﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِين يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْت أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَلِك يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾، صغيراً كنتُ حين اقتادني قدماي لأحشر نفسي بين جموع المصلين الذين احتشدوا يوم الجمعة لسماع قراءة الشيخ عبد الحميد صيد -رحمه الله- يوم الجمعة في مسجد وسط البلد.
كنا تقريباً في منتصف السبعينات وقتها، ولم تكن موجة الهجوم على قراءة القرآن والجهر بالأذان في الميكروفونات ما بين تيار السلفية الوهابية الذي يعتبرها بدعة، وبين تيار العلمانية الذي يهاجمها بحجة انتهاك حقوق المرضى وشركاء الوطن؛ قد ازداد سعارها، وبالطبع لم يثر انتباهي أي من التيارين المتماثلين، ولكن الغريب أنني سألت نفسي سؤالاً لم أعتقد أنني سأجد له إجابة اليوم: (هل المستقبل يمكن أن يؤثر في الماضي؟).
كان مبعث السؤال هو قصة الخضر -عليه السلام- أو الرجل الصالح الذي أمر الله -تعالى- موسى أن يصاحبه، ذلك الغموض الذي يلف مجرد عبد صالح يلاحقه موسى ويلتقيه في مكان غامض عند مَجمع البحرين، كنت أبحث على الخريطة عن المكان فلا أعرفه، فالآيات حددت لنا المكان ولم تحدده، وحددت لنا الزمان ولم تحدده، فالزمان والمكان في القصة لا قيمة لهما، حتى لحظة ظهور موسى -عليه السلام- في القصة واتجاهه للقاء جاء مفاجئاً، فبعد آيات تتحدث عن أسباب هلاك القرى، جاء قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً).
كبرتُ وكنت كلما قرأت سورة الكهف تزداد الأسئلة وتزداد الحيرة لديَّ، فاللقاء بين عبدين من عباد الله، أحدهما نبي والآخر ذُكر كعبد صالح لديه علم رباني، هناك تشابه إذاً بين العبدين، تشابه في خدمة الله، وكلاهما تلقى علمه من الله، لكن بينهما فارق ما في المكان والزمان، وتلاقيا في لحظة ما ومكان ما غير معروفين.
من البداية يخبرنا العبد الصالح بأن قربهما غير مطلوب من الأصل (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)، ولكنَّ أحدهما يعمل على المستقبل، والآخر يعيش يعمل في الحاضر، فموسى بالنسبة للخضر ماضٍ، والخضر بالنسبة لموسى مستقبل لم يرَه، وكلاهما يعمل على حاضر تشاركا فيه بأمر إلهي.
تلك القناعة التي وصلت إليها بالنسبة لموسى والخضر- عليهما السلام- كانت منقوصة، فالزمان يمضي وفق ما جربناه وعشناه في اتجاه أحادي، فهو يأتي من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، فنحن نعيش أمس واليوم وغداً.
كنت أعلل حيرتي بشأن تحكم المستقبل في الماضي وتعديل الماضي وفق قصة الخضر أن الخضر -عليه السلام- ما هو إلا مظهر القدر الإلهي الذي أراد الله -عز وجل- بتجسيمه في صورة إنسان "عبد صالح" يحمل علماً غير متاح لأحد غيره لمعرفة مستقبل البشر، فالقدر هو ما لم يقع بعد ولكنه سيقع، السفينة خُرقت حتى لا يأخذها الملك الفاسد، والطفل قُتل حتى ينجو أبواه من الكفر، والجدار أُقيم ليحتفظ بكنز الولدين.
إذاً المستقبل يتحكم في الماضي فعلياً وليس العكس، وهنا كانت دهشتي، حين درست ميكانيكا الكم في الجامعة، واكتشفت أنها تقترب من إثبات نفس الأمر، وهنا يجب أن أعتذر للسيد "ماكس بلانك" منظِّر نظرية الكم، فقد كنت أراه ملحداً، كنت أتبنى دوماً مقولة "أينشتاين" لدحض نظرية الكم "أن الله لا يلعب النرد".
