صحيح أن مواقع التواصل جعلت العالم قرية صغيرة، لكنها خلقت طبقية فريدة من نوعها أيضاً، فالذي يدخلها بعد يوم شاق من عمل منهك، يتقاضى على أثره ما لا يتوافق مع متطلبات الحياة، فيجد فُلاناً يعيش على الإعلانات، ويجد فُلانة تُصوّر كل أركان قصرها، ثم يجد جماعات من الناس في سهرات من الواضح أنها خاصة بعِلية القوم، لا بد من أن يُصاب بالإحباط.
حينما يقرأ خبراً أن هناك لاعب كرة قدم يتفاوض لتحسين عقده، حيث يتقاضى سنوياً أرقاماً تبدأ من المليون كأصغرها، لا بد من أن يُصاب بالإحباط، وهذه ليست غيرة، بل هي حقيقة، من ينكرها يضحك على نفسه قبل أن يُضحك الناس عليه، فتوفيق الحكيم شخصياً حينما علم بأجر أحد لاعبي كرة القدم في وقته كتب: انتهى عصر القلم، نحن في عصر القدم، حيث يتقاضى اللاعب سنوياً ما لم يتقاضه الأدباء في مصر منذ عصر إخناتون!
فأنت أيضاً تشقى، أنت أيضاً لديك أحلام لا تلامسها، فحينما ترى غيرك لامسها، بل بدأ يستعرضها، ستبدأ الكراهية تغزو قلبك، ستنقم على وظيفتك، ستكره عملك، وستُصاب بإحباط شديد، وهذا حقك، وكما قال أنيس منصور: "لو كان الثراء بقدر العمل، لنام الحمار على سرير من الذهب".
مشكلة مواقع التواصل الاجتماعي أنها منحت مزايا لم تكن موجودة في الماضي، مثل: سهولة تكوين ثروات من الهواء، الشهرة عن طريق فيديو مُصور، أو النجاح المُفاجئ لأشخاص لا يمتلكون أية موهبة.
في الماضي، كان النجاح يحتاج إلى البحث عن برامج المواهب على التلفاز، أو المسابقات الضخمة التي تُنظم اختبارات لكل شخص يمتلك موهبة في أي مجال يُذكر؛ الآن باتت الأمور أسهل وأسرع والحكم هو الجمهور، الجمهور الذي يجلس في منزله ويشاهدك ويتفاعل معك بالسلب أو الإيجاب.
هذا الوضع، أنجب لنا مجموعة كبيرة اسمها "البلوجر والمؤثر"، وهُم مجموعة من الأشخاص العاديين، الذين وجدوا أنفسهم يحصدون ملايين المشاهدات على كل فيديو، وتحولت المشاهدات إلى أموال تُترجم في حساباتهم البنكية، وانقسموا فيما بينهم إلى أحزاب: بعضهم من خلفيات ثقافية مصرية شعبية للغاية، وبعضهم من خلفيات ثقافية جيدة، وحدث الصراع الطبقي، بين من يمتلكون أشياء حديثة العهد عليهم فقدموها وفقاً لما عاشوه طوال حياتهم، وبعضهم كان لديه دراية بها، ويعرف كيف يستثمرها لكي يكسب من ورائها ما لن يكسبه لو عمل طوال حياته كذلك.
بعضهم، كان يشتري متابعين وهميين من شركات تُساعد من يحتاج إلى هذا الأمر وأمواله جاهزة؛ لكي يُقدم نفسه للشركات التي ترغب في توقيع عقود شراكة معه بناءً على قاعدته الجماهيرية الضخمة الموضحة عبر عدد متابعيه، والبعض الآخر لم يكن يمتلك أية موهبة، فقرر أن يتحول إلى شخص مُنتقد ليل نهار، فيرقص ويغني ويتفنن في استفزاز الناس بكل الطرق؛ لكي تزيد شعبيته، وبالتالي تزيد أرباحه.
ومنهم من عرض أهل بيته للعامة، فأصبح يستعرض زوجته وأبناءه ويستغلهم أبشع استغلال، في سبيل أن تزيد مشاهدات ما يُقدم، ويكسب من المال ما يجعل غروره بما يفعل يزداد، ويزيد استغلاله لأهله أكثر وأكثر.
لم يكتفِ هؤلاء بالنجاح المُزيف، والشهرة المغلوطة، والأموال التي لم يتعبوا أبداً لكسبها، بل تحولوا إلى آلهة في نظر الأجيال الأصغر سناً، التي كبرت بدورها والهاتف المحمول في يدها بلا رقيب، وانغمست في هذا العالم الافتراضي كما تغوص قطعة معدنية في الماء.
وأظن أن الأمور واضحة تماماً مع من يُحاولون التقاط الصور معهم، أو يتابعونهم بشدة، ويُحاولون الاقتداء بهم؛ هم الفئة التي لم تخرج للدنيا بعد، وتعتقد أن المال يسقط من السماء، والشهرة تُنجز بفعل أي شيء سخيف ليس له أي وزن!
وأصبح من الصعب إقناع الأجيال الأصغر سناً بأن النجاح لا يأتي هكذا، وأن السعي ليس متعلقاً بأن يبيع الإنسان كرامته وأخلاقه نظير أي مال يدخل جيبه، وأصبحنا نعتبر أننا عِشنا عصرين: عصر ما قبل القوة الضاربة لمواقع التواصل الاجتماعي، وعصر ما بعد القوة الضاربة لمواقع التواصل الاجتماعي.
