ليلة الإثنين، السادس من فبراير، شعرت بضيق شديد لا أعلم سببه، ولم أستطع النوم ليلتها جيداً، كانت أحلامي مفزعة، شعرت أني أهتز وسريري يتأرجح، ولكني قلت ربما هي أضغاث أحلام تراودني بسبب الأرق، وما إن استيقظت فجر الإثنين حتى وجدت تلك الأضغاث واقعاً يعاش! كعادتي السيئة كل يوم حينما أستيقظ ألتقط هاتفي، أعبث بمحرك البحث كي أستطيع أن أستيقظ بشكل جيد، وما إن فعلت حتى قفزت فَزِعة من خبر ترافقه صور ومشاهد يُقال فيها إن زلزالاً ضرب جنوب تركيا وشمالي سوريا، غير أنه عَبَر القارة ليصل إلى مصر ولبنان والأردن، الجنوب التركي لدي أصدقاء كثر به، يا الله لطفك ورحمتك!
هرعت للاتصال برفقائي الذين يقطنون بغازي عنتاب لأجدهم في الشوارع وأماكن التجمعات، وأن سكنهم قد تصدّع من الزلزال، حاولت طمأنتهم ومواساتهم، ولا أعلم كيف فالمشهد مروع! انتقلت لهاتاي حيث لدي صديقة سورية هناك، حاولت الاتصال بها مراراً وتكراراً، غير أن كل المحاولات باءت بالفشل، ولم أستطع الوصول إليها والاطمئنان عليها، وانتقلت بعدها لمدينة أورفا، لدي هناك صديقة تركية، حاولت أيضاً الوصول إليها غير أن الرسالة الصوتية أجابتني بأنه لا يمكن الوصول إليها، بمرسين هناك صديقة أخرى، أخبرتنا أنها تحت الأنقاض، وتطلب الدعم، ومن ثم انقطع الاتصال قبل أن ترسل موقعها! صديقة تركية أخرى بعنتاب، حينما حاولت تفقّد أحوالها أخبرتني بأنها فقدت كل أفراد أسرتها!
عقلي سيجن، المشاهد التي أراها عبر الأخبار تُنبئني بأنه يوم القيامة، الأرض متصدعة بشكل مرعب، الناس يهرولون فزعاً، آخرون حول الأنقاض ينتحبون وينبشون التراب بحثاً عن ذويهم، صراخ وهلع في كل مكان، المدن باتت آمنة لكنها أصبحت مدمرة، وكأنها خاضت حروباً عاتية ضد مستعمر لا يرحم.
أعيش بعيداً عن مكان الزلزال، غير أني أسمع أصوات سيارات الإسعاف والإطفاء لا تنتهي، تلفت أعصابي من الصوت الذي يأتيني من الخارج، حيث يوجد بجواري مشفى تهرع إليه السيارات التي سترسل لنجدة المدن المنكوبة!
عقلي لا يصدق، ولا أستطيع استيعاب ما يحدث، الأمر أكبر بكثير من قدرتي على فهمه أو استيعابه، وتختلجني الكثير من المشاعر المتضاربة، أود البكاء والنحيب، الجري فَزَعاً مثلهم، غير أني من الأشخاص الذين يأخذون الصدمة بصمت ويكتمونها داخلهم، وتظهر بشكل مرضي في أجسادهم، وهو ما حدث، فما لبث وقت قليل حتى ارتفعت حرارتي وأصابتني قشعريرة في جسدي، وصرت لا أقوى على الحراك، ولكني لا أستطيع التوقف عن متابعة الأخبار والاتصال كل ربع ساعة للاطمئنان على الناجين من أصدقائي، والبحث عن المفقودين، وقلبي يعتصر حزناً على من توفي، حقاً هناك تضارب كبير وازدحام هائل بمشاعري، والأحداث تذكرني بأحداث مشابهة عشتها من قبل، أريد لعقلي أن يهدأ ويتوقف عن ربط الأحداث ولو قليلاً فقط، أرجوك لا تذكرني بها، الآن ليس الوقت المناسب فهناك فاجعة كبيرة، ولكن بلا جدوى!