نظرية الكم الميكانيكية ظاهرها الاحتمالية أكثر من حتمية الوقوع، ولكن ما إن ظهرت نظرية السببية الرجعية، والتي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن المستقبل هو من يشكل الماضي، حتى رنت بأذني مقولة العالم "نيلز بور لأينشتاين": "عليك أن تتوقف عن أخبار الله بما يجب أن يفعله".
ما هي السببية الرجعية؟
السببية الرجعية قلبت موازين الزمن بالنسبة للجسيمات الدقيقة، بمعنى أنك إذا رصدت سلوك هذه الجسيمات أثناء حدوثها في الماضي أو الحاضر أو المستقبل فستحصل على نفس النتيجة، الأمر الذي نقض تماماً القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، والذي يرى أن الفوضى تزيد في أي نظام فيزيائي مع مرور الوقت.
فقد طرح علماء ميكانيكا الكم نفس السؤال الذي طرأ على ذهني صغيراً، ولكن بصورة أعمق: هل الزمن مجرد وهَم وهل الماضي والحاضر والمستقبل تحدث في نفس الوقت؟ هذا السؤال أجابت عنه السببية الرجعية بتجارب عدة، بعدما اكتشف العلماء ظاهرة التشابك الكمي، فعلى المستوى الذري هناك سلوك مميز يربط بين الجسيمات الذرية المتشابكة كمياً، فأي حدث يطرأ على جسيم متشابك مع آخر يؤدي لتعديل سلوك
الجسيم الآخر في نفس اللحظة، بغض النظر عن المسافة الفاصلة بينهما، فالمسافات في هذه الحالة لا قيمة لها، والحدث هنا في اللازمان.
علماء الكمّ فسروا ما يحدث في ظاهرة التشابك الكمي باعتباره حدثاً يتم بسرعة أعلى من سرعة الضوء التي اكتشفها "أينشتاين"، بينما رفض "أينشتاين" الفكرة، واعتبر أن الظاهرة ترجع للمعلومات المخزنة داخل كل جزيء في بداية تكوينه، وأن الجسيمات المتشابكة لديها إليه للاطلاع على هذا التخزين؛ مما يجعلها في حالة تبادل للمعلومات.
بعيداً عن التعقيدات العلمية، فقد أثبتت نظرية الرجعية السببية أن الزمن ليس أحادي الاتجاه وأن المستقبل يمكن أن يشكل الماضي، بل هو المؤثر الأساسي على الماضي، وكانت أهم تجربة أجراها العلماء في هذا الاتجاه حين قاموا بتقسيم شعاع إلكتروني وجعله يتحرك في مسارين؛ الأول مسار قصير بدون شاشة رصد، والثاني في مسار طوله 6 أميال في نهايته شاشة للرصد.
وفقاً للتجربة، تحول الشعاع الأول عند استقباله في بادئ الأمر إلى مجموعة خطوط منفصلة، بينما المسار التالي للشعاع ظهر على شاشة الرصد على هيئة خطين، الغريب أن الشعاع الأول في لحظة رصد الشعاع المنقسم منه عدّل نفسه مباشرة ليصبح مماثلاً للمسار الثاني.
الخضر رجل اللازمان واللامكان
نعم سيد "أينشتاين" إن الله لا يلعب النرد، ولكن أحداً لا يملي عليه ما يجب فعله، لذلك علمنا عن طريق "الخضر-القدر" أن سلوك الماضي هو انعكاس صورة المستقبل، وأن المرء ليعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فالتشابك الكمي بين المرء ومستقبله هو ما يفسر متغيرات سلوكه التي تدهشنا أحياناً من النقيض للنقيض.
إن العبد الصالح المنسوب إلى الله يظهر بلا اسم فسميناه "الخضر"، ويظهر في اللازمان واللامكان، ليعدل ماضي حدث في المستقبل، ولكن السؤال الذي حيَّرني، رغم كل هذا، لماذا لم يكن موسى هو نفسه العبد الصالح؟ ولم تطل الإجابة هذه المرة، فموسى رجل شريعة يسير في المسار الظاهري للزمن يؤطّر لنا قوانين الحركة الآنية، أما "الخضر-القدر" فهو رجل الحقيقة التي لن نستطيع معها صبراً.
إذاً فالله -تعالى- قدَّر لكل شيء مستقبلاً يتحكم في تصرفاته التي ستصبح من الماضي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.