بالشلل والجمود؟ وهل لهذا السلوك علاقة فطرية بحب البقاء؟
فسر العلماء حالة الشلل التي تطغى على البعض في حالات الخوف الشديد، بأنها سلوك بدائي غير متطور يميز بعض البشر، ويساعدهم على التكيف مع ظروف معينة. كما لاحظ الباحث النفسي الأميركي غوردون غالوب أن هذا السلوك البدائي يطغى عموماً على ضحايا الاغتصاب، وخصوصاً النساء اللواتي يستسلمن للمغتصب بدلاً من مقاومته، وهذا يعني أن حالة الجمود وغياب سلطة العقل، في أثناء الكوارث، هي ردة فعل غريزية ميّزت الإنسان البدائي في ظروف معينة، لكنها أصبحت تشكل خطراً عليه في مجتمعنا المعاصر.
إذن ما الحل؟
حسب نتائج الأبحاث التي أجراها غوردون على هذا الصعيد، هنالك أدلة ثابتة على أن حالة الذهول او الشلل الفكري والحركي تطغى عموماً على الأشخاص غير المتأهبين لمواجهة الخطر، أو الذين يشعرون ضمناً بأن الكوارث تستثنيهم وتصيب سواهم. وهذا يعني أن أدمغة هؤلاء تكون غير متأهبة لاستقبال المعلومات الطارئة وإصدار الرد العقلاني للتكيف معها. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفئة بالذات قد تتميز أحياناً بسلوكيات التهور أو ردات الفعل الفطرية التي تطغى عليها سرعة الانفعال والصراخ ومحاولات الهروب غير المدروسة، الأمر الذي يتسبب بهلاك أفرادها. بالمقابل فقد ثبت أن العقلانيين الذين لا يعتبرون أنفسهم بمنأى عن الخطر، يتمكنون عموماً من النجاة أثناء الكوارث، إذا ما أُتيحت أمامهم الفرص. ويرد الباحثون سبب ذلك إلى أن التحضير النفسي يرفع العقل إلى مستوى مجاراة إيقاع الحدث، وبالتالي التعامل مع مجرياته بالسرعة المطلوبة.
الحل إذن يكمن في التأهيل الاجتماعي السلوكي منذ الصغر في تصويب ردات الفعل البشرية الفطرية، وتسليحها بوسائل الحماية العقلانية السليمة، وهذا التأهيل جزء لا يتجزأ من دور العائلة والمربين والمؤسسات الخاصة والعامة التي تعنى بالحماية والسلامة والإنقاذ. المهم إعطاء هذه الثغرة اللافتة في السلوك البشري مزيداً من الاهتمام من قبل المعنيين لتدريب الناس تدريجياً على الانفصال عن السلوكيات البدائية غير المتناسبة مع الحدث، واعتناق سلوكيات حضارية بديلة منسجمة مع فرص الإنقاذ.
ختاماً.. إن السلوك البشري محكوم بعدة عوامل أهمها الوراثة والبيئة التي ينشأ فيها الفرد، وإن وقوع كارثة إنسانية لن يُحدث تغييراً مفاجئاً في سلوك بشري، لكنه يأخذ وقتاً طويلاً ليتشكل، ويأخذ وقتاً أطول ليتم تعديله وتغيير السلوكيات السلبية التي اكتسبها الفرد مثل السرقة والنهب لدى بعض الناس عند حدوث الفاجعة مما صدم الكثيرين، سلوكيات الفرد عند الفاجعة تكون محصلة للسلوكيات التي يمارسها الفرد كل يوم، فإن كنت تبتعد عن الحرام وتساعد المحتاجين وتتصرف بحكمة في حياتك اليومية، فهذا ما ستفعله أيضاً عند الكوارث باحتمال كبير، وإن كنت تقوم بسلوكيات خاطئة كالسرقة والنهب والاعتداء على الغير، فإنك سترى من فاجعة، مثل الزلزال، فرصة عظيمة لنهب أكبر قدر من الناس المفجعين، ولتغيير سلوكياتنا يجب تلقي دعم وتوجيه متخصص من معلمي السلوك والأطباء النفسيين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.