كان الزلزال مدمراً حدّ أنه وصل إلينا في مدينة أنقرة، لكن شدته كانت متوسطة، ومع ذلك هرعنا خوفاً ورعباً، المبنى يهتز بكامل طوابقه، الجميع يهرول فزعاً على السلم، تم إخلاء كل المباني، الجميع ينزل للطابق الأرضي، أتواصل بأصدقائي في المدينة لأجد الجميع إما بالشارع أو في الطابق الأرضي، وبعد أن هدأ الأمر قليلاً صار كل منا يعد حقيبة الطوارئ، صارت حقيبتي العادية التي كنت أذهب بها لجامعتي حقيبة الطوارئ، وضعت بها مستلزمات طبية وبعض الأكل المجفف وأوراقي الهامة.
كانت الاتصالات تتوالى عليّ من مختلف المدن التركية، ففي كل مدينة لدينا أصدقاء ومعارف، الكل يتفقد الحال ويرى من لا يزال حياً، إضافة لأهلي بمصر، الذين كاد القلق يفتك بهم، غير أنهم يحاولون التماسك، وكدت أنفجر أنا باكية، وودتُ لو ارتميتُ بحضن أمي وبكيتُ واختبأت فيه، غير أن بيننا قارات وبحاراً وقيامة صغرى تحدث، لم أرتوِ من حضنك أمي.
في هذا النهار العصيب الذي لم تمر ساعاته بسرعة البرق كما كان يحدث دائماً كل يوم في تركيا، وكنت أشتكي من عدم كفاية النهار فيها لإنجاز مهامي، كان نهاراً، بل عمراً طويلاً لا تهدأ زلزلته ودماره وأخباره، كنت أرتجف خوفاً ورعباً وقلقاً ووحدة وفزعاً، وأحاول التماسك، أود البكاء ولا أجد له سبيلاً، كدتُ أُجن فمازلت لا أستطع الوصول لكثير من رفقائي، وفي وسط كل هذه الجلية نصاب بهزة أرضية جديدة في أنقرة تتبع سابقتها، تنهال الأفكار لعقلي، يا الله هل هي القيامة حقاً؟ هل انتهى العالم هكذا؟ كيف سألقاك؟ هل ستعفو عني؟ لم أرَ أهلي منذ عام ونصف العام! القيامة حقاً… كل شيء حولي، كل المشاهد التي أراها هي نفسها التي صوّرها القرآن عن أهوال يوم القيامة! رُجّت الأرض رجاً، زُلزلت الأرضُ زلزالها، وأخرجت أثقالها، ونحن نتساءل الآن ما لها؟ أجل هي القيامة… عقلي، يا االله أرحمنا وألطف بنا.
كل تلك الأفكار والمشاعر لم تهدأ ببالي حتى هذه اللحظة التي أكتب بها المقال، مازالت غير مصدقة أن هناك حياة طبيعية مستقرة سنكملها، الحدث أكبر من أن تسرده كلماتي وتصفه مشاعري، الأمر أكبر بكثير من ذلك، حتى أشد أفلام السينما رعباً لا تكاد تضاهي هذا الرعب الذي شهده العالم متجمّعاً في تركيا وشمالي سوريا!
سوريا! سوريا الجرح الذي لا يلتئم، أتساءل إن كان يا رب هذا غضباً وعتاباً لنا فكيف بأهل سوريا الذين ذاقوا العذاب ألواناً في الدنيا، وما إن وجدوا مكاناً يؤويهم وسكناً يحتويهم حتى لفظتهم الأرض من جديد، هل هو غضب أيضاً نالهم! قررت أن أترك التفكير في ذلك الأمر، وأوكله لحكمة الله المدبر للأمر.
ذهبت ذاك اليوم للمشفى، فمنذ فترة لا أستطيع التنفس جيداً، وازداد الأمر صعوبة في ذاك اليوم، الشوارع حزينة، والناس كأنهم في مآتم، وناجون من الحروب، كل شيء يبكي في صمت، غير أن الجميع يهرول للمساعدة ومد يد العون بما يستطيع للمدن المتضررة، الجميع تكاتف كالبنيان المرصوص، والجسد الواحد يشد بعضه بعضاً، لا فرق الآن بين سوري وتركي وكردي، لا مكان للعرق ولا اللون أو الدين واللغة، الإنسانية تسود وتقود المشهد.
انتهى اليوم، ولم أتوقف عن متابعة الأخبار، هزات جديدة تتوالى بعد سابقاتها، وعقلي يكاد يُجن، لم أشهد مثل ذلك في حياتي أبداً، كيف وهو الأول من نوعه في العالم كله، تركيا القوية التي تتوالى عليها الأزمات وتقف صامدة، سوريا التي لا يلتئم جرحها أبداً، يا رب ونحن عشنا من قبل ما تنخلع له القلوب، كيف لعقلي أن يفهم كل هذا، كيف لقلبي أن يتحمل، قلبي الذي أشعر بغصة شديدة فيه وأن جزءاً كبيراً منه مات ألماً وكمداً!