العصر الأول، هو عصر الأشخاص العاديين، الذين هُم نحن ومن سبقونا، والعصر الثاني، هو عصر الأشخاص الافتراضيين، من البلوجرز والمؤثرين.
ولا يمر شهر في مصر أو أية دولة عربية دون أن يفعل أحدهم شيئاً يُثير الجدل، وتُسلط الأضواء عليه أكثر وأكثر؛ فتزيد شعبيته في عشية وضحاها، وتتضخم أرقام متابعيه وحساباته البنكية من فِعلته!
هناك مبدأ يُسمى بـ"There is no bad publicity" أي لا توجد دعاية سيئة، الدعاية تبقى دعاية، بسلبياتها وإيجابياتها، وأعتقد أن الغالبية العظمى من المشاهير يفعلون أشياء تبدو غبية في لحظات صفاء المجتمع، لكي يتحدث الناس عنهم، وهي الفكرة المتداولة والرائجة لدى البلوجرز تحديداً.
والمشكلة لم تعد في زيفهم ولا كذبهم فحسب، بل أصبحوا يُرسخون مفاهيم جديدة على مجتمعاتنا وديننا، مثل: العلاقات المُحرمة شرعاً، بل طريقة طلب الزواج التي هي تقليد أعمى للطريقة الغربية في الزواج، فتجد الواحد منهم يجثو على ركبته ممسكاً في يده خاتماً لطلب الزواج من صديقته التي ارتبط بها لسنوات!
هذا، وأهلها ليسوا على علم بما يحدث، واخترع هؤلاء مبادئ مستحدثة على المجتمع الشرقي لمجرد أن يُصبحوا غربيين أكثر من الغرب، ويُقلدون الغرب في كل شيء، حتى وإن تنافت أفعالهم مع ما أمر به الدين، وما أوصانا به الرسول ﷺ!
والمشكلة ليست في التقليد فحسب، بل المشكلة مشكلة ثقافة، فالغرب لا يتزوجون بتلك السهولة، لذا يعيشون في حياة عادية يمكن الانفصال عنها في أية لحظة حتى وإن كان هناك أبناء، فنجد فكرة طلب الزواج لديهم تكون مُفاجئة وصادمة للمرأة حقاً، ويُقررها الرجل بعد مدة طويلة وبعد دراسة للأمر، لكننا نعيش في مجتمع يُقدم الزواج على العلاقات المُحرمة، فنجد أن تقليدهم أقرب للمسخ منه إلى التقليد فعلاً.
والرجل، هو من يدخل البيوت من أبوابها، الرجل لا يجثو على ركبته لطلب الزواج، بل يجلس معتزاً بماله ونسبه، عارضاً الأمر على أهل العروس ومن يملكون حق الموافقة أو الرفض.
الضحايا بكل تأكيد هُم من يشاهدون ولا يستطيعون تقليد ما يفعله هؤلاء، الضحايا هُم من أنهكهم يومهم الثقيل بطلب الرزق بروتينه الطبيعي، وهي أمور تُفرض عليهم، حتى وإن لم يبحثوا عنها، سيجدونها في كل مكان طبقاً "للتريند" الذي ينتشر بسرعة البرق في كل مكان، وعلى معظم الصفحات، وبين مختلف الأعمار والأذواق، بين من يُوافق هذا الفعل، ومن يُعارضه، ومن يستخدمه لمصالحه الشخصية هو أيضاً بالسخرية منه، وفي النهاية المستفيد واحد، وهو من قام بالفعل نفسه وأثار كل هذا الجدل.
وفي الوقت الحالي، يمكنك أن تلمس حقيقة أن الثراء الفاحش، وحياة الترف التي يعيشها هؤلاء أثرت سلباً على فئة لا يُستهان بها من الناس، في العلاقات، وفي الزواج، وفي المظاهر المستحدثة التي باتت تولد من العدم، أو لنقُل إنها وُلدت على أيديهم فعلاً، وأصبح البعض ينسخها عنهم ويُقلدها تقليداً أعمى هو الآخر.
أعتقد أن هؤلاء هُم على رأس كل الأسباب التي أدت إلى عدم رضا الناس عن حياتهم العادية، بتحويل مناسباتهم، كبيرها وصغيرها، إلى مناسبات رسمية لا بد من أن توجد بها كاميرا، ويبدأ كل شخص في تمثيل دوره على أكمل وجه، مع إتقانه إلى درجة الإجادة وإقناع المُشاهد بأنه أفضل منه، ويمتلك ما لن يمتلكه مهما فعل.
والحقيقة، الحقيقة التي لا تحمل شكاً أبداً؛ أن المال لا يأتي من الهواء، بل يأتي بالسعي والعرق، والأهل ليسوا سبيلاً يراه ويراقبه الناس والعامة في كل مكان في العالم، والزواج أصله الإشهار ودخول البيوت من أبوابها، والتفاوض عليه، وتعزيز الرجل والمرأة بهذا الفعل.
لكل زمان فتنة، وفتنة عصرنا الحالي هي هؤلاء وأفعالهم…
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.