كان لدي بعض الطلاب الأتراك الذين أساعدهم في تعلم اللغة العربية عبر الإنترنت، وصادف موعد الدرس يوم الزلزال المروع هذا، نسيت الموعد حتى ذكرتني طالبتي، وحينما بدأت الدرس صمتنا جميعاً لدقائق، لم نعرف من سيبدأ الكلام، وماذا سنقول؟ الجميع يخيم على وجهه الحزن، ولا تقوى الشفاه على التلفظ بكلمة، حتى صار لا بد من أداء الواجب، بدأنا نطمئن على الحال، وكيف مر اليوم عليهم، وهل جميع الأهل بخير، كانت طالبتي تنفطر ألماً وحزناً لأن رفيقتها بالصف في مدينة هاتاي نجت من الزلزال، غير أنها لم تنجُ من البرد وظلمة الليل والجوع والعطش، وهي تعجز عن تقديم العون لها! لم أنم تلك الليلة، أتنفس بصعوبة، لكني غفوت قليلاً وكانت أتعس لحظاتي، لم أعرف أكانت غفوة أم عذاباً آخر بثته لي أحلامي، فقررت أن أكمل متابعة رفقائي، ومواساة المصاب، والبحث عن الفقيد، ومساعدة الناجي للوصول لمكان آمن.
صباح اليوم التالي، استطعت الاطمئنان على بعض أصدقائي الذين كانوا تحت الأنقاض، أو الذين لم أستطع الاطمئنان عليهم سابقاً، الزلزال لم يهدأ، الأرض غاضبة كثيراً جداً هذه المرة، عائلتي لم توقف الاتصالات، وكذلك كل رفقائي القريب منهم والبعيد. ومن المضحك المبكي أني قبلها بيوم كنت أفكر لو أني مت الآن هل سيتذكرني رفقائي، فالجميع بات مشغولاً جداً في هذه الدنيا القاسية، هل تركت لهم أثراً يذكرونني به؟ أراد الله أن يعطيني الجواب، ولكن التوقيت كان مؤلماً كثيراً.
حقيبتي جاهزة، وكذلك أنا بتّ ليلتي مستيقظة بملابس الخروج، لكي أستطيع الركض في أي لحظة، كم هو شعور صعب أن تظل منتظراً أن يأتيك الدور، مترقباً ما سيحدث، وهل ستستطيع النجاة حقاً؟ لقد رأيتُ ما حدث، بات الناس آمنين، غير أن الحدث يأتي غفلة وفجاءة، تُرى ما شعورهم، أن تنام وتستيقظ تحت حطام البيت، أو لا تستيقظ! أن تموت فَزِعاً! كيف لمن نجا أن يكمل حياته، بل أنا التي لم أكن هناك لا أعلم كيف لو كان لحياتي بقية كيف لي أن أكملها؟!
أجل، لم أكن بالزلزال، لكني تزلزلتُ، لم يُهدم بيتي، بل هُدمت أنا، لم أركض خوفاً وهلعاً، لكني مُزقت من الرعب وقتلني القلق، أشعر بنزيف داخلي دون أن أرى نقطة دماء واحدة، قيامة صغرى، لكن الحساب لم يحِن بعد، الزلزال لم يكن بجنوبي تركيا وشمالي سوريا، بل كان بقلبي، مشاعر تفضح حقيقتنا البشرية، في بيتي لكني لست آمنة، ما أضعف الإنسان وما أقوى الله!
لا أعلم كيف سنتعافى من هذا الحدث، نحن لم نتعافَ بعدُ من سابقيه، وهل لدينا الوقت للتعافي والحياة الطبيعية التي كان يُحكى لنا عنها، وعن زهرة الشباب التي يجب أن نقضيها، لا أعلم كيف لمن شهد هذا الفزع في الدنيا أن تستمر حياته!
كل ما أعلمه الآن هو أنني أحتاج لأمي، وحضن أمي، الآن.. أسأل الله أن يثبت عقولنا التي تكاد من فرط التفكير وهول الموقف أن تجن، وأن يعفو عنا ويؤمننا من الفزع الأكبر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.